هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
المؤرخ والمفكر التونسي الراحل هشام جعيط أسس "مدرسة التنوير العربية" وهو في مرتبة عبد الرحمان بن خلدون والمصلح الكبير خير الدين باشا الونسي العثماني وعبد الله العروي وميشيل فوكو..
وهشام جعيط لم يمت ولن يموت.. وبالرغم من مرور حوالي عامين على وفاته "فهو جالس بيننا" في هذا المؤتمر العلمي العربي الذي يعقد تكريما له ولفكره ودراساته التأسيسية لمقاربات ورؤى نفذت إلى ملفات سياسية دينية فلسفية خطيرة قديمة جديدة من بينها التحديث ودولة المؤسسات والعقلانية والتفكير في الدين والسيرة النبوية ومميزات الشخصية العربية الإسلامية ومناهج قراءة غير أيديولوجية للتاريخ مع نقد ما كتبه أبرز "المستشرقين" و"المستغربين" بهدف فهم الواقع والتأثير فيه وفي المستقبل..
هشام جعيط
هكذا قيم نخبة من كبار الباحثين العرب في التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع في ملتقى أكاديمي بتونس نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات ومركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بتونس ومخبر تاريخ الاقتصاد المتوسطي، يومي 14 و15 آذار (مارس) الجاري بتونس، حصيلة عقود من جدل هشام جعيط عبر مؤلفاته ومشاركاته في وسائل الإعلام مع كبار السياسيين و"المستشرقين" و"المستغربين" و"التبسيطيين" الذين خاضوا وفق منهجيات "أيديولوجية" أو "استعمارية" وسياسية ظرفية في التاريخ الإسلامي وسيناريوهات الإصلاح والتغيير والتجديد حاضرا ومستقبلا..
وقد نوهت أغلب الأوراق والمداخلات بينها مداخلة المؤرخة التونسية سلوى بالحاج صالح بعمق أبحاث هشام جعيط في دراسة الوثائق والمصادر وكتب السيرة منذ بدء مسيرته إلى كتابه الذي نشره قبل وفاته تحت عنوان "التفكير في التاريخ التفكير في الدين".
"مستقبل الشخصية العربية الإسلامية"
واعتبر عدد من الباحثين بينهم عالم الاجتماع المهدي مبروك والمؤرخ عبد الحميد هنية أن من أبرز نقاط القوة في مؤلفات هشام جعيط منذ شبابه تقديم "قراءات تأليفية" أفرزت دراسات مفكر جمع بين التخصص في الفلسفة والتاريخ بدءا من كتابيه الصادرين قبل أكثر من أربعين عاما: عن "الشخصية العربية الإسلامية والمستقبل" وعلاقات التكامل والصراع والصدام ثقافيا وسياسيا واستراتيجيا بين "أوروبا والإسلام" أو بين "الدول الغربية والعالم العربي الإسلامي".. فضلا عن دراسته لـ "الفتنة الكبرى"...
وتوقف المشاركون في هذا الملتقى عند حرص هشام جعيط على الدفع نحو التحرر الوطني والإصلاح السياسي والتحديث وبناء دولة المؤسسات مع التأكيد على "الاستمرارية" وتجنب الدعوات إلى "القطيعة الابستمولوجية" مع التراث التي كان يبشر بها كثير من رواد التجديد والإصلاح المتأثرين بكتابات بعض الفلاسفة والكتاب "المستشرقين" و"المستغربين"..
التأسيس لأنوار عربية
في نفس السياق دعا كمال عبد اللطيف، أستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر المغربي، في ورقة عنوانها "هشام جعيّط والتأسيس لأنوار عربية" إلى التعمق في البحث عن جوانب من كيفيات إسهام المفكر والمؤرخ هشام جعيّط في "التأسيس لأنوار عربية".
وسجل الفيلسوف المغربي "انحياز هشام جعيط المعلن إلى خيارات الأنوار والتنوير" في حاضر الدول والمجتمعات العربية والإسلامية وتوفيقه بين دراسة الماضي وتفسير المتغيرات حاضرا واستشراف المستقبل ومحاولة توظيف الدراسات التاريخية والفكرية للتأثير فيه.
وبرر كمال عبد اللطيف استنتاجاته بما لمسه في مؤلفات هشام جعيط من عمق فكري ومعرفي ونقدَه للغرب وللمركزية الثقافية الغربية ضمن رؤية كانت أولويتها الدفاع بقوة عن الحداثة والتنوير وعن المدنية وعن المؤسسات التي برزت في المدينة العربية الإسلامية مبكرا واهتم بها في رسالة الدكتوراه التي أعدها عن "الكوفة" والمدينة والتحضر في المجتمعات العربية القديمة.
آخر حلم في مسيرة جعيط
وتوقف الملتقى عند نجاح هشام جعيط في إنجاز "آخر حلم" راوده في الأعوام الأخيرة من حياته وهو على فراش مرض الموت، أي إنجاز "الكتاب الأخير". وقد صدر هذا الكتاب فعلا قبل أسابيع من وفاته تحت عنوان "التفكير في التاريخ، التفكير في الدين".
حول هذا المحور قدمت المؤرخة سلوى بالحاج صالح تلميذة هشام جعيط ورقة بحثية معمقة تحت عنوان "الدين والديني لدى هشام جعيّط من خلال كتابه "التفكير في التاريخ، التفكير في الدين".
واعتبرت سلوى بالحاج صالح أن "الدين والديني" يمثلان إشكاليتين أساسيتين من ضمن الإشكاليات المهمّة التي درسها هشام جعيط في كتابه بعد دراسة معمقة وقراءات متأنية للمصادر القديمة، وبينها كتب السيرة والمؤرخين والرحالة، ثم للدراسات التي نشرها مسشترقون بارزون وبينهم نخبة من كبار المستشرقين الألمان والانجليز والأمريكيين.
وفي هذا السياق، اهتمّت الباحثة خصوصًا بـ"المنهج الصارم" الذي اتّبعه جعيّط في تناول نشأة الأديان وانشغاله بدور الدين في التاريخ عموما وفي تاريخ العالم العربي الإسلامي خاصة.
التجديد في كتابة التاريخ
وفي سياق ما عرف به هشام جعيط منذ السبعينات في القرن الماضي من تمرد على المدارس التاريخية "الأيديولوجية" وبينها بعض المدارس الماركسية والغربية "المثالية"، التي كان يصفها بالسطحية، توقف المشاركون في الملتقى عند جوانب التجديد في منهج جعيط العلمي وكتاباته الفكرية الفلسفية والتاريخية.
وقدمت الأكاديمية التونسية بثينة بن حسين لهذا البعد من خلال ورقة عنوانها "هشام جعيّط والتجديد في الفكر التاريخي من خلال السيرة النبوية"، اهتمت فيها بمساهمة جعيّط في تجديد الفكر التاريخي من خلال الجزء الثالث من كتابه: "في السيرة النبوية" الذي كان تحت عنوان: "مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام".
وأوضحت الباحثة أن جعيط درس في هذا الكتاب "المجهود السياسي والديني للرسول محمد الذي هدفَ إلى توسيع رقعة الإسلام في خارج "المدينة" وتأسيس "نواة دولة" و"إدخال العرب في التاريخ العالمي بعد أن كانوا مهمّشين في فترة الجاهلية"". وبيّنت الباحثة أن جعيّط تمكّن من استنطاق المصادر، خاصّةً القرآن بوصفه مصدرًا أوّليًّا.
وكان تركيز هشام جعيط على "النص القرآني" في نظر الباحثة بثينة بن حسين "أمرًا ثوريًّا إلى حدّ بعيد"، مقارنةً بالمؤرّخين العرب الذين رفضوا الرجوع إلى النصّ المقدّس من منطلق أنّ "دراسة التاريخ ليست دراسة لاهوتية".
فهم "السيرة النبوية" و"الإسلام المبكر"
واهتم الملتقى بتعمق هشام جعيط في دراسة المصادر التاريخية وكتب السير التي مكنته من فهم خصوصيات المجتمع العربي والجزيرة العربية قبل تأسيس أول دولة عربية إسلامية في "المدينة" وبعده.
في هذا السياق قدمت سمية الوحيشي، الباحثة المتخصصة في تاريخ الدولة العثمانية المتأخر والتاريخ التركي المعاصر، ورقة عنوانها "هشام جعيّط في ميزان "السيرة الحديثة"" ركّزت فيها على الكتابات المختلفة التي تناولت بالتحليل والنقد إنتاج جعيط في "تاريخ الإسلام المبكر"، مُلاحِظةً أنها تدرس هذا الإنتاج وتقيّمه بمعزل عمّا أنتجه الفكر العربي الحديث حول المواضيع ذاتها خلال ما يزيد عن قرنٍ.
وفي هذا الصدد، قدمت سمية الوحيشي قراءة مقارنة للدراسات حول موضوع "السيرة النبوية"، بين ما أنتجه جعيّط من جهة، وخاصة ثلاثيته في السيرة النبوية من جهة، ومختارات من محطّات مختلفة فيما أنتجه الفكر العربي الحديث من جهة أخرى.
ثمّ بحثت، من خلال أمثلة أنموذجية، عن نقاط التواصل والانفصال في منهجيات العمل والمحتوى، وحاولت، في ضوء هذه المقارنة، من خلال مَوْقعة جعيّط ضمن هذا النتاج الفكري الحديث في السيرة، أن تلقي أضواءً تقييمية جديدة على عمله.
المؤسسات في بلاد "الغرب الإسلامي"
وفي ورقة بعنوان "هشام جعيّط والتأريخ للمؤسسات ببلاد المغرب"، اهتمّ المؤرخ المغربي حسن حافظي علوي، بما كتبه هشام جعيّط حول النُّظم والمؤسسات ببلاد المغرب في القرنين الأولين للهجرة، ونوه بما وصفه بـ "دوره الرائد والمؤسس في هذا الباب". وقارن الباحث ما أنتجه جعيّط في هذا الموضوع بإنتاجات بعض المؤرخين العرب والمستشرقين. وكشفت ورقته الآراء التي تفرّد بها هذا المؤرخ في دراسته لخصائص النظم السياسية في بلدان "الغرب الإسلامي"؛ بما فيها دواوين الجند والبريد والخراج والصدقات والأعشار والطراز ودار السكة وبيت المال، ودرجة تأثر هذه الأجهزة الإدارية بالنظم الساسانية، أو البيزنطية، أو ما عرفه المشرق الإسلامي من تنظيمات إدارية من بدايات الإسلام إلى العهد العباسي الأول.
ورصد الباحث أيضًا مراحل "تحرّر النُّظم الأفريقية من آثار الموروث القديم إلى أن استوت على سوقها وصارت مؤسسات عربية بحتة في بلاد المغرب".
الاستشراق والاستغراب
وتوقف الجامعي القطري عمرو عثمان عند بعض الانتقادات التي وجهت لكتب هشام جعيط من قبل باحثين ومثقفين من المشرق العربي، وخاصة لكتبه الثلاثة عن السيرة النبوية، لا سيما ما يرتبط منها بالجوانب المنهجية في دراسة السيرة وعن محمد الإنسان والنبي.
في المقابل اهتم عدد من الباحثين بينهم المؤرخ عبد الحميد هنية وعالم الاجتماع المهدي مبروك والمؤرخة حياة عمامو باهتمام هشام جعيط بالاستشراق بوصفه تيارًا اتّخذ مواقف معيّنة من الإسلام وثقافته.
وخلافًا لما يتداوله منتقدو جعيّط، اعتبرت حياة عمامو أنّ كتابات جعيّط "لم تكُن إدانة للمستشرقين ولا تمجيدا لهم".
واعتبرت أنه تعامل معهم "بمنهج النقد العلمي الصارم، واعتمد عليهم في بعض الأفكار، ونقد كثيرًا من أفكارهم الأخرى فصوّب بعضها ورفض بعضها الآخر، من خلال فهمٍ مختلف لما ورد في المصادر والمناخ الثقافي."
لكن المؤرخ عبد الحميد هنية انتقد هشام جعيط في منهجية تعامله مع كتابات المستشرقين التي اعتبر أن هدفها كان تبرير الاستعمار الحديث. كما انتقد "المستغربين" الذين اعتبر أن هدفهم كان تبرير "غلبة الغرب ونماذجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية" وتبرير هيمنته اليوم على دول الشرق والتبعية له.
إجمالا فتح هذا الملتقى التكريمي الجديد للمؤرخ والمفكر هشام جعيط نوافذ جديدة لتقييم تراثه المعرفي والعلمي والسياسي.. وتوقع عالم الاجتماع المهدي مبروك والمؤرخ عبد الحميد هنية أن يزداد الاهتمام عربيا ودوليا بمؤلفات جعيط وأفكاره دوليا وعربيا، وأن يفوق الاهتمام بها في حياته، على غرار ما حصل مع أعلام دوليين بارزين بينهم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.