هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا لمراسلها ماكس فيشر، ترجمته"عربي21"، قال فيه إنه بينما تسقط القنابل والصواريخ الروسية على المستشفيات والمباني السكنية الأوكرانية، فإن العالم يراقب برعب ما هو بالنسبة لروسيا أمر معتاد وبشكل متزايد.
ولفت المقال إلى أن روسيا شنت هجمات مماثلة في سوريا، حيث قصفت المستشفيات والمباني المدنية الأخرى كجزء من تدخل لدعم حكومة ذلك البلد.
وذهبت موسكو إلى أبعد من ذلك في الشيشان التي سعت إلى الاستقلال عند تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991.
وخلال حربين هناك، حولت المدفعية والقوات الجوية الروسية البنايات في المدن إلى أنقاض، وقتلت قواتها البرية المدنيين في ما كان يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه حملة متعمدة لترويع السكان وإجبارهم على الخضوع في الشيشان.
الآن، يبدو أن فلاديمير بوتين، الذي كان صعوده إلى رئاسة روسيا موازيا للحروب الشيشانية وعززته من بعض النواحي، يستقي من نفس كتاب قواعد اللعبة في أوكرانيا، وإن كان ذلك حتى الآن بالتدريج فقط.
وتعكس هذه التكتيكات شيئا أكثر من مجرد القسوة وحدها. فقد ظهرت من تجارب روسيا في سلسلة من الحروب التي قادت قادتها إلى استنتاج، لأسباب استراتيجية وأيديولوجية على حد سواء، أن قصف شعوب بأكملها لم يكن مقبولا فحسب، بل إنه سليم عسكريا.
كما أنها تعكس ظروف دولة استبدادية مع عدد قليل من الحلفاء، ما يمكّن الكرملين من تجاهل وحتى احتضان الاشمئزاز من سلوكه العسكري - أو هكذا يعتقد القادة الروس.
كتب أليكسي أرباتوف، الاستراتيجي العسكري الروسي البارز والمشرع الفيدرالي في ذلك الوقت، في عام 2000، خلال الحرب الروسية الثانية في الشيشان: "يُقبل الدمار الهائل والوفيات الجانبية بين السكان المدنيين من أجل الحد من خسائرنا".
كتب أرباتوف أن "استخدام القوة هو الحل الأكثر فعالية للمشكلات، إذا تم تطبيقه بشكل حاسم وعلى نطاق واسع"، مضيفا أنه يجب "استبعاد" الاشمئزاز الدولي من الإجراءات الروسية.
لكن الخسائر البشرية الصادمة، التي لا يعتبرها أنصار هذا النهج ذات أهمية، قد تكون جزءا من سبب فشلها حتى الآن في أوكرانيا.
لم يمنع الغضب العالمي التقدم الروسي في الشيشان أو سوريا. لكنه يقود الآن العقوبات والدعم العسكري الذي يدمر الاقتصاد الروسي ويغرق غزوها في المستنقع - ما يؤكد أن طريقة موسكو في الحرب قد لا تكون براغماتية بلا رحمة كما تعتقد.
اقرأ أيضا: السوريون يحيون ذكرى مجرزة الغوطة.. والنظام يفلت من العقاب
وبطبيعة الحال، كثيرا ما تقتل الولايات المتحدة المدنيين في الحروب، بطائرات بدون طيار وغيرها من الضربات الجوية التي تتعامل فيها الولايات المتحدة مع ضحاياها على أنها تكلفة مؤسفة ولكنها مقبولة.
وعلى الرغم من اختلاف النية من وراء هذه الاستراتيجية عن روسيا، فإن التمييز قد لا يكون ذا أهمية كبيرة بالنسبة للضحايا.
خرج الجيش السوفييتي من الحرب العالمية الثانية في مهمة تتمثل في عدم السماح أبدا بغزو أجنبي للوطن مرة أخرى، حيث أصبح الجيش السوفييتي هائلا بما يكفي للوقوف على قدم وساق مقابل قوات دول الناتو مشتركة.
لكنه واجه في عام 1979 تهديدا لم يكن مناسبا له: تمرد في أفغانستان المجاورة، حيث تدخلت القوات السوفييتية في ذلك العام.
وعانى السوفييت من خسائر فادحة على أيدي المتمردين الأفغان قبل أن يعودوا إلى الوطن في هزيمة مذلة بعد عقد من الزمن.
على مدار الحرب، كان الضباط السوفييت يفضلون القوة الجوية، إضافة إلى عروض العنف على نطاق واسع.
يذكر سجل للحرب عام 1984، أنه "في الوديان المحيطة بكابول، قام الروس بسلسلة من العمليات الكبيرة التي اشتبكت بمئات الدبابات، وحشدوا وسائل مهمة، باستخدام القنابل والصواريخ والنابالم، وحتى الغاز، ودمروا كل ما في طريقهم".
ثم، في عام 1991، انهار الاتحاد السوفييتي، ومعه كثير مما كان يُعرف بالجيش السوفييتي. في ذلك العام، بدأ قادة الشيشان بتأكيد استقلال المنطقة. في عام 1994، أمرت موسكو بشن هجوم كبير لاستعادة السيطرة.
واجهت القوات الروسية مرة أخرى خسائر فادحة ضد المتمردين. أدى الحصار الذي استمر لشهور على غروزني، عاصمة الشيشان، إلى تدمير جزء كبير من المدينة وقتل الآلاف من المدنيين. ومع ذلك، فقد انسحبت القوات الروسية مهزومة عام 1996 وهو ما أضعف قبضة الكرملين المتراجعة على السلطة.
ولكن عندما شنت موسكو غزوا ثانيا، في عام 1999، قال كبير جنرالاتها إنه إذا أخطأت روسيا، فإنها "أخطأت بكونها طيبة القلب"، متعهدا بمزيد من العنف.
وأرّخت جماعات حقوق الإنسان لسلسلة من المذابح خلال الحرب. وفي بعض الحالات، أعلن الضباط الروس أن بعض القرى "مناطق آمنة"، ثم قاموا بقصفها بالقنابل الفراغية المحظورة بموجب اتفاقيات جنيف، ما أسفر عن مقتل العشرات في وقت واحد.
وحذر مرسوم عسكري رسمي من أن "كل من بقوا في غروزني سيعتبرون إرهابيين وسيتم القضاء عليهم بالمدفعية والطيران".
ورغم إلغاء البيان، فقد قصفت القوات الروسية المدينة بشكل عشوائي، وأغلقت مخارجها لمنع السكان من الفرار.
بوتين، الذي رفعه الرئيس بوريس يلتسين من شخص غير معروف تقريبا إلى منصب رئيس الوزراء في بداية الحرب، أكد نفسه كواجهة للصراع، وزار الخطوط الأمامية ودفع باتجاه التصعيد.
عندما استقال يلتسين، أصبح بوتين رئيسا بالإنابة، وهو المنصب الذي فاز به رسميا في انتخابات سيطرت عليها الحرب.
بنى رئاسته حول الصراع، وأكد السلطات الرئاسية وكبح الحقوق السياسية لأن زمن الحرب يفرض ذلك، ودافع عنه منذ ذلك الحين باعتباره انتصارا عظيما.
أدى هذا الصراع، جنبا إلى جنب مع تكيفات الجيش الروسي لأوروبا الجديدة حيث تفوقت قوات الناتو الآن على قواتها إلى حد كبير، إلى نوع جديد من العقيدة.
كتب كورابيلنيكوف، الضابط الروسي، في تقرير عام 2019: "هجوم القوات، الذي حدد في السابق نتيجة المعارك، سوف يستخدم اليوم، وأكثر من ذلك في المستقبل، فقط لإكمال هزيمة العدو".
بدلا من ذلك، ستقوم المدفعية والقوة الجوية بالكثير من العمل، ما يلحق أضرارا مدمرة من بعيد. ولكن نظرا لأن الكثير من هذه التكنولوجيا لا يزال من الحقبة السوفييتية، فقد كانت الضربات غالبا عشوائية - وهو ما تبنته موسكو على أي حال في الشيشان.
عندما دخلت القوات الروسية الحرب السورية في عام 2015، كان جيش ذلك البلد المتحالف مع موسكو يذبح بالفعل المدنيين على نطاق واسع.
وفي محاولة لتجنب مستنقع على غرار أفغانستان، فقد دمرت القوة الجوية الروسية المدن السورية من أعلى، ما عزز نموذج الشيشان.
كتب فاليري غيراسيموف، الذي أصبح الآن أعلى جنرال روسي، في عام 2016 أن القوات الروسية "تكتسب خبرة قتالية لا تقدر بثمن في سوريا"، مستخلصا دروسا قننتها موسكو في سياساتها الرسمية في العام التالي.
لم تكرر القوات الروسية على الفور هذا النهج في أوكرانيا. ولكن مع تراجع الغزو، فقد استهدفوا بشكل متزايد المناطق المدنية، لا سيما في مدن مثل ماريوبول وخاركيف اللتين كافحوا للاستيلاء عليهما.
توصلت دراسة إلى أن القادة الأقوياء مثل بوتين، لأنهم يواجهون مساءلة أقل من المواطنين وضوابط أقل على سلطتهم حتى من الأنواع الأخرى من الديكتاتوريين، يميلون إلى أن يكونوا أكثر عدوانية ويتحملون المزيد من المخاطر في الحرب.
وهذا يجعلهم أيضا أكثر قدرة على تجاهل الاشمئزاز العام من الخسائر في صفوف المدنيين، والتي وجدت الاستطلاعات أنها يمكن أن تدفع المواطنين في الديمقراطيات إلى إلغاء دعمهم للحروب الخارجية.
لروسيا أيضا عدد قليل من الحلفاء الحقيقيين، وعادة ما يكون لديهم ضبط للنفس على السلوك العسكري تجاه المدنيين الأجانب.
حتى إن بوتين كرر مقولة شهيرة قالها ألكسندر الثالث، وهو إمبراطور روسي من القرن التاسع عشر، مفادها أن الحلفاء الحقيقيين الوحيدين لروسيا هم جيشها وقواتها البحرية.
هذا لا يعني أن الديمقراطيات المتحالفة على نطاق واسع مثل الولايات المتحدة تقتل بالضرورة عددا أقل من المدنيين في الحرب.
وقد تسببت الحملات الجوية الأمريكية في العراق وأفغانستان في مقتل أعداد كبيرة من المدنيين. بموجب سياسة إدارة أوباما، شنت الولايات المتحدة ضربات بطائرات بدون طيار على مجموعات من الناس لمجرد مطابقتهم لسمات معينة وأحيانا ضربوا بالخطأ أعراسا وجنازات.
واستخدمت الولايات المتحدة أحيانا أدوات حرب عشوائية.. على سبيل المثال: إسقاط 1200 قنبلة عنقودية - من التي حظرتها أكثر دول العالم لخطرها على المدنيين - في غزوها لأفغانستان عام 2001.
وأسفرت الضربات الأمريكية على مدينة الرقة السورية، التي كانت يسيطر عليها تنظيم الدولة آنذاك، عن مقتل العشرات، في انفجار قنبلة خاطئة واحدة أودت بحياة 70 مدنيا.
ويؤكد المسؤولون الأمريكيون أنهم يبذلون قصارى جهدهم لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، الأمر الذي يعلمون أنه يثير غضب السكان المحليين الذين يأملون في كسب تأييدهم.
ومع ذلك، فقد حافظت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة على استراتيجية تركز على الضربات الجوية والطائرات بدون طيار، والتي تعرف أنها توفر احتمالية كبيرة لقتل المدنيين، وحتى التستر على الحوادث المحرجة.
قد تكون الأسئلة المتعلقة بالأخلاقية النسبية لهاتين المقاربتين - قتل المدنيين عمدا مقابل اختيار استراتيجية معروف أنها تتسبب بذلك - أكثر أهمية لمرتكبي هذه الاستراتيجيات من ضحاياهم في نهاية المطاف.
ووفقا لتقديرات عالية المستوى من قبل Airwars، وهي مجموعة غير ربحية، فقد قتلت الحملة الجوية الروسية في سوريا 6,398 مدنيا، بينما قتلت تلك التي نفذها التحالف بقيادة الولايات المتحدة في العراق 13,244 .
وعلى الرغم من تبني موسكو للوحشية في الحرب، فإن الكثير من الخسائر في حروب روسيا قد تعود إلى مسألة بسيطة تتعلق بموقع القتال: غالبا في المدن الكبيرة التي تسيطر عليها المعارضة.
طوال العصر الحديث، كان الحصار الحضري على الدوام من بين أكثر أشكال الحرب دموية. وغالبا ما يتسم بالعنف المروع ضد المدنيين حيث يسعى الغزاة إلى اقتلاع معاقل المقاومة من المناطق التي ربما لا يزال يعيش فيها ملايين الأبرياء.
ومع استمرار المقاومة المسلحة، فإنه غالبا ما يرى المحتلون أن مجموعات سكانية بأكملها تشكل تهديدات يجب قمعها.
في الحرب العالمية الثانية، دمر كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي المدن الألمانية. وأسفر القصف بالقنابل الحارقة بقيادة الولايات المتحدة على مدن ألمانية ويابانية عن مقتل مئات الآلاف.
إنه درس لا يكاد يكون غريبا على الروس، الذين تحملوا في تلك الحرب حصارا قد يكون الأكثر دموية في التاريخ الحديث.
وكتب أحد الناجين في مذكراته وسط حصار القوات النازية لليننغراد لمدة عامين، والذي قتل فيه 800 ألف مدني: "إلى أين تتجه البشرية؟.. كيف ستنتهي هذه المذبحة الأكثر وحشية؟ أسئلة مروعة".