هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يزال قولها الاستعلائي، وبلا خجل، ردا على سؤال حول وفاة
أكثر من نصف مليون طفل عراقي جراء الحصار الاقتصادي على العراق: "أعتقد أن ذلك
خيار صعب جدا، ولكن نعتقد أن الثمن مستحق"، يثير الغضب والأسى ويشير إلى شخصيتها
القاسية والصلبة.
كانت أكثر الشخصيات السياسية نفوذا في جيلها داخل أروقة البيت
الأبيض الأمريكي، وكثيرا ما قارن المطلعون على تفاصيل تلك الحقبة، نفوذها على المستوى
الدولي بدور رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر في ثمانينيات القرن الماضي.
ولدت مادلين أولبرايت في عام 1938 تحت اسم ماري آنا كوربولوفا
في مدينة براغ عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا، وكانت تعرف لدى عائلتها باسم مادلا في
البداية، وثم مادلينكا ثم منح الاسم لاحقا لمسة أمريكية فأصبحت "مادلين".
نشأت على المسيحية رغم أن والديها ولدا بالأصل يهوديين إلا
أنهما تحولا إلى المسيحية الكاثوليكية وتحولت لاحقا إلى الكنيسة الأسقفية البروتستانتية.
كان العمل الدبلوماسي ضمن تقاليد العائلة، فقد كان والدها
موظفا في الحكومة التشيكية في براغ. وبعد أن غزا النازيون البلاد عام 1939 في الحرب
العالمية الثانية، فر مع عائلته إلى لندن واستمر في العمل مع الحكومة التشيكية في المنفى
حيث عمل في هيئة الإذاعة البريطانية الموجهة للتشيك.
عاد إلى وطنه بعد انتهاء الحرب وعمل سفيرا، وأصبح فيما بعد
مندوبا للأمم المتحدة للمساعدة في التوسط بين باكستان والهند حول كشمير، ولكن مع سيطرة
الشيوعيين على السلطة في تشيكوسلوفاكيا نجح في تقديم طلب لجوء سياسي له ولزوجته وأطفالهما
الثلاثة إلى الولايات المتحدة حيث حصل على منحة لتدريس السياسة في مدينة دنفر بولاية
كولورادو.
خلال فترة الدراسة الجامعية أصبحت أولبرايت مهتمة بالحزب
الديمقراطي، والتقت خلال تلك الفترة بزوجها المستقبلي، جوزيف ميديل باترسون أولبرايت،
وهو ابن أسرة شهيرة في مجال النشر.
وعمل جوزيف صحفيا في صحيفة "دنفر بوست" المحلية
بينما عملت مادلين متدربة في إخراج الصحيفة، وفي تلك الفترة عقدا قرانهما. درست مادلين
العلوم السياسية والقانون في كلية "وليسلي"، والعلوم الدولية في جامعة
"كولومبيا" ثم دكتوراة في الفلسفة من جامعة "جونز هوبكينز".
وبعد بضع سنوات، عرض عليها أستاذها الجامعي السابق زبيغنيو
بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد إدارة الرئيس جيمي كارتر، أول وظيفة لها في الحكومة،
وعينت في وظيفة الاتصال بمجلس الشيوخ.
عندما خسر الديمقراطيون أمام المرشح الجمهوري رونالد ريغان،
انتقلت أولبرايت إلى العمل في المجال الخيري، وفي تلك الفترة انتهت حياتها الزوجية
فجأة بالطلاق بعد 23 عاما.
انخرطت أولبرايت في العمل، وأصبحت أستاذة العلاقات الدولية
في جامعة "جورج تاون". وحرصت على وضع النساء في الوظائف والأعمال التي يهيمن
عليها الذكور، وعلمتهن أهمية التحدث بصوت عال ومقاطعة الآخرين لإسماع أصواتهن.
وأصبح منزلها مركزا للاجتماعات السياسية، حيث عملت مستشارة
للسياسة الخارجية في الحملات الرئاسية لكل من المرشحين للانتخابات الرئاسية والتر مونديل
ومايكل دوكاكيس.
وعندما انتخب الديمقراطي بيل كلينتون في عام 1992 رئيسا للولايات
المتحدة طلب من أولبرايت المساعدة في انتقال إدارته قبل أن يعرض عليها دورا على مستوى
مجلس الوزراء كسفيرة لدى الأمم المتحدة، فشغلت المنصب ما بين عامي 1993 و1997.
وفي فترة كلينتون الثانية أصبحت أول امرأة تتولى وزارة الخارجية
الأمريكية من عام 1996 وحتى عام 2001.
عرفت بأسلوبها الصارم في الحديث خلال عملها في إدارة كلينتون
التي ترددت في الانخراط في أكبر أزمتين خارجيتين في التسعينيات من القرن الماضي، وهما
الإبادة الجماعية في رواندا، التي تعتبر وصمة عار في مسار السياسة الخارجية الأمريكية،
والحرب في البوسنة والهرسك.
ضغطت أولبرايت من أجل اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد الصرب في
البوسنة، لكن بدلا من ذلك عملت الولايات المتحدة مع حلف شمال الأطلسي "ناتو"
على شن غارات جوية على صربيا أدت إلى إنهاء الحرب بعد 3 سنوات وقعت خلالها عمليات إبادة
ومجازر ضد مسلمي البلقان.
وضمن مساعي واشنطن للضغط على كوريا الشمالية لإنهاء برنامجها
للأسلحة النووية سافرت أولبرايت إلى بيونغ يانغ عام 2000 للقاء زعيم كوريا الشمالية
آنذاك كيم جونغ إيل، لتصبح أبرز مسؤول أمريكي يزور كوريا الشمالية، وقد باءت المهمة
بالفشل في نهاية المطاف.
بعد ترك موقعها الرسمي مع وصول إدارة الرئيس جورج بوش الابن،
واصلت أولبرايت نشاطها السياسي، وأيدت هيلاري كلينتون في حملتيها الرئاسيتين عامي
2008 و2016.
وفي خضم هاتين الحملتين أثارت عاصفة من الجدل عندما قالت إحدى المقولات المحببة لديها: "هناك مكان خاص في الجحيم للنساء اللواتي لا
يدعمن النساء الأخريات".
وأسست أولبرايت شركة استشارية وعملت لفترة وجيزة مديرة لمجلس
إدارة بورصة نيويورك.
كما واصلت الكتابة حتى سنواتها الأخيرة، وفي عام 2018 نشرت
كتابها "الفاشية: تحذير" شجبت فيه ما رأت أنه صعود للنزعات السلطوية في جميع
أنحاء العالم. وأثناء الترويج لكتابها حول العالم وصفت الرئيس السابق دونالد ترامب
بأنه الرئيس "الأقل ديمقراطية" الذي عرفته الولايات المتحدة على الإطلاق.
توفيت بمرض السرطان في واشنطن آذار/مارس الحالي عن عمر يناهز
84 عاما.
رحلت وتركت وراءها عددا كبيرا من الدبابيس "البروش"
التي صبغت أسلوبها الدبلوماسي الفريد وهو استخدام ملحقات الزينة في عملها الدبلوماسي
لإيصال رسائل سياسية.
وقالت إنها استلهمت الفكرة في البداية من تشبيهها من قبل
وسائل الإعلام العراقية بـ "الأفعى (الحية) التي لا مثيل لها"، بعد حرب الخليج
الأولى.
وقالت أولبرايت لإحدى المحطات الإذاعية الأمريكية:
"كان لدي دبوس قديم رائع على شكل ثعبان وعندما كنا نتعامل مع العراق كنت أرتدي
ذلك الدبوس".
وفي عام 1999، التقت بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات
وارتدت دبوسا على شكل نحلة، كتعبير عن جهودها الحثيثة لساعات طويلة لإقناعه بأهمية
التوصل إلى حل سلمي.
كانت "دبلوماسية البروش" حاضرة منذ دخولها أروقة
الأمم المتحدة ثم البيت الأبيض، وحينما أدت اليمين لتسلم منصبها اختارت دبوسا على شكل
نسر، في تعبير عن القوة.
رحلت أولبرايت وأخذت دبابيسها معها، ولم يضعف قول الرئيس
الأمريكي جو بايدن خلال نعيها بأنها "غيرت مجرى التاريخ"، ذاكرة العالم التي
أعادت الاستماع من جديد إلى استهانتها وتقليلها من حجم معاناة أطفال العراق تحت وقع
أبشع حصار لشعب شهده التاريخ المعاصر.