قضايا وآراء

الرئيس التونسي و"الأجسام الوسيطة"

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
يبدو أن الرئيس التونسي قيس سعيد لا يدّخر جهدا في تعميق الأزمة السياسية التي تعرفها تونس منذ إجراءات 25 تموز/ يوليو من السنة الماضية. ورغم إقرارنا بأن مسار الانتقال الديمقراطي قد عرف أزمات دورية كثيرة خلال ما يُسمّيه أنصار الرئيس وطوابيرهم الخامسة بـ"العشرية السوداء"، فإن خطورة الإجراءات الرئاسية واختلافها الجذري عما سبقها، تكمن في أنها تحمل مشروعا سياسيا كاملا. وهو مشروع سياسي لا يريد إعادة هندسة المشهد السياسي تحت سقف الدستور ذاته، أو بمنطق "الشراكة" مع باقي الفاعلين الجماعيين، بل يطرح على نفسه مهمة "التأسيس الجديد" باعتباره "بديلا" كاملا للعقل السياسي وللأجسام الوسيطة، التي هيمنت على الديمقراطية التمثيلية وعلى نظامها البرلماني المعدّل.

منذ أن جمّد الرئيس عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، كان واضحا أن التأويل الرئاسي المتعسّف للفصل الثمانين من الدستور لن يكتفيَ بالجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فرغم تراجع الرئيس عن تولي مهام "النيابة العامة" (أي السلطة القضائية) بعد أن أسندها إلى نفسه يوم 25 تموز/ يوليو، كان واضحا -لمن اطّلع على المشروع السياسي للديمقراطية المجالسية أو القاعدية- أنه لم يكن إلا تراجعا تكتيكيا مؤقتا، وهو ما أكدته الأحداث بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء وهيمنة الرئيس عليه؛ في إطار حربه المفتوحة على كل "الأجسام الوسيطة" التي تعطّل أو تعارض تحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة مؤقتة"، يهيمن الرئيس على مسارها ويحدد مخرجاتها بصورة فردية.

بعد أن فرض الرئيس تأويله للفصل الثمانين من الدستور، لم تعد "حالة الاستثناء" ولا "الخطر الداهم" ولا "عودة السير الطبيعي لدواليب الدولة"، قابلة للقراءة الدستورية "الطبيعية". فـ"حالة الاستثناء" تستوجب بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم وعدم حل الحكومة أو توجيه لائحة لوم ضدها، و"الخطر الداهم" -الذي عوضه عند الرئيس مفهوم "الخطر الجاثم"- يستوجب تعاون "الرئاسات الثلاث" والهيئات الدستورية وكل الأجسام الوسيطة لـ"عودة السير الطبيعي لدواليب الدولة. ولكن، ما قيمة تلك المفاهيم واقعيا -بل ما قيمة أي رأي مخالف في قراءتها- بعد أن نصّب الرئيس نفسه مرجعا أعلى في تفسير الدستور؟ وما جدوى الاعتراض على أوامر الرئيس ومراسيمه، بعد أن حلّ الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين ليُحصّن أحكامه من الطعن؟
قد يكون رفضه لأي حوار –حتى مع أنصار "تصحيح المسار" داخل الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني- راجعا في جزء منه إلى هذا السبب، أي راجعا إلى موقفه السلبي من المرحلة التأسيسية بمخرجاتها وفاعليها السياسيين وشركائهم الاجتماعيين

في الأيام الأخيرة، أعادنا تصريحُ السيد نبيل بفّون، رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إلى مسألة العلاقة بين الرئيس التونسي قيس سعيد والهيئات الدستورية وغيرها من "الأجسام الوسيطة". فرغم حرص الرئيس التونسي على تأكيد التزامه بالدستور -أو بما تبقّى منه بعد تعليق العمل بأغلب فصوله- فإن تعاطيه مع الهيئات الدستورية وغيرها، أثبت أنه يعتبرها –بتركيبتها وصلاحياتها ومصدر شرعيتها ذاته- جزءا من منظومة الفساد ومن مسار التلاعب بمطالب الثورة وتزييف وعي التونسيين، وقد يكون رفضه لأي حوار –حتى مع أنصار "تصحيح المسار" داخل الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني- راجعا في جزء منه إلى هذا السبب، أي راجعا إلى موقفه السلبي من المرحلة التأسيسية بمخرجاتها وفاعليها السياسيين وشركائهم الاجتماعيين.

بصرف النظر عن صوابية موقف الرئيس من "الأجسام الوسيطة"، أكد مسار 25 تموز/ يوليو هشاشة الانتقال الديمقراطي، سواء من جهة الوعي أو من جهة عملية المأسسة، وهي هشاشة تجلّت في ردود فعل أغلب الهيئات الدستورية والجمعيات والنقابات والمثقفين على "الانقلاب" الصريح على الفصل 80 من الدستور. وإذا كنا قادرين على تفهم المواقف المؤيدة لـ"تصحيح المسار" في أيامه الأولى، فإن المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر من السنة الماضية، قد أوضح أن الرئيس لا يعتبر نفسه شريكا لباقي الفاعلين بل بديلا لهم، وهو ما وضع كل الفاعلين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما إعلان الرفض الجذري لـ"تصحيح المسار" برمته والتعامل معه على أساس أنه انقلاب على الدستور وانفراد لا شرعي بـ"السلطة التأسيسية"، وهو ما يعني واقعيا عدم الاعتراف بالنظام والطعن في شرعيته، وإمّا قبول المسار الانقلابي والتسليم للرئيس بأنه الممثل الأوحد والشرعي للإرادة الشعبية، وهو ما يعني أن نقد بعض قرارات الرئيس أو التشكيك في حكمة "المسار" كله هو أمر بلا معنى، على عكس ما يزعم بعض الأنصار "النقديين" للإجراءات.

لو بحثنا في جذر الأزمة بين الرئيس ومختلف الأجسام الوسيطة -ومنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات-، لوجدنا أنها مرتبطة بإجراءات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو الماضي. لقد كان التأويل الرئاسي المتعسف للفصل 80 من الدستور يستدعي ردود فعل أقوى بكثير من التي صدرت عن أغلب الأجسام الوسيطة؛ فالقبول بتجميد مجلس النواب -وهو السلطة الأهم في النظام البرلماني المعدّل- كان يعني واقعيا القبول بتحوّل الرئيس إلى سلطة ما فوق دستورية، أي إلى سلطة تأسيسية، كما كان القبول بتجميد أعمال مجلس النواب، يعني التسليم للرئيس بسلطة تأويلية مطلقة للدستور. ولكنّ الأخطر من ذلك كله، هو أن غياب مجلس النواب واحتكار الرئيس لكل السلطات، سيجعل من كل "الأجسام الوسيطة" هدفا سهلا لصاحب مشروع "التأسيس الجديد"، وهو ما يعني أنه سيحرص إما على شيطنتها تمهيدا لتدجينها، أو تدميرها تبعا لما تقتضيه مصلحة مشروعه السياسي وموازين الضعف بينه وبين خصومه.
يبدو أن هيمنة الرئيس التونسي على المشهد السياسي لن تتعرض إلى تهديدات جدية ما لم تقع تحولات عميقة في المستوى المحلي سياسيا واقتصاديا، وما لم تقع كذلك تغيرات جذرية في الموقف الدولي من مشروع "الديمقراطية القاعدية" ومن يسندها في الدولة العميقة

ختاما، فإن عدم استشارة الرئيس لهيئة الانتخابات في قضية تغيير القانون الانتخابي، أو تغيير تركيبة هيئة الانتخابات بمرسوم رئاسي -مع ما يثيره ذلك من مشاكل قانونية وسياسية وأخلاقية-، تظل جميعا قضايا جزئية أو قضايا مشتقة من قضية أصلية واحدة، هي قضية انقلاب الرئيس على الدستور، ونجاحه في إعادة هندسة المشهد العام في تونس، عبر الإدارة المنفردة لحالة الاستثناء والتحكم في مخرجاتها.

فبعد أن فرض الرئيس خارطةَ طريق تشمل الاستشارة الوطنية الإلكترونية والاستفتاء ثم الانتخابات البرلمانية المبكرة، وبعد أن حل البرلمان ورفض إجراء أي انتخابات في غضون تسعين يوما كما ينص على ذلك الدستور، وبعد أن أكد رفضه أي حوار وطني لا تكون قاعدته مخرجات الاستشارة الوطنية، يبدو أن هيمنة الرئيس التونسي على المشهد السياسي لن تتعرض إلى تهديدات جدية ما لم تقع تحولات عميقة في المستوى المحلي سياسيا واقتصاديا، وما لم تقع كذلك تغيرات جذرية في الموقف الدولي من مشروع "الديمقراطية القاعدية" ومن يسندها في الدولة العميقة.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)