شيرين قدمت روحها كما يفعل أي
فلسطيني مخلص لوطنه إذا نادى المنادي حي على الكفاح، ورغم ذلك فمن يجلسون في برد المكيفات أو على شواطئ الريفيرا الفرنسي أو ماربيلا الإسباني سيواصلون حملتهم من أجل وصم الفلسطينيين بأنهم خونة وباعوا أرضهم، وعلى أقل تقدير سيخرج علينا أحد "التيوس" العربية الأصيلة مغردا "قتلها الفلسطينيون"، وهو قول قالت به بعض المصادر الصهيونية ثم قامت بسحبه استشعارا للحرج بينما "التيس العربي" لا يزال متمسكا وفخورا بما كتبت يمينه، ولا تزال تغريدته تملأ آفاق تويتر ليستدل منها على سوء نيته وقبح صنيعه.
لم تكن شيرين مجرد مراسلة؛ لا هي ولا وليد العمري ولا جيفارا البديري ولا تامر المسحال ولا هبة عكيلة ولا وائل الدحدوح ولا سمير أبو شمالة، بل في رأيي أنهم جزء من القوة الناعمة الفلسطينية وليست السلطة التي انتهت صلاحيتها وتحصل على تمديد "بالقطارة" من سلطة الاحتلال؛ وهي التي لم تحصل على "تفويض" من شعبها ولم تسع لنيل شرف تفويض الفلسطينيين لها منذ 17 عاما.
هذه القوة الناعمة هي التي أبقت فلسطين في الذاكرة بما قدمته وما تقدمه من صورة حقيقية بدون مكياج عن واقع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وأثناء الحروب التي شنها الكيان على غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة
هذه القوة الناعمة هي التي أبقت فلسطين في الذاكرة بما قدمته وما تقدمه من صورة حقيقية بدون مكياج عن واقع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وأثناء الحروب التي شنها الكيان على غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة، وهو عمل تأريخي جبار خصوصا في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لو أُحسن استخدامه وتوظيفه سياسيا لصالح القضية.
لكن
اغتيال شيرين في وضح النهار أثار عندي الشكوك، وقد اطلعت على بعض الكتب عن الموساد وشاهدت برامج وثائقية عن قتل الناشطين الفلسطينيين داخل وخارج فلسطين. هذا الاغتيال ليس صدفة ولا خطأ من جندي أهوج أو قناص لم يتلق التعليمات بالقتل، بل أزعم أن قرار قتل شيرين قد اتخذ في مقر الموساد وأجهزة الأمن والاستخبارات الصهيونية.
هذا الاغتيال ليس صدفة ولا خطأ من جندي أهوج أو قناص لم يتلق التعليمات بالقتل، بل أزعم أن قرار قتل شيرين قد اتخذ في مقر الموساد وأجهزة الأمن والاستخبارات الصهيونية
قتلت شيرين برصاص القناصة وهم يعلمون علم اليقين أنها المراسلة الفلسطينية التي تحمل جنسية أمريكية إلى جانب اعتزازها بجنسيتها الفلسطينية العربية، فالصهاينة يعرفون قيمة الصحافة والإعلام ويعتبرون
الإعلام سلاحا فتاكا، خصوصا إذا وقع في يد امرأة تحب وطنها ولديها مصداقية لدى الرأي العام العربي.
شيرين أبو عاقلة كانت هدفا للصهاينة منذ تغطيتها لاقتحام جنين قبل عشرين عاما، وهي تغطية محترفة لامرأة عاشقة لوطنها وقد رفضت العيش في أمريكا التي نالت جنسيتها.
سبقت شيرين دبابات الصهاينة ومدرعاتهم بقرون استشعارها الصحفية، وتقدمت لتغطي وتكشف للعالم جرائم الصهاينة وقبح ادعاءاتهم بأن دولتهم واحة الديمقراطية والحرية، وهي ليست أفضل حال من بقية دول المنطقة، فكل حكام الكيان والعالم العربي إلا من رحم ربي في "الهم شرق". وقد تثبت الأيام وتكشف روايات الموساد عن خطة قتل شيرين بدم بارد وكيف أن الصهاينة أرادوا إسكات صوتها بأي ثمن؛ لأن صوتها أقوى من رصاص البنادق وأشد وطأة من قنابل المدافع.
هل كان الصهاينة على علم بأن ثمن إسكات صوت شيرين عال ومكلف؟ نعم هم يعلمون ولكنهم أيضا يعلمون كيف يتعاملون مع الضجيج العربي المصطنع ومع الذباب الدبلوماسي المنتشر في فضاء العالم العربي، ولديهم خطة للتعامل مع سلطة محمود عباس إن تجاوز مقام العتاب ولوح بلائحة العقاب عبر المؤسسات الجنائية الدولية، فساعتها قد يكون أبو مازن في مهب الريح وقد يتم التلويح له بالعصا والجزرة. وأعني بالعصا عقوبات المنع الأمريكي والعربي، وأما الجزرة فقد يمنحونه إن سحب طلب المحاكمة شرف مقابلة قادة الكيان الصهيوني مرة أخرى؛ يلتقط خلالها الصور التذكارية بينما دم شيرين لم يجف بعد.
هل كان الصهاينة على علم بأن ثمن إسكات صوت شيرين عال ومكلف؟ نعم هم يعلمون ولكنهم أيضا يعلمون كيف يتعاملون مع الضجيج العربي المصطنع ومع الذباب الدبلوماسي المنتشر في فضاء العالم العربي، ولديهم خطة للتعامل مع سلطة محمود عباس إن تجاوز مقام العتاب ولوح بلائحة العقاب عبر المؤسسات الجنائية الدولية
الدول العربية الشقيقة شريكة في إهدار دم شيرين، وستقوم بدور كبير في الضغط على أبي مازن من أجل سحب أي إجراء قانوني دولي يدين الكيان. وأعتقد اعتقادا جازما والأيام بيننا أن اجتماعات وزارية ستعقد ليس من أجل إقامة دولة فلسطين، بل من أجل نسيان أو إغلاق أو تهميش ملف شيرين للأبد.
شيرين أبو عاقلة بالنسبة لي كسياسي كانت صوت الضمير الفلسطيني، وهي تقطف كلماتها من أشجار الوجع الفلسطيني شبه اليومي؛ لا تضيف إليه سوى مسحة حزن يعرفها كل من استمع إلى تقاريرها من فلسطين المحتلة أو وهو يشاهدها تتجول بالكاميرات لتسجل معاناة الفلسطينيين اليومية؛ عند المعابر والحدود أو ساعة الهجوم الوحشي على مزارع الزيتون وبيارات البرتقال واليوسفي ومن داخل مخيمات المهاجرين من فلسطين إلى فلسطين.
شيرين بتواضعها وأدبها الجم تعطيك فكرة حقيقية عن المرأة العربية الصامدة في ظروف المحن والابتلاءات، لذا ففقدها مر وغياب صوتها ألم وأي ألم.
لم أعرف أنها مسيحية ولكني كنت أعرف أنها صحفية فلسطينية بدرجة مقاوم أو مناضل، لم أبحث في ملفاتها عن جنسيتها الأمريكية لكنني والعالم أجمع شاهدنا كيف أنها احتفظت بهويتها الفلسطينية لحظة موتها فوق تراب بلدها؛ الذي أحبته حتى العشق وماتت من أجله موت المناضل الشهيد فكانت بحق شهيدة الوطن والصحافة معا.
رغم دموية المشهد إلا أنني أتعجب لمن قتلوها كي يسكتوا صوتها فإذا بها حية رغم دفنها، وصوتها يدوي رغم صمتها، وستبقى وغيرها من المناضلين والشهداء ملء السمع والبصر ليذكرونا ليس فقط بجرائم الصهاينة؛ ولكن بصمت العرب حين يهرق الدم الفلسطيني.
وداعا شيرين..