مقالات مختارة

كيف غيرت الحرب الروسية الأوكرانية علاقة أنقرة مع موسكو

طه أوزهان
1300x600
1300x600

على مدى ثلاثة شهور، حطمت حرب روسيا على أوكرانيا البلد وأخلت بالتوازن الجيوسياسي الإقليمي والدولي. لقد انتهج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سياسة عدوانية خطيرة تنطلق من أوهام تقوم على إعادة قراءة التاريخ وإعادة النظر في موقع موسكو من العالم.
 
في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، عملت موسكو على تصدير القلاقل إلى مختلف الأراضي المحاذية لروسيا وما بعدها: الشيشان، أوسيتيا، أبخازيا، شرق أوكرانيا وسوريا. إلا أن ما قامت به من أعمال حتى الآن لم يستثر الكثير من رد الفعل الدولي. لم تكن تتوقع موسكو أن يقدم الغرب دعماً عسكرياً علنياً لأوكرانيا، ولا أن تتردد الصين في دعم روسيا، التي باتت إلى حد كبير وحيدة، تتجه نحو كارثة تكتيكية واستراتيجية.
 
من وجهة نظر تركيا، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية في وقت صعب، فعلى النقيض مما عليه حال الأطر اف الثالثة الأخرى، ما فتئت تركيا تخوض مواجهات عسكرية مباشرة وغير مباشرة مع روسيا منذ عام 2015 عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية فوق الحدود التركية السورية. منذ ذلك الوقت اكتسبت أنقرة بعض معرفة بالتكتيكات العسكرية والجيوسياسية الروسية.
 
ما من شك في أن هيمنة روسيا على البحر الأسود في الشمال والاحتفاظ بوجود لها جنوب تركيا في سوريا سوف يشكل تهديداً خطيراً بالنسبة لأنقرة. كما أن التداعيات الاقتصادية للحرب كبيرة، وذلك أن خسائر تركيا التجارية مع روسيا وأوكرانيا آخذة في التراكم، بالإضافة إلى أن احتمال توسع دائرة الصراع في البحر الأسود يؤرق أنقرة بشكل كبير.
 
في نفس الوقت، ثمة هوة واضحة بين تحليل موسكو للغزو الروسي لأوكرانيا وبين تحليلات بقية دول العالم لمجريات الأمور. فعندما شن الروس عملية الغزو في شهر فبراير / شباط، كانوا واثقين بأن عرباتهم العسكرية سوف تتقدم دون أن تنكشف أو تواجه بأي عراقيل تذكر مما يكسبهم نصراً سريعاً. وكون موسكو لم تحسب بشكل صحيح مدى ما ستواجهه قواتها من مقاومة في أوكرانيا، والتي يشكل الروس ثلث سكانها وتعتبر ثاني أكبر بلد في أوروبا من حيث المساحة، لا يبشر بخير لروسيا ولقدرتها على تخليص نفسها من شباك هذا الصراع بدون أن تتكبد خسائر كبيرة.
 
الإمساك بالعالم رهينة
 
كان بوتين يعلم جيداً أن حرباً بين روسيا، القوة النووية والمنتج الرائد للغذاء والطاقة، وأوكرانيا سوف تكون لها تداعيات عالمية وإقليمية. لربما كان يقصد الإمساك بالعالم رهينة من خلال استغلال مصادر الطاقة الروسية ومعادنها الخام وتوريداتها الغذائية. وبذلك برزت روسيا كتهديد خطير للنظام العالمي، سواء من خلال ما تشنه من عمليات غزو تغلب عليها الرعونة، ورفع منسوب تدفق اللاجئين وزيادة معدلات التضخم العالمية أو من خلال التهديد بشن حرب نووية. ونظراً لفقدانها البصيرة إزاء ما يمكن أن يصدر عن العالم من رد فعل، فقد أثبتت موسكو أنها فاعل غير راشد فيما يصدر عنها من تصرفات على الساحة الدولية.
 
وعلى الرغم من أن تركيا وجدت نفسها في وضع صعب إلا أن أنقرة تصرفت إزاء ذلك كله بحنكة وحكمة، إذ تبنت مقاربة متوازنة من اللحظة الأولى لاندلاع الحرب. فقد وفرت الوساطة التركية لأنقرة حيزاً زمانياً وحيزاً جيوسياسياً في نفس الوقت أثناء المرحلة الأولى من الأزمة، ولعلها تقوم بهذا الدور من جديد خلال الأيام والأسابيع القادمة.
 
كما شكل إغلاق أنقرة مجالها الجوي في وجه الرحلات الجوية العسكرية الروسية المتجهة إلى سوريا خطوة كبيرة كذلك، سوف يُنظر إليها باعتبارها رسالة هامة لجميع الأطراف المعنية. فحتى وإن كانت تركيا لا تشارك في العقوبات ضد روسيا، فإنها تتخذ موقفاً تجاه ما يجري بطرق مختلفة.
 
لقد تأثر اقتصاد تركيا سلباً بالحرب، فبالإضافة إلى التضخم العالمي، تشكل روسيا وأوكرانيا نسبة كبيرة من تجارة تركيا الخارجية. تصدر تركيا لروسيا ما قيمته 5 مليار دولار وتصدر لأوكرانيا ما قيمته 2 مليار دولار سنوياً، بينما تتجاوز واردات تركيا من روسيا 28 مليار دولار وتتجاوز وارداتها من أوكرانيا 4 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، يشكل السياح الروس والأوكرانيون ما يقرب من ربع عدد السياح الذين يقصدون تركيا كل عام، إذا يتردد عليها الملايين منهم سنوياً. أما في الأجواء الحالية، فلا مفر من أن تتلقى السياحة ضربة كبرى في عام 2022.
 
تحالف هش
 
من الناحية الجيوسياسية، لم تزل أنقرة تواجه عدداً من التحديات خلال السنوات الأخيرة والمتعلقة بتدخل روسيا في سوريا والتهديد المتزايد للإرهاب. كما أن المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016 عقدت الحسبة السياسية التركية. ومع وصول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة، والذي أذن بدخول العالم مرحلة من عدم اليقين، بدأت تركيا في إبرام تحالف هش مع روسيا، وذلك على الرغم من تعارض المصالح الجيوسياسية للبلدين.
 
استمر هذا التحالف الحساس على الرغم من الصدامات المتكررة بين القوات الروسية والتركية في ساحات المعارك التي تجري بالوكالة – في نفس الوقت الذي تنتاب علاقات تركيا مع أوروبا والولايات المتحدة، وكذلك دورها في الناتو، توترات متزايدة، حيث كان أحد التكاليف الملموسة التي تكبدتها تركيا هي إخراجها من برنامج المقاتلة إف 35، التي كانت بالغة الحيوية بالنسبة للأمن التركي بعد أن أبرمت تركيا صفقة مع موسكو لشراء نظام الدفاع الجوي إس 400.
 
كما ساهمت روسيا من خلال تدخلها العسكري في سوريا في الدفع بأعداد كبيرة من اللاجئين إلى داخل تركيا، ناهيك عن أن الوضع الأمني المتردي في منطقة البحر الأسود يفاقم من الأخطار التي تهدد استقرار تركيا، مما يستدعى من أنقرة تقييماً دقيقاً ورداً حذراً.
 
من خلال إجراء وساطة ناجحة بين روسيا وأوكرانيا – وعلى الرغم من عدم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن – فقد أثبتت أنقرة للغرب أنها لا تحسب على المعسكر الروسي، وأثبتت لبوتين في نفس الوقت أنها لا تنحاز بلا شرط أو قيد إلى جانب الغرب. لم يزل رد فعل واشنطن حتى الآن صامتاً إلى حد ما. إلا أنه إضافة إلى الآلية الاستراتيجية الأمريكية التركية التي أطلقت في شهر إبريل / نيسان، فقد أكدت الولايات المتحدة مؤخراً أن بيع طائرات إف 16 إلى تركيا سوف يعزز وحدة الناتو على المدى البعيد.
 
لم يزل الوضع القائم على الأرض منذ غزو روسيا لأوكرانيا يوفر فرصة لأنقرة لإعادة ترتيب علاقاتها مع روسيا والانتقال إلى مرحلة ما بعد التحالفات القائمة حالياً بحكم الأمر الواقع. فمن المؤكد أن الوقائع الجيوسياسية الجديدة سوف تضع مزيداً من الضغوط على روسيا في سوريا بما يعود بالفائدة على تركيا. في نفس الوقت، تعزز تركيا من موقعها الجيوسياسي من خلال تحسين علاقاتها مع الغرب.
 
وبينما تتصدع التحالفات الروسية وتصبح موسكو بشكل متزايد عبئاً على البلدان الشريكة لها، فلا مفر من أن تتطور علاقاتها مع أنقرة. واستخداماً لما تتميز بها من كونها عضواً في الناتو من أجل الحيلولة دون سقوط البحر الأسود تحت الهيمنة الروسية، ومن خلال اتخاذ خطوات من شأنها تقليص عدم اليقين فيما يتعلق بالأوضاع على حدودها الجنوبية، فإن بإمكان تركيا ترشيد علاقاتها مع روسيا بينما تمضي قدماً في بناء أرضية مشتركة مع الغرب.
 
مساعي دول الشمال للانضمام إلى الناتو
 
تحقيقاً لهذه الغاية، تحتاج أنقرة إلى استخدام قدراتها على القيام بمناورات دبلوماسية حساسة. فالعلاقات الجيوسياسية الحالية تشير إلى أن تصلب روسيا سوف يستمر وسوف تستمر كذلك حرب الغرب بالوكالة. يجب أن تكون مشاركة تركيا متعددة الطبقات ومتعددة المراحل. لقد ساعد تحرك الرئيس رجب طيب أردوغان نحو لعب دور الوسيط في إكساب تركيا نقاطاً في المجال الدبلوماسي، وفي إكسابها ثقة جميع الأطراف. ثم جاء إغلاق أنقرة لمجالها الجوي في وجه الرحلات العسكرية الروسية إلى سوريا ليشكل خطوة جريئة أخرى.
 
يوجه أردوغان رسالة واضحة إلى جميع الأطراف المعنية بالأزمة بين روسيا وأوكرانيا، يذكرهم من خلالها بأن تركيا جزء من الناتو. ولكن الآن، وفي تحول غير متوقع، نجده يتخذ موقفاً معارضاً لانضمام كل من السويد وفنلندا للناتو، وهي معارضة قد تحبط مساعيهما في الحصول على العضوية.
 
وهذا الأسبوع، استمر بوتين وأردوغان في الحديث عن توسيع الناتو، حيث بدل بوتين من موقفه من خلال الإعلان أن انضمام كل من السويد وفنلندا إلى التحالف العسكري "لا يشكل تهديداً مباشراً لروسيا". في نفس الوقت، كان أردوغان يعيد التأكيد على معارضته لانضمامهما. وعلى الرغم من أن من حق تركيا الشرعي استخدام قضية العضوية في الناتو من أجل إجراء مقايضة دبلوماسية، إلا أن تصريحاته كان يكتنفها قدر من الغموض.
 
تعلم أنقرة أن توسيع موسكو لرقعة نفوذها جنوباً يعتبر بحد ذاته مصدراً محتملاً لإشكال أمني بنيوي، إن لم يكن تهديداً مباشراً، تحتاج تركيا في سبيل التصدي له إلى الوقوف مع المبادرات التي من شأنها أن تحول دون، أو تمنع، إكساب روسيا مزيداً من النفوذ. ينبغي أن تقوم حرب أنقرة ضد الإرهاب على منظومة من التحالفات وينبغي ألا يتم تقويض بسالتها الجيوسياسية من خلال مساعي دول الشمال البحث عن ملاذ آمن داخل الناتو.

 

نقلا عن "ميدل إيست آي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل