هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وماذا بعد؟!
سِرتُ في اتجاهك العمر كله
وحين وصلتك انتهى العمر!
كان ينتظر الموت حتى جاءه:
غرباء نحن من هذه الدنيا.. والموت تأخّر
رحل مظفر النواب.. شاعر الحزن والغضب الشعبي والبكاء حتى الضحك، والضحك حتى البكاء.. الشاعر الذي طبع الشعر في الأزقة الشعبية والغرف السرية ومتاريس الثورات، من النيل إلى النخيل ومن المحيط إلى الخليج، لسانه السليط أبعده عن الإعلام الرسمي والرعاية الرسمية.. كان رصيده الشعب الذي يستمع إلى قصائده المُهرّبة..
يحتار المشاهد لندواته إن كان يبكي أو يضحك أو يغضب.. هو خليط حالات ومشاعر في موقف واحد يجمعها الجنون وسلاطة اللسان، واضح حتى البلاغة صارم حتى السباب والشتائم..
آخر صعاليك الشعر العربي ونجومه.. يمزج في شخصيته وأدائه الحزن العراقي بالغضب الفلسطيني والجمال الشامي والظُرف المصري فينتج خلطة نادرة، تجعل مشاهدته والاستماع لشعره أجمل بكثير من قراءته.
التزم النَوَّاب القضايا العربية، وأولها القضية الفلسطينية، وأقام ببيروت إبان وجود الثورة الفلسطينية فيها، وكان أحد شعراء الغليان الثوري والشعري في تلك الأيام.
لم يسكت على نظام عربي، وانحاز للمدن وشعوبها، فقال:
من باعَ بغدادَ والقُدسَ، لن يشتري دِمشق
وتحدث عنها بالغزل المبطّن بالواقع العربي الحزين:
ماذا سيحصل لو تحوّلنا إلى بلاد؟
أنا بغدادُ وأنت القدسُ،
يميل رأسي على كتفِك قليلاً
فتُزهِر دمشقُ ويستقيم العالم
بقي شريداً في الوطن العربي، واقتنع بحالة الطيور المهاجرة:
وقنعتُ بأن يكون نصيبي في الدنيا
كنصيب الطير
ولكن سبحانك
حتى الطيرُ لها أوطان وتعود إليها
وأنا ما زلت أطير
غَضِب لفلسطين وأحبّ لفلسطين وخاصم من أجل فلسطين وصالحَ لفلسطين، وسُجن وطورد وتشرّد من أجل الحق والحرية وفلسطين..
التقيته مرة واحدة في مكان رمزي مقاوم، وتشكّلت لدي قناعات يحملها هو، بسبب ما حدث معي في ذلك اللقاء، وهي قصة من المناسب أن أرويها هنا.
بعد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، فُتح معتقل الخيام أمام الجمهور كَمَعْلَم ثقافي رمزي للتحرير، أُعلن عن أمسية شعرية للشاعر مظفر النواب في 23 حزيران (يونيو) 2001، تحية لانتفاضة الأقصى التي اندلعت قبل تسعة أشهر.
وصلنا متأخرين، وَجدنا باحة المعتقل قد اكتظت بجمهور جاء من مختلف المناطق لسماع شاعر طالما غنى للقضايا العربية وهاجم الأنظمة المستبدة وعرفه الجمهور من خلال قصيدة "القدس عروس عروبتكم".
أما لماذا تأخرنا؟ فقد ذهبت مع ثلاثة من الأقارب قطعوا أكثر من 100 كيلومتر لحضور الأمسية، وحين وصلنا إلى حاجز قلعة الشقيف منعَنا الحاجز العسكري، لأن الفلسطينيين ممنوعون من الذهاب بدون تصريح إلى حدود فلسطين.. رجَونا مسؤول الحاجز وأوضحنا له أننا ذاهبون لحضور أمسية شعرية عن فلسطين، فهل يُعقل أن تمنعوا الفلسطينيين من هكذا أمسية؟! فقال هذه أوامر! وسمح لواحد منا فقط بالعبور لأنه موظف دولي.
رجعنا جميعاً، واسترشدنا بذاكرة أحدنا (ستّينيّ، كان مع المقاومة الفلسطينية قبل العام 1982 في منطقة قلعة الشقيف)، فأخذَنا من طريق غير معبّد لنلتفّ عن الحاجز اللبناني.
فعلاً، يأبى هؤلاء إلا أن يذكّرونا بمقولة المرحوم شفيق الحوت: يحبّون فلسطين ويكرهون الفلسطينيين!
وحين وصلنا استمتعنا بقصائده، فألقى قصيدة "الانتفاضة" التي قال فيها:
قد أذّن الدم الزكي
أن محمد الدرة من يؤمّكم..
يا رجال وحدوا الصفوف خلفه..
حي على السلاح..
لا تُقهر انتفاضتي وموقعي..
أدوس أنف من يشكُّ أن بندقيتي..
تلقّح الزمان أشرف اللقاح
ترجمة الشاعر
مظفر عبد المجيد النوّاب؛ هو أحد أشهر شعراء العراق في العصر الحديث، ولد في بعداد عام 1934، أظهر موهبة شعرية في سن مبكرة، أكمل دراسته الجامعية في جامعة بغداد وأصبح مدرساً، لكنه طُرد لأسباب سياسية عام 1955 وظل عاطلاً عن العمل ثلاث سنوات، وعانى مع أسرته من ضائقة مالية.
بعد ثورة عبد الكريم قاسم عام 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي، عاد إلى العمل مفتشاً في وزارة التربية والتعليم. في عام 1963، بعد سقوط حكم قاسم غادر إلى منطقة الأهواز في إيران بعد تعرضه للملاحقة والمراقبة الصارمة من قبل النظام الحاكم.
اعتقلته المباحث الإيرانية (السافاك) وهو في طريقه إلى روسيا، فأعادته إلى العراق. وكان محكوماً بالإعدام بسبب إحدى قصائده، وتمّ تخفيف الحكم فيما بعد إلى السجن المؤبد.
هرب من السجن بحفر نفق وتوارى عن الأنظار في بغداد، وعاش مع الفلاحين والبسطاء حوالي سنة في الأهوار جنوب العراق.
في عام 1969 صدر العفو عن المعارضين فرجع إلى سلك التعليم مرة ثانية وشغل منصب مدرس في إحدى المدارس. ثم غادر بغداد إلى بيروت في البداية، وبعدها انتقل إلى دمشق، ثم استقرّ في بيروت.
لم يكن قادراً على السفر سوى بوثائق السفر الليبية (حلّ على العقيد معمر القذافي كشاعر كبير، وأقام في ليبيا لسنوات، واتخذ من جواز سفرها هوية رسمية).
نماذج من شعره
مقطع من "القدس عروس عروبتكم"..
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟؟
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها
وسحبتم كل خناجركم
وتنافختم شرفاً
وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض
فما أشرفكم
أولاد القحبة.. هل تسكت مغتصبة؟
أولاد القحبة..
لست خجولاً حين أصارحُكم بحقيقتِكم
إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم
لا تهتز لكم قصبة
الآن أعرّيكم
في كل عواصم هذا الوطن العربي قتلتم فرحي
في كل زقاق أجد الأزلام أمامي
أصبحت أحاذر حتى الهاتف
حتى الحيطان وحتى الأطفال
أقيء لهذا الأسلوب الفج
وفي بلد عربي كان مجرد مكتوب من أمي
يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين
تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا
أعترف الآن أمام الصحراء بأني مبتذل وبذيء كهزيمتكم.
يا شرفاء المهزومين
ويا حكام المهزومين
ويا جمهوراً مهزوماً
ما أوسخنا.. ما أوسخنا.. ما أوسخنا ونكابر
ما أوسخنا
لا أستثني أحداً. هل تعترفون
مقطع من قصيدته المغناة
"المسلخ الدولي"
تعَلّل فالهوى علَلُ
وصادَفَ إنٌهُ ثَمِلُ
وكادَ لطيب منبعه يَشِف
فمانَعَ الخجَلُ
وأسرَفَ في الهوى ولهًا
فاسرَفَ شيبُهُ العجَلُ
...
قضيتنا وإن نفخوا الكلى وشرارهم جبَلُ
وصاغوا من قرارات
وإن طحنوا .. وإن نخلوا
لها درب مضيء واحد رب
فلا لات.. ولا عزّى.. ولا هُبَلُ
قضيتنا لنا أرض قد اغتصبت
وكنا عزلاً لا نعرف السوق البرجوازية في الدنيا
ولا ما تصنع الأموال والحِيَلُ
وطالبنا فكان قرار تقسيم
وطالبنا فصرنا لاجئين وخيمة جرباء تنتَقِلُ
كم اغتصبتْ عروسُ مِن مُخيّمُنا
وكم جُعنا.. عَرَينا.. كم خجِلنا
ثم طالبنا فلَم نُسمَع، فكشٌر نابَهُ الخجلُ
..
عراقي هواه وميزة فينا الهوى خبَلُ
يدب العشق فينا في المهود وتبدأ الرسُلُ
ورغم تشردي
لا يعتريني بنخلة خجَلُ
بلادي ما بها وسط
وأهلي ما بهم بخل
لقد أُرضِعت حبَّ القدس
وائتلقت منائرها بقلبي
قبل أن تبكي التي قد أرضعتني
وهي تحكي كيف ينتزع التراب الرب
من شعبٍ ويحتَمِلُ
وكيف مشت مجنزرة
على طفل.. وكيف مسيرها مهل
..
تعَثرَ صوت أمي
واعترى كلماتها الشلل
وقالت لي قضيتنا.. وغصَّت بالدموع
فقلت يا أمي: قضيتنا الدمار
أو التراب الرب
لا وسط ولا نحلُ
قبيل ذهابكم للمسلخ الدولي وفداً
أرسلوا السكين وفداً إنها أمَلُ
سيسمع صوتها
وتشق درباً للرجوع
وينتهي الخطَلُ
..
قضيتنا سلام بالسلاح ...
فثم سلم حفرة
وسلامنا جبَلُ
وأن العنف باب الأبجدية
في زمان
عهره دول
قبيل ذهابكم للمسلخ الدولي وفداً
أرسلوا السكين وفداً
ينتهي الخَلَلُ