هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمة مطالبات تلحُّ كثيرا على ضرورة التجديد الديني، تأتي من جهات عديدة وتدعو إليها اتجاهات مختلفة، فالرسمي يطالب بذلك، والعلماني الحداثي يطالب بها كذلك، والحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها تدعو إلى ذلك، وكل جهة من تلك الجهات لها منطلقاتها ومبرراتها وسرديتها.
لكن ثمة تحفظات كثيرة تثار في هذا السياق حول الجهة المؤهلة والمخولة للقيام بذلك التجديد، إذ تختلف التقديرات، وتتنوع الآراء، فثمة من يحصر تلك المهمة بالمؤسسات الدينية العريقة كالأزهر والزيتونة والأكاديميات الشرعية المحترمة، وما يتفرع عنها من هيئات وكيانات، لأن التجديد الذي يأتي من خارج تلك المؤسسات، حسب منتقديها، يفتقر إلى الشروط الواجب توفرها فيمن يمارس عملية التجديد المطلوبة.
وعادة ما يصر علماء المؤسسات الدينية العريقة، ومن يتبع منهجيتها العلمية، على أن يتولى مهمة التجديد الديني، وإعادة تقويم التراث ونقده علماء الشريعة من أهل الاختصاص، لأنهم المؤهلون القادرون على القيام بذلك، وهم المؤتمنون على أداء تلك المهمة بكل نزاهة وأمانة وكفاءة، من غير أن يفضي تجديدهم إلى مآلات سيئة، ونتائج صادمة.
أمام دعوات التجديد المتكاثرة، والتحفظات التي تُثار عليها، فهل يجب بالفعل حصر التجديد في المؤسسات الدينية العريقة؟ وما جدوى التجديد الذي يأتي من خارج تلك المؤسسات، وهل يحقق مقاصده ويؤتي أكله أم أنه محاط بمحاذير كثيرة ويفضي إلى مآلات سيئة وفق المتحفظين على تلك الدعوات؟
على خلاف من يرى ضرورة حصر التجديد في إطار المؤسسات الدينية العريقة، وقصره على دوائرها الأكاديمية والبحثية، يقرر الباحث في العلوم الشرعية، والداعية الأردني، الدكتور أسامة أبو بكر أن "التجديد الديني لا يقتصر على المؤسسات الدينية العريقة والكبيرة، بل قد يأتي من بحث لطالب في جامعة، أو من قبل كاتب مغمور، أو عالم فرد".
وأضاف: "وقد حدث هذا في تاريخنا الإسلامي، فقد جاء بعد الأئمة الأربعة، علماء وفقهاء كثيرون، أبدعوا وجددوا، كابن تيمية، رحمه الله، الذي أحدث تجديدا مؤثرا، وكما جاء حسن البنا في عصور متأخرة فأحدث تجديدا لافتا وملحوظا في الدعوة وآلياتها".
ونوه في حديثه لـ"عربي21" بالجهود المميزة التي يقومون بها في (منظمة الزكاة العالمية) والتي تحدث تجديدا في كثير مما يتعلق بالزكاة، مشددا على أن "الشرط المهم في ذلك كله أن تكون أدوات التجديد صحيحة، وأن تكون أصول الاستدلال صحيحة، ولا تعارض قطعيات الدين وثوابته، وبعدها لا يحجر على آفاق التفكير والتجديد".
وفي السياق ذاته قال الباحث في الفكر الإسلامي، الدكتور عبد الله أخواض: "لا أحد يشك اليوم في الوظيفة الرسالية لهذه المؤسسات العريقة تاريخيا، وما أنتجته من خطابات كان لها الوقع الإيجابي على مسار الإنسان والمجتمع والتاريخ والحضارة، لكن تراجع هذه المؤسسات في بعض أدوارها جعلها تحت عملية الجرح والتعديل، والتقليل من نجاعة خطاباتها واجتهاداتها".
وتابع: "خاصة مع تكاثر المجامع العلمية ومزاحمة نماذج فكرية جديدة تجاوزت البراديغم التقليدي في خطابات المؤسسات التقليدية، فلم تعد تلك المؤسسات تعبر بشكل كبير عن طموحات المجتمع ولا تعنيه اجتهاداتها إلا في القليل، ما يعني أنه ليس بالضرورة أن تحتكر جهة بعينها هذا التجديد، وتفرض فهما خاصا للدين، ومعايير على المقاس، خصوصا أن الحقيقة الدينية تتكوثر حسب تعدد العقول والسياقات، فالنمطية غير مقبولة".
عبد الله أخواض.. باحث في الفكر الإسلامي
وإجابة عن سؤال "عربي21": هل ثمة محاذير إن جاء التجديد الديني من خارج تلك المؤسسات؟ لفت الباحث المغربي أخواض إلى أن "التوجس الحاصل اليوم بين مؤسسات العلماء وأهل الفكر ومؤسسات الدولة، واختلاف الأيديولوجيات والمنظورات، جعل من الاجتهادات التي تقدم من الخارج تقع مواقع مختلفة: إما الرفض المطلق لأسباب كثيرة.. وإما فتح حوار بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني العلمي في أفق بلورة تصور جماعي، وهذه قليلة الحدوث".
وتابع: "لكن الموقف الغالب هو التوجس وأخذ مسافة من تلك الاجتهادات التي ترد من الخارج، وهذا في رأيي يطيل من عمر الأزمة في صياغة خطاب ديني متوازن متوافق عليه، يعين على بلوغ الغايات، ويجنب البلاد الكوارث والمعرفة الخاطئة".
وأشار إلى أن "الأفكار اليوم متاحة للجميع، والمعرفة لم تعد حكرا على جهة دون أخرى، فالأمر يرتبط بقوة الجهة المنتجة للفكرة، فهذا يمكن أن يحقق المبتغى ويساهم في تطور الحياة؛ وإن خالف المؤسسات الرسمية، لأن القضية ليست حدية صارمة، وقد يفضي إلى مآلات سيئة في حالة صدوره من جهة قاصرة وغير مؤهلة، أو يحمل تصورات متصادمة مع الدولة واختياراتها".
وخلص إلى القول بأن "المسألة ترتبط بقوة الأفكار التي تطرح وجاذبيتها في الإصلاح، وقدرتها على السير بشكل طبيعي يراعي الواجبات والحقوق، ويحفظ الحقيقة الدينية، لا تزويرها وتشويهها، والتجديد الخاضع لسنن الله في الكون وطبائع الناس في العمران، فالدولة ومؤسساتها والمجتمع ومؤسساته ينبغي أن تشكل حالة من التكامل المفروض لا حالة من التنافر المرفوض".
بدوره انتقد الأكاديمي والمستشار التربوي الأردني، الدكتور صالح نصيرات طبيعة التجديد الذي يأتي من قبل "علماء" بقوله: "وفي المقابل نجد بضاعة مزجاة لأناس سموا أنفسهم "علماء"، ليس لديهم أي جديد، فهم حفاظ ينقلون ما قاله فلان وعلان، فهم في الحقيقة عالة على غيرهم، وليس لهم دور سوى الشرح والتفسير، لأنهم يدخلون ميدانا يفترضون ابتداء أنه قد وصل فيه من سبقهم إلى نهاية المطاف، ولا مجال لفهم يستجيب لمتطلبات الواقع ومستجدات الحياة، ويغلب على خطابهم لغة متخشبة تتسم بالقطعية والإطلاق".
وتابع في مقال له، اطلعت "عربي21" عليه: "فنحن عندما ننظر بروية وتأمل وتفحص لما يكتبه هؤلاء "العلماء"، نجد أنهم لا يحققون مقولة الإمام مالك رضي الله عنه "كل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر" في إشارة إلى الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فالتاريخ وحركة الإنسان والإنتاج العلمي والفكري الإنساني لا قيمة لها عندهم.. فهم يتباهون بالشافعي وتطوير مذهبه بين العراق ومصر نظرا للسياقات الاجتماعية والثقافية المختلفة بين القطرين، ولكنهم في نفس الوقت عاجزون عن القيام بما فعله الشافعي وغيره".
وأضاف: "لعل حالة التسليم للأقدمين بالقدرة الخارقة على الاستنتاج واستقراء النصوص والوصول إلى مراد الشارع، يعني أننا إزاء حالة من تغييب الذات والاستمرار في نفس الطريق، وإذا ما تجرأ أحد وذكرهم بأن ما يفعلونه لا يخدم الدين ولا علومه، فإن وسيلتهم في الرد هي اختيار نصوص قرآنية أو أحاديث نبوية يتم استغفال العامة من خلالها لإدانة كل من يخرج على منهجيتهم وطريقتهم في الاستدلال".
ووصف طبيعة الجدل الديني الموسمي بين النسق التقليدي والتجديدي بقوله: "في كل نازلة أو مناسبة موسمية نجد نفس النصوص القرآنية والأحاديث النبوية يقرأها فريقان، هذا ينقل ما قاله الأقدمون، وآخر على النقيض منه تماما، وقلة قليلة تناقش بحيوية وتقدم رؤى جديدة، وفقها منسجما مع الواقع، ولأننا نعيش زمنا أتاح للغالبية القراءة والمقارنة من خلال ما تقدمه وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، فإننا نجد ميلا إلى الأفكار الجديدة والفتاوى الأكثر انسجاما مع الإنسان وقضاياه".
وانتهى نصيرات إلى القول: "لذا فلا غرابة أن نجد "اغترابا" بين شباب الأمة، وشعورا بعدم الحاجة إلى هؤلاء وما يقدمونه، فيتجه الشباب إلى آخرين اقتنصوا الفرصة لتقديم أفكار جديدة بحلل تبدو قشيبة زاهية، وحلول لمشكلات الشباب انطلاقا من رؤى مناقضة للدين وقيمه، ثم بعد ذلك يلومون الشباب ويتحسرون على حالة الطلاق الفكري مع "العلماء" والتوجه للسير خلف هؤلاء (المجددين)".