كتاب عربي 21

حوار أم خوار.. مفاهيم ملتبسة (8)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
كنت وأنا أُدّْرس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أطرح على طلبتي خماسية مهمة؛ أن الاختلاف سنة كونية، وأن التعدد حقيقة حياتية، وأن التعايش ضرورة وطنية، وأن التعارف لا بد وأن يتشكل ضمن مسالك ومسارات عملية، وأن الحوار يشكل في كل ذلك أهم أداة وأنجع آلية.

يبدو لنا أن مفهوم الحوار في أساسه إنما يقوم على تلك الضرورات المتعلقة بالوطن واجتماعه، والأمور التي تتعلق بإدارة التعدد والاختلاف والمشترك فيه، والقدرة على تحقيق حد أدنى يجمع شتات الجماعة الوطنية ويحدد أصول المصلحة الوطنية والقومية، والقدرة على استيعاب كل متطلبات مفهوم المواطنة والمواطنية. إن هذه الأمور جميعا إنما تشكل أصلا من أصول كل دعوة لحوار داخل الوطن، إذا ما تمتعت تلك الدعوة بالشرعية والمعقولية والمقبولية. ربما أن العمل في مسألة الحوار أو الدعوة إليه يشكل ضمن هذه الرؤية الكلية آلية من الآليات المناسبة لأن نؤسس لما يمكن تسميته بـ"استراتيجية حوارية".

ليست هذه هي المرة الأولى -ولن تكون الأخيرة- التي نستمع فيها إلى دعوات الحوار داخل الأوطان، وفي كل مرة نستدعي تلك الدعوات السابقة وربما ينتظر البعض دعوات لاحقة خاصة في أوقات الأزمات. وفي كل الأحوال فإن هذا الأمر لم يكن في كثير من الأحوال إلا دعوة تعبر عن شعارات، وتصدر من صاحب السلطة لتمرير موقف أو سياسة أو يعبر بها أزمة أو يعتبرها فرصة.
صارت الدعوات إلى الحوار مكرورة على مر التاريخ؛ فهذا حوار وطني، وذاك حوار مجتمعي، وثالث حوار قومي ورابع حوار سياسي، وبدت تلك الكلمات كلها بدايات لمعزوفات إعلامية تترافق مع دعوات الحوار تلك. ومن أغرب تلك الدعوات للحوار أن يتم الدعوة للحوار الذي يجرى في سراديب الوطن لا يعرف عنه شيء

صارت الدعوات إلى الحوار مكرورة على مر التاريخ؛ فهذا حوار وطني، وذاك حوار مجتمعي، وثالث حوار قومي ورابع حوار سياسي، وبدت تلك الكلمات كلها بدايات لمعزوفات إعلامية تترافق مع دعوات الحوار تلك. ومن أغرب تلك الدعوات للحوار أن يتم الدعوة للحوار الذي يجرى في سراديب الوطن لا يعرف عنه شيء؛ من أول المشتركين فيه إلى أجندته وبرنامج عمله، فتولد دعوات الحوار وتوأد في آن واحد لأسباب شتى ولأغراض خفية تحقيق مصلحة فئة بعينها، خاصة حينما تصدر هذه الدعوة في كل مرة من أصحاب السلطة مع سيرة استبدادهم الطاغية والطافحة.

في كل مرة تقام أسواق الحوار تلك فيدعو لها الداعون ويتداعى لها المحاورون من كل صوب وحدب، فهذا يطلب، وذاك يطالب، حتى تنفتح حواري متفرقة للحوار، ويصير الأمر أشبه بدوامة، فهذا حوار قبل الحوار، وهذا حوار أثناء الحوار، وذاك حوار بعد الحوار. وفي معظم مرات هذه الدعوات ينفض السامر من غير أي محصلة نافعة، وبدون أي حصيلة جامعة تعبر في النهاية عن إقامة لتلك الأسواق التي هي أشبه بالموالد الشعبية، التي يزيد فيها الضجيج والزحام، ويجتمع فيها من كل صوب وحدب، وغالبا ما يتحول إلى مائدة من اللئام، ويتحول هذا الحوار إلى مادة لا تحقق أي وئام أو التئام. وربما يتحول إلى اقتتال بالكلمات وربما اللكمات المادية والمعنوية، فتمارس ذلك ضمن حروب أهلية كلامية؛ سياسية أو فكرية.

ليست هذه دعوة مسبقة لمصادرة الحوار، ولكنها دعوة للإعداد له في ظل ظروف مواتية حتى نحصِّل ثمرته ونحصد إيجابياته.
ما هي أسباب تلك الدعوات المتكررة لأشكال الحوار الكاذب، شأنه شأن الحمل الكاذب الذي يغطي على حقائق الأشياء ويقع في دائرة خداع الذات والأماني الزائفة؟

فما هي أسباب تلك الدعوات المتكررة لأشكال الحوار الكاذب، شأنه شأن الحمل الكاذب الذي يغطي على حقائق الأشياء ويقع في دائرة خداع الذات والأماني الزائفة؟ فالدعوة إليه ليست إلا لفتا للانتباه بمثل إقامة هذه الموالد العامة التي لا طائل من ورائها طالما افتقدت الرؤية، وأغفلت الاستراتيجية، وقام عليها شلة من المنتفعين الذين لا يتحاورن في حقيقة الأمر أكثر من كونهم يحاولون صياغة شكل من الأشكال يأتي إليه طوائف من الخلق مذعنين. ويمارس هؤلاء حوار الطرشان الذي ربما قد يتحول في النهاية إلى شجار لا حوار، مع أن القضية واضحة والمسائل بينة، والوطن يئن تحت طوارق هذا الجدل البيزنطي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، طالما ظل من يرفع راية الحوار لا يعرف لمعاني الحوار معنى أو مبنى أو مغزى، ولكنه فقط يرفع الشعارات في محاولة صناعة صورة، أو تزييف قضية، أو إضفاء شرعنة على باطل وعلى سياسات باطشة، وعلى أحوال تتسم بالطغيان والاستبداد.

إنها فعل فرعون حينما أراد حوار السحرة الذين وعدهم فرعون بالأجر إن كانوا هم الغالبون، أو هو أمر يتعلق بالحشد في سياق إرسال هؤلاء إلى المدائن حاشرين، وبين كل هذه المشاهد تُرتكب كل أنواع الزيف، فالأمر ليس بالحوار و"لا يحزنون"، إنما هو الزبد الرابي الذي يحاول التغطية والتعمية على أزمات بنيانية فادحة وفاضحة، يريد أن يحول الانتباه، وأن يصنّع الاهتمام، وأن يزيف الوجهة.

دار كل ذلك في خلدي حول دعوة حوار مشبوهة في النهاية تفتقد إلى بيئة الحوار، وإلى مستلزماته الأساسية، وإلى شروط الفاعلية فيه، بينما استمرت كل مشاهد القهر والطغيان، ومشاهد الأحكام الظالمة، وشهدت تلك الأيام حكما قضائيا بحفظ قضية الباحث الاقتصادي "أيمن هدهود" الذي عُذب حتى القتل حينما أبدى رأيا حول مسائل اقتصادية.
دار كل ذلك في خلدي حول دعوة حوار مشبوهة في النهاية تفتقد إلى بيئة الحوار، وإلى مستلزماته الأساسية، وإلى شروط الفاعلية فيه، بينما استمرت كل مشاهد القهر والطغيان، ومشاهد الأحكام الظالمة، وشهدت تلك الأيام حكما قضائيا بحفظ قضية الباحث الاقتصادي "أيمن هدهود" الذي عُذب حتى القتل

هل أتاك حديث يتعلق بالمستشار هشام جنينة الذي يقبع في السجن بعدما كشف عن أرقام متواضعة للفساد بحكم وظيفته رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات، صارت الآن أضعافا مضاعفة؟ هل يمكن ضمن هذه الحال الاستبدادية أن يتحدث المستبد وزبانيته عن حوار وطني وديمقراطي، فيقول بعضهم: دعونا إلى الحوار وآثرنا ألا نسيطر عليه، في فائض كلام ممجوج، تكذبه كل سياسات النظام الباطشة، وكل أحوال حقوق الإنسان التي ترتكب فيها انتهاكات فاضحة، بل إن البعض من هؤلاء الذين سيشاركون في الحوار خرجوا من السجون بعفو لينضموا مباشرة إلى مائدة وجوقة الحوار.

ومن عجب أن يدلي هؤلاء هنا وهناك بتصريحات وصفها البعض بـ"الخليعة"، حينما تشكل في حقيقة الأمر استهانة واستخفافا بأصل الظاهرة الحوارية وجوهرها. فهذا يستبعد، وذاك يؤكد بأنه لا يمكن لمن تلوثت يده بالدماء أن يشارك في الحوار، فماذا عن هذا الذي يدعو للحوار ويده تقطر "دما" بمجازر ارتكبها في حق الإنسان والمواطن المصري في رابعة وأخواتها، وصولا إلى استخدام الطائرات الحربية بالتعاون مع فرنسا؛ في غارات جوية استهدفت مدنيين في منطقة الصحراء الغربية بمصر في العملية المعروفة بـ"سيرلي"؟

ثم يهرول هؤلاء ويقول أحدهم إن على هؤلاء أن يعترفوا بما جاء في الدستور، وهو يعرف أن هذا المستبد العاتي الداعي للحوار هو من ينتهك الدستور ليل نهار، وهو من يخرج بتعدياته في شكل تعديلات على الدستور، فصار يحكم ويتحكم من دون انتخابات، ليخرج بعض هؤلاء الذين يتفلسفون في ميدان وحقل العلوم السيسية وليس السياسية، ليقترحوا له مخارج حتى يقر ويستقر في حكمه من دون انتخابات حتى الزائفة والمزورة.

يبدو أن المستبد وزبانيته قد ملوا حتى تلك الانتخابات التي يزورونها، وصارت تلك الانتخابات عبئا عليهم، ثم يدعون بعد ذلك إلى حوار، يقول أحدهم -وأسفاه عليه- وقد خرج من سجنه حديثا: "على هؤلاء الذين سيشاركون في الحوار أن يتراجعوا لوصفهم لذلك النظام بأنه نظام انقلابي".. ما هذا الهراء الذي يتعلق بما يسمى بالحوار وفي حقيقة الأمر ما هو بالحوار؟ إنه الخوار الوطني مرة بضم الخاء ومرة بفتحها.
هذا الخوار الذي أصاب الجماعة الوطنية بفعل فاعل من ذلك النظام الانقلابي الذي زرع الكراهية وصنع الفرقة ودعم بيئة الاستقطاب حتى يأمن ويحكم ويتحكم؛ هو المسؤول عن هذه الأوضاع التي أحدثت أزمات هيكلية في المجتمع وبنيته القيمية، وكذلك مزق أوصال شبكة علائقه الاجتماعية والسياسية والوطنية

"الخُوار الوطني" هو ذلك الصوت الزائف المصنوع بعدما أشربوا السلطة في روعهم (عجل له خُوار) يمثل زيف السامري، وزيف خطابه، وزيف عجله المصنوع من ذهب له بريقه، وخواره الزائف الذي افتتن به الجموع، فهذا أول معنى للخُوار الوطني. أما معنى "الخَوار الوطني" فإنما يشير في حقيقة الأمر إلى هذا الضعف البادي في بنيان المجتمع ونظمه التي قامت هذه المنظومة الاستبدادية بتقطيع أواصر جماعته الوطنية، فعبرت عن أخطر لحظات ضعفها، وعن أكبر لحظات أزماتها؛ أزمة اقتصادية طاحنة، وأزمة وطن تعرض للبيع مع سبق إصرار وترصد، ومن بعد ذلك يقولون إننا مدعون لحوار حول أجندة برنامج العمل الوطني وأولوياته!

إن هذا الخوار الذي أصاب الجماعة الوطنية بفعل فاعل من ذلك النظام الانقلابي الذي زرع الكراهية وصنع الفرقة ودعم بيئة الاستقطاب حتى يأمن ويحكم ويتحكم؛ هو المسؤول عن هذه الأوضاع التي أحدثت أزمات هيكلية في المجتمع وبنيته القيمية، وكذلك مزق أوصال شبكة علائقه الاجتماعية والسياسية والوطنية، وقام بكل ما من شأنه أن يدعو عناصر نخبة وطنية زائفة خائفة كنت أصفها بالمحنطة؛ فصارت منحطة لمشاركتها في المس بكيان المجتمع وأعصابه ومفاصله ولحمة الجماعة الوطنية وتماسكها.

هل يمكننا أن نتساءل من بعد ذلك أهذا حوار أم خوار؟! تساؤل مشروع، ولا زال للحديث بقية.

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (1)
حمدى مرجان
الأربعاء، 29-06-2022 11:48 ص
استاذنا الفاضل / اليوم اصبحت جميع المواقع المحجوبة متاحة ، ولا ادرى ان كانت بداية او نهاية ، عموما نأمل الخير فمع كل عسر يسران ، حكم العسكر ومعهم اللبيراليون 70 سنة وكانت النتيجة خراب يتلوه خراب ومن فوقه خراب ومن تحته خراب ، ودول العالم التي يحكمها شعبها في تقدم واذدهار ويحكمون العالم ، ونحن نبحث عن رغيف خبز في صندوق النقد بضعفي ثمنه ، ما اسوأمن الغباء الا الجهل ، ومع ذلك فهما الحاكم