يعيد مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف إعادة نشر رسائل علمية ترتبط بسجالات حالية، ومنها ورقة بحثية بعنوان "نشأة
الفقه الاجتهادي وأطواره"، وهي للشيخ "محمد علي السايس" أحد كبار علماء الأزهر الشريف، وقد انتقل إلى جوار ربه عام 1396هـ/ 1976م.
نقلنا في
المقال السابق صورا من الاجتهاد الفقهي في عهد النبي وخليفتيه أبي بكر وعمر، وانتقل بعدها الشيخ إلى بيان صور الاختلاف في تأويل النص بين الصحابة. ويمكن القول إن الخلاف نشأ لأن النبي كان موجودا فيفصل في الخلاف أو يقرّ الرأيين، وبعد انتقاله إلى جوار ربه، أصبحت اللغة محل اعتبار في التفسير، وبدأت تنشأ صور قبول الروايات من الأشخاص، وظهر العموم والخصوص، والتقديم والتأخير في وقت النزول، فتشكّلت في عهدهم المادة الأوّليّة لعلم أصول الفقه فيما بعد.
فمثلا اختلفوا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها، فرأى سيدنا عليّ أن تَعْتَدّ بأبعد الأجلين (وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرة أيام)، ورأى ابن مسعود أن تعتدّ بوضع الحمل لأن آيته متأخرة في النزول.
الخلاف نشأ لأن النبي كان موجودا فيفصل في الخلاف أو يقرّ الرأيين، وبعد انتقاله إلى جوار ربه، أصبحت اللغة محل اعتبار في التفسير، وبدأت تنشأ صور قبول الروايات من الأشخاص، وظهر العموم والخصوص، والتقديم والتأخير في وقت النزول، فتشكّلت في عهدهم المادة الأوّليّة لعلم أصول الفقه فيما بعد
"ومن ذلك: أفتى عمر بن الخطاب بأن المطلقة بائنا لها النفقة والسُّكنى عملا بقوله تعالى: "لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبيِّنة"، وردَّ حديث فاطمة بنت قيس إذ قالت: "بَتَّ زوجي طلاقي فلم يجعل لي رسول الله نفقة ولا سكنى"، فقال عمر: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري حفظت أم نسيت".
وتجدر الإشارة إلى أن قول الفاروق ليس انتقاصا منها لكونها امرأة، فهو الذي قال أصابت امرأة وأخطأ عمر، بل كان رضي الله عنه يضع لنفسه شروطا في قبول الروايات، وهو لا يدري حال الراوية، وفعل مثل ذلك مع المغيرة بن شعبة في مسألة ميراث، وطلب منه أن يأتي بأحد معه يوثق ما نقله عن النبي، إذ لم يكن فيها نص قرآني ولم يسمع الفاروق بحديث فيها، فالقضية هنا لا تتعلق بالذكورة والأنوثة، بل تتعلق بشروط قبول الرواية.
انتقل الشيخ بعد ذلك إلى الاجتهاد في العصر الأموي، وذكر أن الاجتهاد سار على نفس المنوال في عصر الراشدين، "إلا أنه جدّت في هذه المرحلة أحداث سياسية وأخرى غير سياسية كان لها أثر ظاهر في الحركة الاجتهادية". أول هذه الأحداث "تفرّق
المسلمين وتنازعهم حول الخلافة ومن أحق بها، وتميّزهم بسبب ذلك إلى خوارج، وشيعة، وجمهور مخالف لهما (..) فلم يعد الإجماع ميسورا، ولم يعد لمبدأ الشورى من المنزلة كل ما كان له فيما سلف، وهذا التفرّق السياسي هو أول الأسباب التي أدت إلى الاضطراب
الفكري، وكان له أكبر الأثر في تشعب الخلافات الفقهية".
وثانيها، "تفرق الصحابة في الأمصار"، وقد كان الصحابة يختلفون في أفهامهم وتفسيراتهم، فأصبح لكل قُطْر ثقافته التي أخذها من الصحابي الماكث فيه.
نشأ الوضع في رواية الأحاديث لعدم إمكان حصر ما قاله النبي على مدار فترة بعثته، وظهر التعصّب المذهبي والسياسي، وكذب الوضّاعون لتدعيم مذهبهم أو رأيهم، ونشأ في مقابل الوضع اهتمام مبالغ بتوثيق الرواية، ثم ظهر المتمسكون بالنصوص والآثار وهم الذين يُطلق عليهم أهل الحديث
وثالثها، "شيوع رواية الحديث"، وقد كان هناك تفاوت أيضا في حمل الصحابة للحديث وفي الفهم أيضا. "واستتبع هذا اختلاف الفتوى كما لا يخفى، وكان بعد ذلك أن شعر العلماء بأن في الأمصار الأخرى عِلْما غير علمهم، فأكثروا من الرحلة وعملوا على توثيق الروابط العلمية بين الأمصار". وإشارة الشيخ هذه تبدي جذور وأسباب الارتحال في طلب الحديث.
ورابعها، "ظهور الوضّاعين"، وقد نشأ الوضع في رواية الأحاديث لعدم إمكان حصر ما قاله النبي على مدار فترة بعثته، وظهر التعصّب المذهبي والسياسي، وكذب الوضّاعون لتدعيم مذهبهم أو رأيهم، ونشأ في مقابل الوضع اهتمام مبالغ بتوثيق الرواية، ثم ظهر المتمسكون بالنصوص والآثار وهم الذين يُطلق عليهم أهل الحديث.
أما العصر العباسي، فقد كان عصر النضج واتساع الفقه، "وحسبك أنه أنجب ثلاثة عشر مجتهدا، دُوِّنت مذاهبهم وقُلِّدت آراؤهم، واعترف لهم الجمهور الإسلامي بالإمامة والزعامة الفقهية، وأصبحوا هم القدوة والقادة؛ فسفيان بن عيينة بمكة، ومالك بن أنس بالمدينة، والحسن البصري بالبصرة، وأبو حنيفة وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، والشافعي والليث بن سعد بمصر، وإسحاق بن راهويه بنيسابور، وأبو ثور وأحمد بن حنبل وداوود الظاهري وابن جرير ببغداد.. إلى جانب هؤلاء كثير ممن لم يسعدهم الحظ بانتشار مذاهبهم".
يوضح كيف نشأ الاجتهاد بدءا من عصر النبوة وانتهاء بعصر أئمة المذاهب الأربعة الكبرى في القرن الثالث الهجري، ويكشف أنه كانت هناك حيوية في التراث الإسلامي في تناول النص، وكانت هناك مناقشة تجري حول المسائل الفقهية بين كبار الصحابة وكبار فقهائهم أثناء العصور الأولى عقب انتقال النبي، فلم يجرِ احتكار لتفسير النص الديني
هذا الإيجاز الذي كتبه الشيخ السايس، يوضح كيف نشأ الاجتهاد بدءا من عصر النبوة وانتهاء بعصر أئمة المذاهب الأربعة الكبرى في القرن الثالث الهجري، ويكشف أنه كانت هناك حيوية في
التراث الإسلامي في تناول النص، وكانت هناك مناقشة تجري حول المسائل الفقهية بين كبار الصحابة وكبار فقهائهم أثناء العصور الأولى عقب انتقال النبي، فلم يجرِ احتكار لتفسير النص الديني، ولم يكن هناك إجبار على فهم واحد، ولم يكن هناك قبول لرواية واحدة دائما، بل كان الصحابي يطلب شهادة نظير آخر لتوثيق المسألة إذا أشكلت المسألة ونَقَل أحدهم نصّا عن النبي، كما أوضح الشيخ سكوت الوحي عن المسائل لتدريب الصحابة ومَن بعدهم على الاجتهاد والتفكير.
هذه الحيوية التي امتاز بها الفقه الإسلامي، استحالت إلى الجمود والتيبّس كأحد عوامل الاستجابة للتدهور الحضاري والثقافي الذي أصاب الأمة، وارتبط الجمود بالفساد السياسي وتنازع الحكومات والأسر الحاكمة على المُلْك، ثم طرأ في آخر قرنين عامل الاحتلال الأجنبي، ووجود تابعين للدول الخارجية في الثقافة والفكر والسياسة، فنشأ استبداد غير مسبوق، لا يبغي السيطرة على القرار السياسي فقط، بل توجّه إلى أفكار وعقول المجتمع، وأراد السيطرة عليها، لأن الفكر الحر يعني إرادة حرة، ومن هنا توجّه الاستبداد ضد كل أنواع الفكر، وفي القلب منه الفكر الديني، لأنه عصب الثقافة في المنطقة، فأصبح الاستبداد سبب الجمود، ولجرأة المستبدين فإنهم يعتبرون التراث الديني سبب التراجع الحضاري، فأي وقاحة هذه؟
twitter.com/Sharifayman86