هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: الطريق إلى محتشد رجيم معتوق
الكاتب: عمار الجماعي
الناشر: دار ورقة للنشر تونس 2019.
عدد الصفحات: 150 صفحة
مثّل طلبة الجامعات عنصر إزعاج للسلطات التونسية زمني الرئيسين الأسبقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، فقد جعلوا يحشرون أنوفهم في الشأن السياسي ويتجرّؤون على ما اعتبره الحزب الحاكم وقفا خاصّا. ولكنّ الدولة وجدت الحل العبقري لتكف عن نفسها أذى هؤلاء "المشاغبين". فبدل أن تجرّهم إلى المحاكمات السياسية وتثير غضب الحقوقيين وضجيجهم، كانت تلحقهم بالخدمة العسكرية، وتنفيهم إلى منطقة "رجيم معتوق"، تلك المنطقة الواقعة في الجنوب الغربي على الحدود الجزائرية، أو المهلكة لذي المسغبة والبيداء التي دونها بيد. ومن يجرؤ من الطلبة على الهرب إلى العطش القاتل؟ "والراجل فيكم يجرب يهرب" يقول لهم الملازم.
وفي "الطريق إلى محتشد رجيم معتوق"، يسرد الشاعر والروائي عمار الجماعي، أحد ضحايا هذه السياسة محنة اعتقاله مع مجموعة من الطلبة سنة 1987 هناك.
1 ـ الرجل الطفل أو الطفل الرّجل
من مقهى النصراوي يبدأ النص مغامرة القصّ والكاتب يغالب الذكرى ويستأنس بقهوة معقولة الثمن. فيكون زمن الحاضر نقطة ارتكاز منها تتوغل الحكاية في زمن الماضي، ليستعيد محنة طالب يرتكب جريمة "التفكير الحرّ" ويقرر وطنه معاقبته بـ"أداء الواجب الوطني المقدس". فيغالب الذكرى كعامة كتّاب السير الذاتية. ومن حظّه أن الذاكرة لا تزال متوقدة تضع يوم اعتقاله وأخذه لزنزانة وزارة الداخلية "حَيثُ وَضَعَهُ اللهُ مِنَ الشهْرِ وَالسنَةِ". فتشرع في استدعاء صورة الماضي وفي تشكيل صورة الشاب البدوي المحب للحرية بالفطرة، المتحدي لمختلف أشكال الهيمنة والتسلط، ويعرض وجوها من صموده على الشدائد في المعتقل، ومواجهته لتغريبته في صحراء التيه والعطش، وتسلط رجال الجيش حماة الوطن وقامعي الطلبة.
نسمع خبر المخبر الذي يظهر في المقهى فجأة ويأخذ في الاعتراف بما كان يحبر من التقارير في شأنه وفي شأن رفاقه، ببذاءة وواقعية فجّة تمعن في تصوير فعل الجوع، فـ"يعجن الألم" ويحوّله إلى مصدر للفخر. فالثورة قد انتصرت، ولحظّه لم يفته أن يكون أحد فرسانها، المنتشين بانتصارها، أو هكذا نعتقد على الأقل.
ومع أن القصّ يتعلق بسيرة ذاتية وبتصور أحداث الماضي، إلا أن القارئ كثيرا ما يتقبلها من إدراك عمار الجماعي الكهل الشاعر وأستاذ العربية، الذي يقول شعرا فينساه ثم يجده قد شاع بين الأنام وتتغنى به الفرق الملتزمة، ويتذكر ركوبه الحافلة فيجد الجنود يتغنون بأغانيه في المحتشد:
"نسكن حتّى القزرنات صغير وعايش برجوليّة-
وإن شاء الله توفى المحنات ونرجعولك يا كليّة".
2 ـ جراح الذاكرة والانتقام
ولعلّ أبهى صور الرجولة التي يعيشها هذا الصغير ويستعذب الكبير ذكرها، يوم استعطفه العريف "مطوسي وقد رافقه إلى مستشفى الحامة ثم إلى منزله، وكان يعرف أنه يفكر في الهرب [وأذهلني حين قال: "تحبّ تهرب؟" أجبت قاطعا: "نعم"... طأطأ رأسه وأردف: "راني بو أولاد يا عمّار"... فتزلزلت الأرض تحت قدمي]. ولم يخل تذكر الماضي من وطأة مشاعر الكاتب حاضرا ومن ردة فعل انتقامية تصف مستقبليه من أعوان الجيش، ومعذبيه لاحقا بالدمامة والوسخ، فهؤلاء [خلايق مقلبة] وهذا الرقيب أول يبتسم عن أسنان سوداء من تبغ الجيش. ويمعن الجماعي أحيانا في انتقامه فيطال "رفاق السلاح" أنفسهم، كأن يصف محسن مرزوق على لسان شكري بالعيد بـ"ذاك[الذي] باع نفسه" . فيصفي معه حسابا بعد سبع وعشرين سنة من تعاليه عليه وهو يصفه بـ"الجربيع".
ويصل الانتقام ذروته مع ذلك المخبر المعترف، فشهامته البدوية تمنعه من ألّا يمنح الغفران لطالبه وقد اعترف بخطئه، ولكنه غفران يؤذي أكثر مما يمنح النفس المعذّبة السكينة، يقول له: "عن نفسي، الله يسامحك... لكن ورحمة الوالدة الطاهرة لن أسامحك في حقّ رفاق السّلاح.. ادفع ثمن قهوتك".
ولكن منظور "هذا الطالب الصغير" الذي "يعيش برجولة" كثيرا ما يشكل عنصر جذب ومركزا يسهم بدوره في منح اللحظة اللون والرائحة التي يريد. فتحت سطوح الفخر والتباهي التي يعمل الكاتب على إبرازها يكمن تأثير الماضي. فيرن في كلمات الفخر صدى الندم والألم لطالب ساقه قدره إلى المحتشد، والحال أنه لا ينتمي سياسيا إلى أي فصيل طلابي ويكاد يوجد وحيدا، تائها على مدار السيرة. فلا نراه يدافع عن فكرة أو إيديولوجيا، بل نجده ساخرا من غي الإسلاميين الحالمين بالخلافة واليساريين الحالمين بالعدالة الكونية والقوميين المدافعين عن المستبد العادل، فلا نعرف لاعتقاله سببا ويرسّخ السرد فينا الشعور بكونه معتقلا بلا قضية يدافع عنها وبلا قصة يرويها.
3 ـ مناضل "رغم إلي خانوا ورغم إلي هانوا"
لقد درج معتقلو الرأي على أن يجعلوا سيرهم سيرا فكرية بالأساس، وأن يجعلوا اعتقالهم نتيجة لتراكمات أزعجت السلطات. أما سيرة الجماعي، فسيرة وجدانية، تجعل الاعتقال منطلقها وكتابة المؤثّر غايتها؛ فلم يقدم نفسه بكونه الأكثر شجاعة من بين رفاقه أو الأكثر وطنية أو الأكثر نضجا. لقد كان، بكل بساطة، الأكثر تعرضا للظلم أو قل كان ضحية مرتين: فقد كان ضحية للتعذيب والاعتقال، وضحية لوجع الضمير لما سبب لوالديه من الأذى.
في دهليز الوزارة الرّماديّة ذات الهيبة... لم أكن منتميا، ولكنّي كنت أبحث عن "جنوبيّتي" الرافضة للسّلطة التي جوّعت أهلي وهمّشت تاريخ بلدي، وصنّفتنا منذ صراع "يوسف وشدّاد" حتى الصراع البورقيبي اليوسفي، وصولا إلى صراع اليسار والإسلاميين مع بورقيبة ضمن الهامش "غير المرغوب فيه ".. كنت أحمل بين جوانحي تمرّدا.. لعله ما يزال يلازمني حتّى كتابة هذه الكلمات.
وبالفعل فهي لا تقع على الإنساني ولا ترتقي إلى مصاف الأدب الأصيل، إلا حينما تغوص في جرح رجل نازف وهو يشق طريقه نحو محتشد رجيم معتوق، وتصف وجعه الشخصي لخيانة الحبيبة وقسوة الرفيق المتعالي الثائر على الطبقية وهو يصفه بالجربيع ولألم الأم وبكاء الأب. وها هو اليوم ضحية مرتين أيضا، فقد أضحى على قناعة بأنه بذر العمر وهو "يطارد خيط دخان"، وبأن الثورة لا توزع حنانها على أبنائها بالعدل، وبأنه "جربيع" قبلها و"مقرود " بعدها [المحروم من الميراث في العامية التونسية]. فيرفع صوته أمام الملأ في كبرياء، ليعلن أنه المناضل الذي ينكرون بعد أن اقتسم "المنتمون" شرف النضال و"ماله".
4 ـ البدوي الذي يضل طريقه إلى المدينة
يحرص "الطريق إلى محتشد رجيم معتوق" منذ البداية على تأسيس مفارقة بين فضاءين مختلفين، فجعل الخيمة (كناية عن البادية) تنتصب في قلب المدينة في أثناء اعتصام القصبة. وقد يجد القارئ المفارقة في الشكل والمعمار أو في الأدوار السياسية، فلطالما مثلت المدينة المركز والسلطة ولطالما مثل الأعراب صداعا في رأس المدينة. ويضيف الأثر للمفارقتين ثالثة ظل يلح عليها على امتداد صفحاته؛ فيربط بين البداوة والقيم الأصيلة، من شجاعة وإيثار للآخر ووفاء وكرم، ويجعل من المدينة نقيضها في الآن نفسه، فيصلها بكل مرادفات الزيف والفساد والخذلان.
غالبا ما يستدعي عمار الجماعي الفضاءين في سياق مفاضلة على الصعيد الأخلاقي والسياسي والعمراني؛ فكل الروائح البدوية الصحراوية طاهرة زكية طبيعية، أما المدينة فتعمها رائحة الإسفلت الكريهة [لم تزعجني الصحراء أبدا... تزعجني الواجهات البلوريّة ورائحة الإسمنت والإسفلت، فأنا مولود في الرّيح وأوّل ما تنفّست عطر الخزامى القادمة من جبل " العيدودي"، الذي شهد أوّل طلقة بندقيّة مقاومة حين كان "الزّعيم" يفاوض!"]. والرجل البدوي يختزل عنده قيم الرجولة والفروسية والفتوة على خلاف المديني الفاقد للكرامة والحياء، وبهاء المرأة البدوية بهاء الجسد والروح الحيية؛ فلا تضحك الضحك الدّاعر، ولا تفحش في الكلام كما تفعل نظيرتها المدينية.
أما على المستوى السياسي، فينتصر النص إلى الفلاقة، أجداده البدو الذين يرفضون الاستسلام، بالفطرة، ويقاومون حتى الموت ويومئ إلى اتهامهم لبورقيبة ـ المديني ـ بالتنكر لقيم الكفاح والقبول باستقلال منقوص، بحجة التكتيك أو الدهاء، ويتخذ الفعل "يفاوض" دلالة البيع والشراء والربح والخسارة. ولا يمكن أن تمر حكاية عمار مع حبيبته المدينية الرقيقة مرورا عابرا، رغم أنه يذكرها على استحياء؛ ففيها اختزال للفضاءين بليغ: يوصي بها خله الودود المديني الساحلي بحبيبته العاصمية في أثناء اعتقاله. ومن شدة إخلاص الخلّ في العمل بالوصية، يتزوجها نيابة عنه.
5 ـ الكاتب صعلوكا مغدورا
يرسخ الكاتب في ذهن قارئه قاعدة بيانات ليتم في ضوئها تأويل النص، ومدارها على تحرره من الانتماء الحزبي ومقاومته لصفة الهامش غير المرغوب فيه [في دهليز الوزارة الرّماديّة ذات الهيبة... لم أكن منتميا، ولكنّي كنت أبحث عن "جنوبيّتي" الرافضة للسّلطة التي جوّعت أهلي وهمّشت تاريخ بلدي، وصنّفتنا منذ صراع "يوسف وشدّاد" حتى الصراع البورقيبي اليوسفي، وصولا إلى صراع اليسار والإسلاميين مع بورقيبة ضمن الهامش "غير المرغوب فيه ".. كنت أحمل بين جوانحي تمرّدا.. لعله ما يزال يلازمني حتّى كتابة هذه الكلمات..."].
ويظل يراكم الصفات حتى تشكل كلا منسجما، منها الفقر والهزال والسمرة والوجود منفردا في غالب الأحيان، ويسيّج وجوده بطائفة من القيم أهمها الرجولة والشجاعة والصبر والجلد والصلابة، فقد نشأ على حفظ العهد ورفض الظلم وعدم الوشاية برفاقه والحلم، فتزلزل الأرض من تحت أقدامه والمطوسي يترجاه ألا يهرب من المستشفى ويعرضه هو للمتاعب، قائلا: "راني بو أولاد يا عمار"، ويضحكه حين لا يثق بوعده له بألا يفعل. ومن ثمة لم يُبكه الضرب المبرح الذي تعرض له في وزارة الداخلية، وإنما أبكاه وصف الجلاد له بعدم الرجولة. وما الذي رمى به في زنزانتها غير قيم الرجولة؟
تستبد فكرة التمرد بذهن الجماعي وتأخذ بمجامع قلبه، ويسيّج تمرده بطائفة من القيم تكشف عن تمثله لذاته، باعتباره صعلوكا يفقد الإحساس بالترابط القبلي ويثور على القبيلة وعلى سلم التراتب الاجتماعي فيها. ويُسقط هذا كله على صورة الدولة الحديثة التي تفقده بجورها الإحساس بالانتماء إليها، فتختزل العَلم في "روح الحبيب" عوض أن تجعله رمزا لروح الوطن، فلا تبقي لهذا القادم من الأحراش إلا أن يقيم عدالته بنفسه، وأن يجعل من البادية الصحراوية ملاذه، ويجد في حيواناتها الوحشية رفقة.
والحقيقة أن لهذا الشعور أكثر من مبرر موضوعي. فبين الكاتب المعتقل والشاعر الصعلوك أكثر من قاسم مشترك، بداية من الفضاء الصحراوي المعادي، بين شدة للبرودة لاسعة وشدة للحر والهجير والرمضاء لافحة، وصولا إلى الفضاء الثقافي والاجتماعي. ففي الحالين يعيش هذا المهمش الفقر ولا يبقى له من أمل ليتدارك تهميشه وليتساوى مع سائر أفراد مجتمعه، غير سبيل المواجهة والصراع؛ فيصطدم بمجتمعه ويتبنى فطريا، الفلسفة الفوضوية، فيجعلها مظهرا من مظاهر تحقيقه لذاته. وكما تحرم القبيلة الصعلوك حمايتها، تحرم السلط المحلية ورئيس الشعبة عمارا رعايتها، وتعتبره من الفئة الضالة، وتدفعه إلى العيش فريدا طريدا.
يغذي الإحساس بالاضطهاد نزعته إلى الصعلكة، وقد بات يرى نفسه في الخروف المغدور الذي افتكه رفاقه من الرعاة الجزائريين وأكلوه بسبب الجوع، على أنّ صعلكته تتخذ دلالة سياسية واضحة؛ فهي تثور على دولة الاستبداد والحيف الجهوي في الجمهورية الأولى، وعلى دولة غنائم أدعياء البطولة في الجمهورية الثانية، ذلك ما يرْسخ في ذهن الجنرال المتقاعد وهو يعيش حالة من الاغتراب المضاعف اليوم، اغتراب في الفضاء وآخر في القيم، بعد أن كشفت الثورة على وجه آخر من الحيف.