انتهى
موسم الحج هذا العام المبارك، والذي وصل فيه عدد الحجيج إلى نحو مليون حاج، بعد أن أغلقت أبواب
الحج خلال الفترة الماضية
بسبب جائحة كورونا.. وحينما نعيش مشاعر الحج نجد أن هذه المشاعر ليست وقتية.. بل إنها ذات مشاعر ومشاعل نورانية مستمرة لما بعد الحج، وهي لا تقتصر على الجوانب التعبدية البحتة، بل تمتد للعبادة بمفهومها العام والشامل لكل ما يحبه الله ويرضاه، ومنها العبادة
الاقتصادية.
إن الحج منذ بدايته مرتبط بالاقتصاد فلا يحج الا
من استطاع إليه سبيلا. فالقدرة المالية هي الأساس في القيام بالحج -مع القدرة البدنية- ومن لم يمتلكها فلا حج عليه. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "بُني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً".
وفي الحج وقف خير خلق الله خاتم النبيين في
حجة الوداع خطيبا ومعلما ومرشدا، متعرضا في تلك الخطبة الجامعة لصلاح الدنيا والدين فقال- صلي الله عليه وسلم-: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال: اللهم اشهد".
الحج منذ بدايته مرتبط بالاقتصاد فلا يحج الا من استطاع إليه سبيلا. فالقدرة المالية هي الأساس في القيام بالحج -مع القدرة البدنية- ومن لم يمتلكها فلا حج عليه
إنها كلمات تكتب بماء الذهب، وما يخص منها الجانب الاقتصادي واضح جلي، فما أشد حرمة الأموال كحرمة الدماء.. والمال في الاقتصاد هو كالدم لجسم الإنسان والعدوان عليه بأكله بالباطل جريمة كبري، ويحول بين الدوران الطبيعي للمال والتخصيص الأمثل للموارد، ومن أشد سبل الاعتداء على المال: الربا الذي يمثل سرطانا في الاقتصاد كسرطان الدم سواء بسواء، وهو ما نشاهده في العالم اليوم من تخبط وآثار مدمرة للاستقرار النفسي والمادي، بتحويل النقود لسلعة يتاجر فيها لا بها بفعل سعر الفائدة التي بُني عليها النظام الرأسمالي، ففقدت النقود وظيفتها كمقياس حقيقي للقيم وحفظ الثروة وتسوية الديون والالتزامات.
والنبي -صلي الله عليه وسلم- لم تمنعه حرمة الربا في تلك الوصية الجامعة من أن يعطي القدوة بتحريم ربا عمه العباس الذي تربطه به صلة الرحم، فضلا عن رابطة الإسلام.. وهذا درس بليغ أن يبدأ الإنسان بنفسه وأهله فيكون قدوة لغيره.
كما أولى النبي -صلي الله عليه وسلم- في تلك الخطبة العظيمة أهمية لاقتصاد الأسرة، فالمرأة لها على زوجها حق الرزق والكسوة بالمعروف، في إطار المودة والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين، وهذا درس واضح لعلماء الفتنة وناشري النسوية الذين يريدون للمرأة أن تتمرد على بيتها باسم حقوق زائفة وخلق عداوات مفتعلة لا مكان لها في دين الإسلام ولا هدف لها سوى هدم الأسرة.
كما جاء ختام الوصية الجامعة بأنه صلى الله عليه وسلم قد ترك في أمته ما لن تضل بعده إن اعتصمت به، كتاب الله.. هذا الكتاب الذي فيه جوامع الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لتحقيق الرفاه للعباد في الدنيا والآخرة معا.
الحج فرصة لتبادل المنافع بين الدول الإسلامية وتحقيق الوحدة الاقتصادية الإسلامية إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا بدلا من الاستسلام للمنتجات الأجنبية والاعتماد على غيرنا في تلبية حاجاتنا
ومن دروس الحج الاقتصادية أيضا أنه صورة حية علي قيمة الادخار، وفقه الأولويات، وإعادة التوزيع، فحينما تعرضت المدينة في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- لظرف طارئ بقدوم جماعة محتاجة للأضاحي، نهى صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي، ولما غادرت هذه الجماعة المدينة أباح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ادخارها وقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا". وهذا درس بليغ كذلك في مواجهة الأزمات والتخصيص الأمثل للموارد والاستفادة من لحوم الأضاحي، وفي واقعنا المعاصر أصبح حفظها وتعبئتها ونقلها للبائس الفقير في الدول الإسلامية أمرا ميسرا.
كما وصف الله تعالي الحج بأن فيه منافع "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" (الحج: 28) وهذه المنافع لا تقتصر على المنافع الدينية بل الدنيوية أيضا، فقد جاءت كلمة "منافع" في الآية الكريمة نكرة لتفيد عموم المنافع في كل العصور دون قصرها على منفعة دون أخرى، وهي بذلك تفتح السبيل أمام حجاج بيت الله الحرام للاستفادة من تلك المنافع، "ليْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ" (البقرة: 198).
فالحج فرصة لتبادل المنافع بين الدول الإسلامية وتحقيق الوحدة الاقتصادية الإسلامية إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا بدلا من الاستسلام للمنتجات الأجنبية والاعتماد على غيرنا في تلبية حاجاتنا، فما أحوجنا أن نتخذ من الحج زادا للتقوى الإيمانية وزادا للتقوي الاقتصادية بالاعتماد على سواعدنا وتلبية متطلباتنا الأساسية من غذاء وكساء وسلاح ونحوها.
twitter.com/drdawaba