إنقاذ الإنسان من العبثية والحيرة
الإنسان ليس سوى ثمرة تصوراته الباطنة، فالسلوك الخارجيُّ هو ترجمان ما انطوت عليه النفس من معتقداتٍ وظنونٍ. والفرق بين إنسانٍ حائرٍ يائسٍ متخبطٍ في عمايته وبين إنسان بصيرٍ مطمئنٍّ تغمره السكينة والرضى؛ هو التصور الداخليّ الذي تنطوي عليه نفس كلٍّ منهما.
كيف عالج القرآن تصورات الإنسان؟
يؤكِّدُ القرآن أن هذه الحياة لم تخلق عبثاً وأنَّ الإنسان لن يترك سدىً، وأنَّ هناك غايةً ووجهةً لهذه الحياة:
- "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ" (ص: 27).
- "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ" (المؤمنون: 115).
- "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدى" (القيامة: 36).
حين يمتلئ قلب المؤمن أنَّ للكون غايةً وللحياةِ معنىً، وأنَّ وجوده في هذه الحياة ليس عبثاً إنما لرسالةٍ يجب أن يؤديها، فإنَّ هذا الإيمان يورث في صاحبه شعوراً عميقاً بالمعنى والحكمة وهو ما يصوغ شخصيته ومساره في الحياة.
في المقابل، فإنّ من تسيطر عليه أفكار العدمية وأن هذا الوجود عبثيٌّ من الصعب عليه أن يحتفظ بشعور التوازن والحكمة في حياته، فما الذي سيشكِّل دافع الحكمة في نفسه إن كان يظنُّ أنه حبة رمل تافهة في هذا الكون السحيق، وأنَّه وجد بالصدفة وسيؤول إلى الفناء ولن يعبأ أحدٌ بمصيره، وأن عليه أن يواجه تقلبات هذه الحياة بمفرده وأن يموت وينتهي دون أيِّ معنىً؟ كيف سيكون قادراً على الالتزام الأخلاقيِّ ما دام لا يوجد معيار لتحديد الأخلاق، ولا يوجد حساب؟! أم كيف سيثق بانتصار الحق وتحقيق العدل ما دامت العبثية هي التي تحكم هذا الكون؟!
الشعور بالعبثية إذا استولى على صاحبه فإنه كثيراً ما ينتهي به إلى الانتحار في محاولةٍ لوضع حدٍّ لدوامة الصراعات التي تموج في قلبه، وهذا ما نراه واقعاً:
"مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ" (الحجّ: 15).
شعور الإنسان بالمعنى هو الذي يمدُّه بدافعٍ للحياة والعمل، وهذه هي الخلاصة التي توصل إليها عالم النفس اليهودي فيكتور فرانكل الذي نجا من المحرقة النازيَّة ورأى الفظائع التي تمارس بحقِّ الضحايا حين يجردهم المجرمون من كل أسباب الحياة بما في ذلك ملابسهم، وحين يعاين الضحايا أوضاعاً فوق طاقة الاحتمال البشري مثل فقد جميع أقاربهم، فوجد أن الطريقة المثلى لإنقاذ إرادة الحياة في نفوسهم هي تبصيرهم بمعنىً لهذه الحياة، فأسمى مدرسته في العلاج النفسي "العلاج بالمعنى" وألف كتاب "الإنسان يبحث عن معنىً".
مما قاله في الكتاب: "ويل لمن لا يرى في حياته معنى، ولا يستشعر هدفا أو غرضا لها، ومن ثم لا يجد قيمة في مواصلة هذه الحياة، وسرعان ما يحس بالضياع".
يضفي الإيمان معنىً على حياة الإنسان، فيعلم أنَّ كل ما يصيبه له مقصد وحكمة، فوجوده أصلاً هو مرحلة اختبار مؤقت ثم إلى ربِّكم ترجعون، وإذا اشتدت الابتلاءات على المؤمن رأى معنىً في ذلك، وهو أنَّ الله يختبر صبره ليطهِّر روحه، وإذا أنعمَ الله عليه لم يفقد اتزانه النفسيَّ إنما قرأ معنى أن الله يريد اختباره ليشكر أم يكفر.
قلق الإنسان وطمأنينته
الإنسان كائن قلق بطبيعته، فهو لا ينعم بالاستقرار الكامل في هذه الحياة، ودائماً هناك ابتلاءات تستفزه من السكون إلى الحركة بحثاً عن السلام والطمأنينة.
يراعي الدين هذه الطبيعة القلقة للإنسان، لذلك فإن القرآن لا يتحدث عن كائنات إنسانية مثالية، بل عن كائن يخطئ ويتعثر ويحزن ويتألم، وهذه الطبيعة الإنسانية هي موضع الخطاب والتكليف والمعالجة القرآنية.
يحدثنا القرآن عن الملائكة مثالاً للطمأنينة الكاملة: "قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً" (الإسراء: 95).
الملائكة كائنات نورانية فطرت على التسليم الكامل لله تعالى، والطمأنينة هي ثمرة التسليم، بينما القلق هو ثمرة الاختيار.
والإنسان كائن قلق لأنه كائن فطره الله تعالى على حريَّة الاختيار، وهو ما يتبدَّى في المشهد الأول من حياة هذا الإنسان حين أمر الله تعالى آدم وزوجه ألا يقربا الشجرة، لكنهما عصيا الأمر الإلهي في تجلٍّ للفرق بين الإنسان والملاك.
لماذا سجدت الملائكة لآدم مع أن الملائكة يمثلون الطمأنينة والتسليم الكامل، بينما الإنسان قابل للعصيان والزلل؟!
لأنَّ الله تعالى أودع في هذا الإنسان قدراتٍ عظيمةً تؤهله لتحويل قلقه الوجودي إلى دافع إيجابيٍّ للارتقاء والتسامي حتى يرجع إلى حالة الطمأنينة الكاملة، فإذا كان الملائكة المكرَّمون مفطورين على الطمأنينة والتسليم، فإن الإنسان الذي أودع الله تعالى فيه القابلية للخطأ والعصيان إذا جاهد نفسه وتحرَّر من أثقال طينه وتسامت روحه ودخل دار السلام؛ عرفت الملائكة له فضله بعد أن صبر على ابتلاءاته وتجاوزها: "وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)".
ما بين سجود الملائكة لآدم وتسليم الملائكة على ذريَّة آدم من أهل الجنة، أُهبط هذا الإنسان على الأرض ليخوض ابتلاءه: "وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (البقرة: 36)
الوجود الإنساني في هذه الأرض مصمم منذ اللحظة الأولى ليكون وجوداً قلقاً تخالطه العداوة والمدافعة: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ" (البلد: 4).
والقرآن يذمُّ الذين يعيشون في هذه الحياة الدنيا في حالة رضىً واطمئنان: "إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ" (يونس: 7).
ذلك أن هذا الرضى والاطمئنان الذي تتحدث عنه هذه الآية مبنيٌّ على غفلةٍ وسكرةٍ، إنَّه يشبه اطمئنان راكب سفينة في أعلاها بينما يغرق أسفل تلك السفينة وهو غافل في لهوه بحجة أن الموضع الذي يقعد فيه لم تصله المياه، وكذلك الذين يرضون بالحياة الدنيا ويطمئنون بها فإنهم غافلون عن حقيقة هذه الدنيا ومآلاتها وتقلباتها، فالقرآن لا ينكر الطمأنينة إنما ينكر أن تكون مبنيةً على وهمٍ وباطلٍ.
الحالة الصحيَّة هي أن يظل الإنسان في حالة وعيٍ وحذرٍ:
- "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً" (النساء: 36).
- "إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ" (القصص: 76).
الاختيال والفخر والفرح والمرح هي حالات فقدان التوازن النفسي، لذلك لا يحبُّها الله تعالى، فهو يريد من الإنسان أن يكون متذكِّراً واعياً بحقيقته وبحقيقة الدنيا التي يعيش فيها.
بقاء القلق المستفزِّ للفعل هو شرط التسامي والترقِّي، فمن خاف أدلجَ ومن أدلجَ بلغ المنزل كما جاء في الحديث. والله تعالى يذكِّر الإنسان دائماً بأنَّ هذه الأرض محطة اختبار، وأنها لا تصلح أن تكون مستقراً دائماً.
والقلق هو حالة وجودية يستحيل أن تنفك عن الإنسان في حياته الأرضية، فحياة الإنسان هي ارتحال دائم من مواطن الاستقرار إلى مواطن النفير: "كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ".
هكذا تفعل بنا أحداث الحياة وتقلباتهما، إننا نشعر بالغربة والخشية منها، لكن القلق هو الذي ينضج أرواحنا..
ولأن الله تعالى يراعي طبيعة هذا الإنسان فقد جعل الرسل الذين أرسلهم بشراً يجري عليهم ما يجري على البشر من حزن وضيق ويأس، مع أن القرآن يذكر بقدرة الله على إرسال ملائكة مطمئنين، لكنه يريد للإنسان أن يهتدي ويسمو ويرجع إلى ربه من خلال شروطه الإنسانية.
لذلك يذكر القرآن لحظات الضعف البشري في حياة الأنبياء:
فهذا آدم عليه السلام يأكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عنها.
وهذا نوح عليه السلام يتوجع قلبه على ابنه: "وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ".
وهذا إبراهيم عليه السلام حائر في البحث عن الحقِّ: "لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ".
وهذا موسى عليه السلام يخاف: "فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".
وهذا موسى عليه السلام يغضب من قومه: "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ".
وهذا يونس عليه السلام يضيق من تكذيب قومه وعدم إيمانهم فيتركهم ويرحل: "وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فالتقمه الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)".
وهذا زكريا يخشى الوحدة وانعدام الذرية: "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِياً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياً (6)".
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يضيق صدره ويحزن وتكاد نفسه تفرط أسفاً على عدم هداية قومه:
- "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ" (97).
- "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ" (127).
- "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" (6).
هؤلاء الرسل هم خير الناس وقد اصطفاهم الله تعالى، لكنَّ هذا الاصطفاء لم يجردهم من حالة القلق الإنساني التي تجسدت في الخوف والحزن وضيق الصدر ولوعة القلب، بل تمثل اصطفاؤهم في مجاهدة هذه النوازع والتجرد إلى الله تعالى حتى بلغوا الطمأنينة بالمجاهدات.
مقصد الدين هو أن يبلغ الإنسان حالة الطمأنينة كي يصير مؤهلاً للرجوع إلى الجنة، لكنَّ الدين يريد الطمأنينة الحقيقية التي تنتج عن اتصال الإنسان بالمصدر الأول لوجوده، وليس الطمأنينة المزيفة التي يسكر الإنسان بها عن الحقِّ ويغفل لتسكين ألمه الوجودي.
هذا هو اختبار الإنسان: أن يستخلص من حالة القلق والابتلاءات التي يكابدها في الحياة الطمأنينة والرضى فيصير مؤهلاً للدخول في عباد الله الصالحين وفي الجنة.
يتحدث القرآن عن بلوغ فريق من الناس حالة الطمأنينة في الدنيا: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ".
هذه المرحلة يبلغها الرسل والصالحون وتتجسد في موقف الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء والمشركون يحيطون به بحثاً عنه لقتله: "لا تحزن إنَّ الله معنا".
وتتمثل في موقف موسى عليه السلام الذي يذكر القرآن أمثلةً عديدةً لخوفه في الحياة، لكن في تلك اللحظة التي كان الخطر يقترب فيها منه قال: "كلا إنَّ معي ربي سيهدين".
هذه الحالة يبلغها الإنسان بالمجاهدات ودوام الاتصال بالله تعالى، فينتصر على قلقه ويعلو مستوى طاقته الروحية ليصير متناغماً مع مستوى طاقة الملائكة التي تتنزل عليه.
تنزّل الملائكة ليس فكرةً مبهمةً خرافيةً، بل لها قانونها الروحيُّ، فالملائكة تمثل موجة الطمأنينة في الكون، فإذا بلغ المؤمن هذه المرحلة من الطمأنينة الدائمة تنزَّلت عليه الملائكة، وهذا المعنى ورد ذكره في الحديث حين شكا حنظلة عدم بقاء إيمانه مثل الحالة التي يجالسون فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ".
ومن بلغ هذه المنزلة تهيأت روحه لدخول الجنة دار السلام: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي" (الفجر: 30).
twitter.com/aburtema