هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي: دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة"
الكاتب: صائب عبد الحميد
الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع
1 ـ بين يدي الكتاب
لا تخلو علاقة المسلمين بتاريخهم من ارتباك وانفعال يوزعانه، عامّة بين اتجاهين، فيميل الأول إلى التعاطي الآلي مع الماضي كلّما بحث عن حلول لمشكلات الرّاهن. وتحكمه نزعة سلفية تعمل على تهميش الحاضر. ويميل الثاني إلى الإفادة من التجارب الرائدة راهنا بحجة ضرورة التحديث، فينفصل عن تاريخه وعن خزّان تجاربه التي يستقي منها تصوراتنا للحياة. وفي الحالين، يعيش المسلم حالة من الانبتات الحضاري. وهذا الأمر مفارق لمنجز العقل الإسلامي الذي فكّر في حركة التاريخ، فلم يتعامل معه باعتباره كائنا جامدا ولم يتجاهله أو يشطبه. ويعرض المؤلف الضخم للباحث صائب عبد الحميد (690 صفحة)، المعنون بـ"فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي: دراسة مقارنة بالمدارس الغربية الحديثة والمعاصرة"، هذا المنجز بكثير من التفصيل والتفريع.
2 ـ من التاريخ إلى فلسفة التاريخ
يُعرّف التاريخ بكونه سجل الأحداث الماضية أو ضبط ما قد حدث في نطاق الإدراك البشري ماضيا في المستويات المختلفة. وكثيرا ما يسعى المؤرخ من تسجيل الوقائع إلى فهم مجتمع الماضي؛ بغية السيطرة على ظواهر ناشئة في مجتمع الحاضر. وانطلاقا من تفاعل الزمنين، يلتفت إلى المستقبل ليستشرف احتمالاته. لذلك عرّفه إدوارد كار بكونه: "النضال المديد للإنسان عبر استخدامه عقله لكي يفهم بيئته ويعمل فيها". فينتقل من البحث في الزمن الميت إلى تأمل مظاهره التي لا تزال تحيا في الحاضر، وستنعكس بشكل ما في المستقبل، ويجعلها مادة للتأمل الفلسفي.
لقد استقر طويلا أن الفلسفة هي البحث عن القوانين الثابتة القارة والقانون الكوني. أما التاريخ، فبحث في المتحول في الزمان. وهذا ما يوحي ظاهرا بتعارض بين المجالين، فكيف سيجتمعان في مجال واحد هو فلسفة التاريخ؟
يجد الباحث صائب عبد الحميد أن تأمل الوقائع التاريخية وتدبرها، شكل من أشكال التفلسف الذي تطور تدريجيا من تأمل وقائع الماضي إلى البحث في القوانين المحركة لهذه الوقائع إلى البحث في القوانين المتحكمة في تطور المجتمعات وانتقالها من مرحلة إلى أخرى، بحيث لا يمثل امتداد الماضي فترات منفصلة عن أخرى. ويعرض تعريفات مختلفة تؤيد فهمه هذا. أهمها ما ذهب إليه هيغل في محاضرات في فلسفة التاريخ، من أنّ "أعم تعريف يمكن تقديمه، هو القول بأن فلسفة التاريخ لا تعني شيئا آخر سوى دراسة التاريخ من خلال الفكر".
3 ـ عوامل نشأة فلسفة التاريخ:
يعود الباحث إلى الفضاء الثقافي الغربي الذي تجلى فيه الوعي بمبحث فلسفة التاريخ، فيردّ عوامل نشأته إلى بداية التوسع الأوروبي الاستعماري في الفترة الممتدة بين منتصف القرن الخامس عشر والقرن الثامن عشر واكتشاف العقل الغربي لحضارات مختلفة؛ فقد انكب العقل الغربي على البحث في تاريخ الشعوب المستعمرة وآدابها. وتأثرا بالنزعة العلمية في تفسير الظواهر الطبيعية آنذاك، قدر فلاسفة التاريخ أنّ المجتمعات البشرية تتطور تطورا منتظما وفق قوانين مقولة الكلية، كما تتطور عناصر الوجود في الطبيعة ووفق مقولة العلية ومدارها، على أنّ كل ما في التاريخ البشري يفسر تفسيرا عليا بحيث تعتبر تجلياته نتائج لأسباب محفّزة. ويذكر من الرواد لفلسفة التاريخ ميكيافللي وجان بودان وهوبز وفيكو ومنتسكيو.
4 ـ الوعي التاريخي عند المسلمين: البدايات والتطور:
يميل الباحث إلى دحض رأي ابن عساكر القائل بأن كلمة تأريخ لم تظهر في صدر الإسلام، وأنها تعود إلى أواخر القرن الثاني للهجرة. ويقدّر أن الوعي بالتأريخ وبفعله سابق لهذه المرحلة. فيُنسب إلى سعيد بن المسيِّب قوله: "جمع عمر الناس فقال: من أي يوم نكتب التاريخ". وهذا يعني أنّ الوعي بمفهوم التأريخ باعتباره وقائع الماضي يعود في الحد الأدنى إلى أواخر القرن الأول للهجرة، فقد توفي ابن المسيب سنة 94 للهجرة. ثم توسع المسلمون في استخدام المصطلح. فظهر مصنف "التأريخ" لعوانة بن الحكيم المتوفى سنة 147 للهجرة، ثم تلته عشرات المصنفات التي تدلّ على أن عمل التأريخ حينها كان إبداعا عربيا محضا، خاليا من المؤثرات الحضارية المجاورة، الفارسية واليونانية خاصة، كتلك التي ظهرت في الفلسفة وعلم الكلام.
تمرّ الدولة عبر أطوار البناء والاستبداد ثم الفراغ والدعة والقنوع والمسالمة ثم الإسراف والتبذير. وعندما يصل البناء الهرمي إلى مرحلة الانحدار لا يمكن إيقافه، فيكون الانهيار نتيجته الحتمية. وتنتهي هذه الدورة الحضارية بانتفاضة عصبية جديدة (من الداخل) أو بهجوم دولة قوية (من الخارج) لتبدأ دورة حياة جديدة.
ولا يوجد في أيام العرب شيء من الوعي بالتاريخ، فلا تعدو عنده أكثر من مآثر وعرض للبطولات خال من وحدة الموضوع ومن طابع التسلسل التاريخي. وبالمقابل، يجد في القصض القرآني محفزا للوعي به؛ فقد كان يذكّر بأحداث الماضي لمعالجة قضايا الراهن ويدعو بجلاء إلى التدبر والاعتبار كقوله: " وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ" كما جاء في الآية 43 من سورة العنكبوت، وكان يعمل على بث الوعي بمسؤولية الجماعات البشرية عن مصائرها كما جاء في الآية 134 من سورة البقرة "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ..". وللعلوم الدينية إسهام بيّن في ترسيخ الوعي بتفاعل السابق مع اللاحق والتأثير فيه؛ فعلم الناسخ والمنسوخ عُني بترتيب أسباب نزول الآيات وظروفها والمنسوخ منها، وعلم الحديث اهتم بمضامين الأحاديث وطريقة تدوينها والتحقّق من صحتها. كل هذه العوامل تزامنت مع قيام الدولة وما واكبها من تدوين للفتوحات وعرض الفتن وتخليد الفاعلين العسكريين والسياسيين.
لقد تأخر، بالمقابل، التفكير في التّاريخ وتحويله إلى موضوع للتأمل لعدم حصول التراكم الضروري في الكتابات والتجارب، ولنقص في النقد عند المؤرخين المسلمين وفق البارون كارادوفو، فـ"لم يلقوا عونا من الروح العام، ولم تكن عندهم جميع الوسائل التي لا بدّ منها لحسن الحكم". فلم تظهر البوادر الأولى إلا في نهاية القرن الرابع للهجرة في مؤلف المطهر بن طاهر المقدسي (ت 355هـ): "البدء والتاريخ"؛ فجاءت مقدمته في صيغة بحث نظري يتدبرّ الكون وتاريخه من منظور فلسفي، ثم فكّر اللاحقون، من أمثال الماوردي(ت 450 هـ) والطرطوشي (ت 520هـ) في عناصر المجتمع ومقومات الدولة وأسباب ازدهارها وعوامل انهيارها.
5 ـ نماذج من فلسفة التاريخ في الفكر الإسلامي
يعرض الباحث نماذج كثيرة من فلاسفة الفكر الإسلامي، ونقتصر في عرضنا هذا، لقصر مداه، على علمين ينتمي أولهما إلى مرحلة الانحطاط التي شهدها العالم الإسلامي، وثانيهما إلى ما بعد عصر النهضة. فالعلامة ابن خلدون الذي ظهر في أكثر مراحل التاريخ الإسلامي ركودا، قد طور من المعارف الجزئية التي كانت سارية في المصنفات، فمنحها وحدتها وارتقى بها إلى مصاف النظرية المنسجمة في العمران البشري، مما جعل المفكرين يعتبرونه أول من جعل التاريخ موضوع علم خاص، وكشف مناطق مجهولة من علم الاجتماع؛ فربط بين التطور الاجتماعي وعلله القريبة المؤيدة بالأدلة العقلية. ويبلغ ثناؤهم عليه قمّته في قول أرنولد توينبي في أثره A study of history الصادر سنة 1935 عن منشورات جامعة أكسفورد؛ "إن ابن خلدون، أول من أدرك وتصور وأنشأ [كذا] فلسفة للتاريخ، هي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان".
وتجمع نظريته في العمران البشري بين منجز ثلاثة علوم؛ هي علم الاجتماع وعلم التاريخ وفلسفته. فتقارن بين العمران البدوي والعمران الحضري، وتنتهي إلى أنّ البداوة تغلّب العصبية على السلوك، وإلى أنّ الدولة تخضع بعد قيامها إلى قوانين حتمية، فتأخذ بأسباب القوة في البداية وتزدهر العلوم والصناعة، وعندما تصل إلى مرحلة الرخاء تظهر بوادر الضعف والوهن؛ لأن الخلود إلى الرفاهية يكسر العصبية ويضيع سمات الخير والجباية ويحدّ من الموارد. وعليه، يكون لها أعمار تختلف من حالة إلى أخرى، ولكن مداها يزيد عن القرن ويكون لها بناء هرمي يتضمن عامة ثلاثة أجيال، يكون الأول مؤسسا، والثاني مقلدا للأول مثبتا لدعائمها، ويهدّم الثالث ما تم تحقيقه بسبب انصرافه إلى اللهو والدّعة.
الصدام اليوم لم يعد بين الملوك، وإنما بين الأمم والشعوب، وأنّ النزاع يقوم بين خلفيات حضارية مختلفة، تريد أن تفرض منوالها ونموذجها. ويجد أنّ الخطوط الفاصلة بين الحضارات هي العنصر المحدد للصراعات في المستقبل.
وتمرّ الدولة عبر أطوار البناء والاستبداد ثم الفراغ والدعة والقنوع والمسالمة ثم الإسراف والتبذير. وعندما يصل البناء الهرمي إلى مرحلة الانحدار لا يمكن إيقافه، فيكون الانهيار نتيجته الحتمية. وتنتهي هذه الدورة الحضارية بانتفاضة عصبية جديدة (من الداخل)، أو بهجوم دولة قوية (من الخارج)، لتبدأ دورة حياة جديدة. وهذه الأطوار عنده ثابتة لا تتبدّل.
ويعرض الباحث احتراز بعض المفكرين على هذه النظرية لبعدها الجبري التشاؤمي الذي يعطي كل أسباب التحول للحتمية التاريخية، ولا يدع للفرد دورا يذكر في مسار بناء الدول والنهضة بها. ولكنه يبدو أميل إلى التماس العذر لابن خلدون باعتباره قد اشتغل على بنية المجتمع العربي الإسلامي، الذي يمنح الدور الأخطر في قيام الدول إلى العصبية القبلية. وعليه، فهو لم يلغ تماما دور الأفراد لما لزعماء القبائل من نفوذ، ولم يجعل حركة التاريخ ميكانيكية لا اختلاف فيها.
ويعدّ الباحث مالك بن نبي أهم فيلسوف منذ ابن خلدون وينسب إليه نظرية خاصة؛ فقد تشكلت شخصيته العلمية في أوساط الشبيبة الجزائرية المتحمسة للإصلاح الديني وللتحرر من الاستعمار الفرنسي (1905 ـ1973)، ثم تأثرت لاحقا بالمصلحين المسلمين مثل جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد إقبال، وانفتحت على الإنساني والرّوحي العميق، من خلال تأثرها بالشاعر الهندي طاغور والمهاتما غاندي.
لم يهتم مالك بن نبي بالبعد الكرونولوجي للوقائع بقدر ما بحث عن القانون الموجّه لها. فـ"كان فيلسوفا يستمد من حركة التاريخ أفكاره"، معولا على إلمامه الواسع بالإنتاج الفكري الأوروبي في العلوم الإنسانية المختلفة لتحليل الظواهر التاريخية، مقدّرا أننا نتحكم في الوقائع وفي أحداث التاريخ كلّما فهمنا أسرارها وجوهرها، ونظل خاضعين لها كلما استغلقت علينا تلك الأسرار وعجزنا عن فهم قانونها. فـ"المجتمع فقط هو ذلك الذي يحقق النموذج المتحرّك، والحضارة فقط هي ما يميز مجتمعا متحرّكا ناميا عن آخر ساكن راكد، ثم الثقافة هي فقط تلك العلاقات التي تنتج أسباب الحركة والتقدم والتنمية".
6 ـ فلسفة التاريخ وبعد؟
خلف الكم الهائل من المعلومات التي يزخر بها هذا المؤلف الضخم، تكمن أطروحة الباحث الداعية إلى القطع مع نزعات الانبتات عن الراهن أو الاجتثاث من الماضي. فالتاريخ خزان تجاربنا التي نعيد تقييمها في ضوء المعارف الراهنة. ومن التفاعل المخصب بين الأصالة والحداثة، تنشأ الشخصية المتوازية والعقلانية المستقلة عن هيمنة الآخر، خاصة وقد هيمن على هذه الفلسفة اتجاهان يعود كلاهما إلى عَلَم يعمل في مراكز التخطيط الاستراتيجي في أمريكا ويبشر بالمركزية الأمريكية. فيتبنى فوكوياما مفهوم نهاية التاريخ الإنساني التي تتجلى في الهيمنة الأمريكية، ونشر منوالها للديمقراطية الليبيرالية الحديثة، باعتباره النموذج الأمثل والأوحد والمثل الأعلى ممثلا، ويؤمن صاموئيل هانتنغتون بصدام الحضارات.
فيقدر أنّ الصدام اليوم لم يعد بين الملوك، وإنما بين الأمم والشعوب، وأنّ النزاع يقوم بين خلفيات حضارية مختلفة تريد أن تفرض منوالها ونموذجها. ويجد أنّ الخطوط الفاصلة بين الحضارات هي العنصر المحدد للصراعات في المستقبل، والحضارات الحية الفاعلة اليوم المنخرطة في هذا الصراع هي الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية والأمريكية اللاتينية، على أنّ الحضارة الواحدة يمكن أن تتفرع إلى نزعات متصارعة بدورها. ففي الحضارة الإسلامية مثلا تصطدم النزعة العربية بالتركية أو الماليزية. وبيّن هنا أن هانتنغتون يخلط بين القوميات الإسلامية والمذاهب الفقهية.