قالت صحيفة "
التايمز" البريطانية
في تقرير أعده ريتشارد كونولي إن
العقوبات الغربية أضعفت
روسيا لكنها لم تغير سلوك
الرئيس فلاديمير
بوتين.
فبعد غزو موسكو لأوكرانيا فرض الغرب وحلفاؤه
حزمة من العقوبات ليست مسبوقة في حجمها ومنظورها.
وتركت العقوبات آثارها المباشرة على روسيا
حيث تم تجميد كل أرصدة الدولة في الخارج وحرمت البنوك الروسية من التعامل مع النظام
الدولي إلا في العقود المالية الضرورية. ولم تعد الشركات الروسية قادرة على استيراد
التكنولوجيا الضرورية، مثل الرقائق الإلكترونية وتلك المتعلقة بالطائرات المدنية وقطع
الغيار لتشغيل قطاع الغاز والنفط.
ومما زاد في تعقيد الوضع الاقتصادي هو اختيار
مئات الشركات الدولية سحب ووقف عملياتها في روسيا خشية ألا تتضرر سمعتها لو استمرت
بالتعامل التجاري هناك.
ورغم ما لوحظ من إشارات تغير في روسيا خلال
الأشهر الماضية فإن البلد بدأ بالتكيف مع الظروف الجديدة. وبالتأكيد فإن البلد يعاني
من الركود لكن عمقه ليس بالخطورة الشديدة.
وأعطت زيادة أسعار النفط والغاز الكرملين المال
الكافي لمواصلة حملاته العسكرية وحماية قاعدته من آثار الحصار الدولي. وبطريقة غير
مقصودة، دفعت العقوبات النخبة الروسية قريبا من الدولة وسرعت في اعتمادها على الصين.
وفي تحليل أثر العقوبات، فإنه بعد خمسة أشهر على
أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، والعقوبات التي فرضت بسبب ذلك،
فقد تم تجميد نصف الأرصدة الروسية المحفوظة بالعملات الأجنبية، وانهار الاستيراد
بسبب تراجع الروبل في الشهرين الأولين للحرب ولأن روسيا لا تستطيع استيراد البضائع
من أوروبا وحلفائها.
ولم تكن روسيا قادرة على بيع منتجات تقدر بمليارات
الدولارات من الذهب والفحم الحجري للدول التي فرضت عليها عقوبات. فالحصول على عدة بضائع
بات مستحيلا أو مكلفا. وإذا ما حاولت الحكومة الحصول على بدائل للبضائع
الأوروبية، إما من الصين أو من المصنعة محليا، فإن النوعية لا تقارن.
والحبل يلتف حول عنق روسيا. ففي بداية العام
المقبل سيبدأ تنفيذ حظر استيراد أوروبا للنفط الروسي، بالإضافة إلى جهود أخرى لفطم القارة
الأوروبية نفسها عن الغاز الروسي الرخيص الثمن. وهناك محاولة، مع أنها ليست ناجحة بعد، تهدف إلى إقناع الدول في الشرق الأوسط وآسيا بالانضمام إلى حملة المقاطعة ضد روسيا.
ومن المتوقع أن يتراجع الإنتاج الروسي من الغاز
والنفط اللذين حولا موسكو إلى "قوى عظمى في الطاقة" بسبب عدم توفر التكنولوجيا
والمعرفة. وستحد العقوبات من قدرة موسكو على إنتاج الأسلحة نظرا لاعتماد الصناعة العسكرية
على مكونات مستوردة من أوروبا واكتشف الكثير منها في الأسلحة التي استخدمتها روسيا
في أوكرانيا.
وأنفقت روسيا ثمانية أعوام لتكييف صناعاتها
العسكرية مع العقوبات التي فرضت عليها بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، فقد عرقلت
جهودها لإنتاج قنابل دقيقة موجهة وأنظمة للقوة البحرية. وستؤدي العقوبات الأشد إلى
عرقلة أكبر.
وباتت العقوبات سببا في المعاناة الاقتصادية،
إلا أنها ليست كافية لكي تدفع إلى تغيير في السلوك. ولو كان هناك ارتباط بين المعاناة
الاقتصادية والنتائج السياسية لتوقفت إيران عن مواصلة برامجها النووية منذ سنين، ولما
استمرت كوريا الشمالية بالاختبارات النووية.
وتعيش روسيا في ظل نظام عقوبات منذ عام
2014، إلا أن منظور عقوبات شديدة لم يمنعها من شن حرب في أوكرانيا.
وهناك سجل فقير للعقوبات وعدة أسباب تدعو للشك
في قدرتها على الحد من سلوك نظام بعينه، منها أن العقوبات عادة ما تفتح مجالا للثراء. فأسعار
البضائع التي تفرض عليها العقوبات تزيد بشكل حاد، وهو ما يعطي القيادة في الدولة التي
فرضت العقوبات عليها الفرصة لتحويل المصادر إلى النخب السياسية التي تعد بتوفيرها.
كما أن العقود المربحة تمنح لمن يعدون بتوفير البضائع التي حظرت واستبدالها بمنتجات محلية.
وروسيا ليست استثناء، فالجهود لإنتاج بدائل
تكنولوجية عن تلك الممنوعة تجري على قدم وساق والمستفيد منها هم المقربون من القيادة.
وفي الوقت الذي تكون فيه التراكمات الناتجة عن الحصار مدمرة للاقتصاد فإن النخب
المقربة من النظام هي التي تستفيد دائما. وهو ما يؤدي في النهاية إلى تقوية تماسك النظام
وليس إضعافه.
سبب ثان، أنه كلما طالت مدة العقوبات تكيف
البلد المستهدف مع الوضع، وهذا ما يحصل حاليا في روسيا. وكان انهيار قيمة الروبل في
آذار/ مارس مثالا. ففي الأيام الأولى للحرب، قدم الانهيار على أنه نجاح للسياسة الغربية.
إلا أن الحكومة الروسية وضعت سياسات تكيف مع الوضع وعلى شكل التحكم برأس المال. ومشكلة
روسيا اليوم ليست في كون الروبل ضعيفا بل لكونه قويا ويضر بمصدري النفط والغاز الذين
يعتمدون على الأرباح من خلال العملات الأجنبية.
وفي مجالات أخرى يستطيع المستوردون التحايل
على العقوبات من خلال استيرادها عبر طرف ثالث، من الصين وكازخستان، وكلاهما يشترك مع
روسيا بحدود طويلة. وهناك إشارات عن تخفيفها للضغط على بضائع المستهلكين في الأسواق.
وطالما شعر المواطن العادي بأن حياته عادية بشكل نسبي، وكلما استمرت النخبة بالاستفادة
والإثراء من الوضع، فلن تكون هناك رغبة لتغيير المسار.
وهذا هو الوضع اليوم في روسيا، ففي الوقت الذي
صغر فيه حجم الاقتصاد وتضاءل حجم البضائع التي كانت متوفرة قبل الحرب، فإن الحياة
عادت لطبيعتها بعد صدمة الأسابيع الأولى للحرب. وعادت أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة
الأجنبية إلى رفوف المحلات التجارية وإن بأسعار أعلى. وتم استبدال سلسلة
"فوكسونو إي توكشا" (طيب، نقطة) بـ"ماكدونالدز" . وتم تصميم برنامج للتأكد من
"السيادة التكنولوجية" الروسية.
ولن يستفيد المستهلك الروسي من كل هذا، بل والنخبة
المقربة من بوتين وحاشيته التي ستحصل على أموال لتوفير مواد رديئة وبأسعار باهظة.
صحيح أن الكثير من الروس عبروا عن امتعاضهم
من شن الحرب في أوكرانيا، لكن هؤلاء أقلية لم يدعموا أبدا بوتين. فغالبية الروس يعتمدون
على الدولة أو المؤسسات التابعة لها للحصول على لقمة عيشهم. ويتم التحكم بالإعلام ومن
المتوقع أن يستفيد من الإجراءات "المضادة للأزمة"، ولن تدفع القاعدة الموثوقة
والمؤيدة لبوتين باتجاه التغيير. ولن يكون الأثرياء أو الأوليغارش بحال أحسن من بقية
الشعب ولن يدفعوا لتعديل المسار، وهذا بسبب تجميد أرصدتهم وخسارتهم السوق الغربية.
وحتى يحصلوا على مباركة الكرملين فإن عليهم إظهار الولاء القوي حتى لا توجه إليهم تهم
التجسس أو الطابور الخامس.
وتعززت قدرة بوتين للتغلب على عاصفة العقوبات
والحفاظ على دعم قاعدته من تداعيات ثانية للحرب الاقتصادية. وتتاجر روسيا بالبضائع
الجيوسياسية الحساسة مثل النفط والغاز والحبوب التي ارتفعت قيمتها مع زيادة المخاطر
السياسية. فالوضع المتقلب للعرض يعني زيادة قيمة هذه السلع. فمع قيام الحكومة بالتحكم
برأس المال إلى جانب العوائد المرتفعة من صادراتها، فقد أصبح لدى روسيا فائض مالي. وطالما
ظل الكرملين متربعا على خزينة من المال كهذه، فلن يخسر قاعدته.
وهذا يقود إلى سؤال حول فعالية العقوبات الغربية
على النظام الروسي وإن كانت ستجبره على تغيير مساره، والجواب لا. فالهجوم على أوكرانيا
والرد الغربي القاسي أدى إلى تدهور العلاقات مع روسيا بطريقة لم تشهدها الحرب الباردة.
وعززت الحرب التحول الجيوسياسي المحلي من خلال تعزيز العلاقات مع الدول "غير الغربية"
مثل الصين والتي ينظر إليها على أنها أفضل من إصلاح العلاقات المتوترة مع التحالف الأوروبي-الأطلنطي.
ويرى الكرملين الغرب في حالة انحسار ومستقبل
روسيا وازدهارها يكمن في تكييف مركز الجاذبية نحو الشرق. وهذا هو ما يحصل الآن،
فرد روسيا على عقوبات الثماني سنوات والخمسة الأشهر الماضية يلخص كل هذا..
فقد
تحولت الصين لأهم شريك تجاري لروسيا، وتوثقت العلاقات في ما بعد 2014، وفي الوقت الذي
انخفضت فيه مستويات ورادات روسيا من دول آسيا الحليفة للغرب فإن حجم الوارادات مع
الصين لم يتغير.
وتكشف بيانات التجارة عن حلول البضائع الصينية
في مجال الكمبيوتر والرقائق الإلكترونية محل الغربية. وزادت صادرات روسيا للصين من
النفط المخفض الأسعار.
وبالمحصلة فسيواصل بوتين استخدام العقوبات
لصالحه وشن حرب ضد المعارضين وتبني سياسات معادية للغرب في الخارج. وعلى الغرب مراجعة
سياسة العقوبات وما يمكن أن تحققه بطريقة عملية، فهي بالتأكيد ستجعل روسيا فقيرة وأضعف
لكنها لن تغير طريقة تفكير الكرملين، ولن تفعل الكثير لتقوية اقتصاديات الدول الغربية
والأهم من كل هذا أنها لن تساعد أوكرانيا.