يبدو وصف "الانسداد التاريخي" مفيداً لفهم
الحالة
الفلسطينية الراهنة، ولتفسير العلاقة الجدلية بين موازين القوى المختلّة
التي تميل على نحو كاسح إلى صالح العدوّ، بل تعمل لصالحه، وبين الأخطاء الذاتية
التي يقترفها أصحاب القضية.
لا يتعلّق وصف الانسداد التاريخي بصعوبة إنجاز
التحرير، أو حلّ القضية، فالأمر من هذه الناحية ليس انسداداً إلا بالقدر الذي
يتضخم فيه الفكر الخلاصي، الذي يُضمر يأساً مخاتلاً على نحو ما، فإنجاز التحرير
وحلّ القضية، لا يرتهن حصراً بالفاعلين الذاتيين، بل وبموازين القوى بالضرورة،
وهذا ما يعني أن الانسداد التاريخي المقصود هنا، هو في صعوبة حركة أصحاب القضية
لأسباب ذاتية بالدرجة الأولى.
وإذا كنّا إزاء انسداد تاريخيّ، فهو خلاصة مسار، ولا
مسار يمكن تحميله المسؤولية عن هذا الانسداد إلا مسار التسوية، الذي أخذت تدفع
نحوه قيادة منظمة التحرير في النصف الأوّل من سبعينيات القرن الماضي، وتوّجته
بتوقيع اتفاقية أوسلو بعد عشرين سنة، لنصل إلى هذه الواقعة الرثّة التي ينزف بين أنيابها
الفلسطينيون.
إذا كنّا إزاء انسداد تاريخيّ، فهو خلاصة مسار، ولا مسار يمكن تحميله المسؤولية عن هذا الانسداد إلا مسار التسوية، الذي أخذت تدفع نحوه قيادة منظمة التحرير في النصف الأوّل من سبعينيات القرن الماضي، وتوّجته بتوقيع اتفاقية أوسلو بعد عشرين سنة، لنصل إلى هذه الواقعة الرثّة
يُحمّل الانقسام المسؤولية عن صعوبة، بل وربما
استحالة، إطلاق الانتفاضة الشعبية الشاملة والواسعة. وهذا صحيح، بيد أنّ النقد الذي ينطلق من هنا يغفل أمرين اثنين، الأوّل؛ أن
الانقسام هو نتيجة لهذا المسار، الذي بدأ أساساً بانقسامات لاءمت طبيعة الحركة
الوطنية حينها، منذ السبعينيات مروراً بانقسامات الثمانينيات وحتى تأسيس السلطة
الفلسطينية، وإن كان للانقسام الجاري الآن معناه الخاصّ المستفاد من وجود سلطة حكم
ذاتيّ محدود في ظلّ
الاحتلال.
لم يكن هذا المسار ليقبل أي معارضة جادّة، ولو على
المستوى النظري، ولذلك افتتح عهده بالسجون والقمع، ومن ثمّ أخذ يؤسس لانقسام ضمنيّ
عميق، انفجر لما أرادت قوّة المعارضة الكبرى، حماس، إعادة تشكيل المسار من داخله
ليصير أكثر ملاءمة لمشروع
المقاومة، كان ذلك لما خاضت انتخابات العام 2006 وفازت
بها.
يمكن عدّ هذه المحاولة وجهة نظر خاطئة، لكن لم يكن ثمة
بديل عن ضرورة الحركة لفعل شيء لهذا المسار الذي لا يقبل بحكم طبعيته البنيوية منافساً
جدّيّاً ولا إمكانية داخلية للإصلاح، وذلك لأنّ المشروع ليس ذاتيّاً صرفاً يمكن
تحويره بالمدافعات الداخلية الذاتية، وإنما هو في أصل تأسيسه وفي تكوينه البنيوي
مرتهن بالدرجة الأولى إلى العوامل الخارجية. من الأخطاء التي تتكرر في هذا الإطار،
تضخيم العامل الذاتي في بنية السلطة، واستخدامه مدخلاً للتحليل، أو تصوّر إمكانية
البناء عليه، فالعوامل الذاتية في بنى من هذا النوع لا تبقى ذاتية.
لم يكن ثمة بديل عن ضرورة الحركة لفعل شيء لهذا المسار الذي لا يقبل بحكم طبعيته البنيوية منافساً جدّيّاً ولا إمكانية داخلية للإصلاح، وذلك لأنّ المشروع ليس ذاتيّاً صرفاً يمكن تحويره بالمدافعات الداخلية الذاتية، وإنما هو في أصل تأسيسه وفي تكوينه البنيوي مرتهن بالدرجة الأولى إلى العوامل الخارجية
على أية حال، كان الانقسام هو مآل المسار بصورة ما،
فالواقع الفلسطيني حتى انتفاضة الأقصى (2000)، وإن لم يكن انقساماً في بنية السلطة
في بعدها المؤسسي وساحتها الجغرافية، فإنّه كان يخفي خلفه انقسامات أخطر، جغرافية وشعبية،
بتقزيم القضية الفلسطينية إلى تفاصيل الأراضي المحتلة عام 1967، وانقسامات سياسية
دفعت فيها أوساط واسعة أثماناً مكلفة من أعمارها وأرزاقها. وقد كانت انتفاضة
الأقصى الفكرة التي قطعت نسبيّاً من هذه الانقسامات السياسية إلى حين عودتها
بإحياء المسار من جديد في انتخابات 2006، وإن كانت النوايا خلف ذلك متباينة.
الأمر الثاني الذي يغفله النقد الموجه للانقسام وهو
يبحث عن الانتفاضة الشعبية الشاملة، أن مسار التسوية بتوقيع أوسلو وتأسيس السلطة، هو
الذي قضى على الانتفاضة الشعبية الكبرى التي انفجرت أواخر العام 1987، وهو ما
ينبغي أن يعود بنا إلى جذر الاختيارات الذاتية التي أفضت إلى تقييدنا بالعوامل
الخارجية، وإلى الانقسام، وإلى هذا الانسداد التاريخي. وبما أن الضفة الغربية هي
الساحة الأكثر ملاءمة للانتفاضة الشعبية الشاملة، فإنه لا يمكن مساءلتها، دون النظر
في ما غرسته السلطة فيها، من بنى تحتية اقتصادية واجتماعية، ووقائع سياسية وأمنية
وثقافية، وهذه المساءلة لا ينبغي أن تغفل من جديد خيارات نخبة السلطة غير المنفكة
عن العوامل الخارجية.
مسار التسوية، لم يفض فقط إلى صعوبة الاختيارات
الفلسطينية الذاتية، بسبب الانقسام وبنية السلطة المسجونة في قفص العوامل
الخارجية، بل أيضاً بالتجسير للكيان الصهيوني في المنطقة والعالم، مرّة بشعار
"لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم"، ومرّة بالصور المنعكسة
عن وقائع الهدوء داخل فلسطين وطبيعة العلاقة التي تربط السلطة بالاحتلال الحاكم.
وهنا يتضح على نحو حاسم كيف تعمل الأخطاء الذاتية لصالح موازين القوى المعادية،
بما يستفيد منها العدوّ في تمدّده، أو النظام العربي في تغطيه بالذرائع التي كان
يبحث عنها دائماً.
لقد كانت موازين القوى دائماً تعمل ضدنا، وما تزال إلى
الآن، إلا أن أخطاءنا الذاتية خدمت في النتيجة موازين القوى تلك. وهو ما يستعيد
السؤال المزمن، عمّا علينا فعله ما دامت موازين القوى ضدّنا على نحو دائم وشبه
ثابت؟
تكون مهمة الشعب، وقواه المنظمة له، هي تصعيب مهمة الاحتلال، وإقلاقه، ومشاغلته، وقطع الطريق على تمدده وعلى التطبيع معه قدر الإمكان، وذلك إلى حين تغيّر موازين القوى. هذا النمط من التفكير يحتاج صبراً وتشافياً من الفكر الخلاصي
القضية الفلسطينية بطبيعتها الجوهرانية (سواء موقع
فلسطين بالنسبة للمنطقة العربية، أو صمود أهلها، أو طبيعة الاحتلال ودعاواه
وانعدام المبررات الطبيعية لاستمراره)، هي من نوع القضايا المفتوحة، التي لا يمكن
للعدوّ فيها الاستقرار المطلق والنهائي، ومن ثمّ تكون مهمة الشعب، وقواه المنظمة
له، هي تصعيب مهمة الاحتلال، وإقلاقه، ومشاغلته، وقطع الطريق على تمدده وعلى التطبيع
معه قدر الإمكان، وذلك إلى حين تغيّر موازين القوى. هذا النمط من التفكير يحتاج
صبراً وتشافياً من الفكر الخلاصي. وأما في المستوى الإيماني فثمة بعد آخر لهذا
التفكير يرفض التصورات المادية حول مفهوم النصر وحتمياته الدنيوية.
لكن على أية حال، فالانسداد التاريخي ليس مطبقاً اليوم
في مستواه الذاتي، من جهة لعدم تسيّد المسار الخاطئ، بوجود قوّة مقاومة لديها قدرة
نسبية على خلق التوازن، حتى لو كانت تعاني قيوداً أخرى، ومن جهة أخرى لانكشاف
المسار الخاطئ وتآكله وتصاعد الإيمان من جديد بمشروع المقاومة. أمّا على المستوى الموضوعي،
فحالة السيولة الجارية من شأنها أن تساهم في مناوءة موازين القوى، وأن تفتح مسارات
أخرى لقوى المقاومة والرفض، على ألا تقترف المزيد من الأخطاء الذاتية.
twitter.com/sariorabi