هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكن الحج المسيحي فريضة مهمة، ولم يصل إلى أهمية الحج إلى المقدسات الإسلامية، في مكة، والمدينة، وهي المدن الإسلامية، التي يفد إليها الحجاج المسلمون، بيد أن الحج المسيحي، بعد فترة من الوقت، أصبح جزءًا مكملاً للممارسة المسيحية. فكان أهم ما تمخضت عنه رحلة القديسة هيلانة إلى فلسطين، "أن وضعت هيلانة، بذلك، أُسس الحج المسيحي إلى الأماكن المقدسة، واعُتبرت، هي ذاتها، أول حاجة مسيحية، وليسير على نهجها القديس جيروم، وشعب الكنيسة المسيحية كله، من بعد".
هكذا، صار الحج إلى تلك البقاع تقليدًا قائمًا لدى المسيحيين، وهم الذين حرصوا على أن يقتفوا أثر القديسة هيلانة، التي قامت بزيارة حج للأرض المقدسة في فلسطين.
في هذا السياق صدر كتاب "زيارات المسيحيين واليهود والمسلمين إلى القدس في العهدين المملوكي والعثماني"، للمؤرخ روبرت تشيك (Robert Schick)، ترجمه بتصرف وعلق عليه د. جلال حسني سلامة، (طبع على نفقة المترجم، ط1، 2022).
تأتي هذه الدراسة بنوع من التفصيل والاطلاع على الزوار الذين قدموا إلى المدينة المقدسة وأعدادهم إن أمكن ذلك، والبلاد التي وفدوا منها خلال العهدين المملوكي والعثماني، ويتم التركيز هنا على الفترة الممتدة من عام 1260 م إلى حوالي أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، ويتناول فيها الباحث الروايات التاريخية التي تميط اللثام عن فئات الزوار الذين وصلوا إلى المدينة سواء أكان هؤلاء الزوار من عامة الناس أم من الشخصيات المعروفة والبارزة، وجلهم بدافع الاهتمام الديني الذي يشمل زيارة الأماكن الدينية المقدسة في القدس والمدن الأخرى كبيت لحم ومقام النبي موسى في أريحا، وأداء الطقوس والشعائر الدينية إلى جانب حضور الاحتفالات والمناسبات التي تقام فيها أو في مواقع دينية أخرى تتوزع في الأرض المقدسة.
تستند هذه الدراسة في معلوماتها الواردة فيها على أدلة مبعثرة وغير مكتملة بما في ذلك الروايات الشفوية والقصص التي جاءت على ألسنة الزوار المسيحيين الغربيين وروايات أقل عددا من الزوار القادمين من مختلف البلدان الإسلامية.
في القرون الأخيرة من العهد الفرنجي الصليبي في الأراضي المقدسة، وبينما أصبحت مدينة القدس تحت الإشراف المملوكي منذ عام 1260 م، تمكنت أعداد من حجاج من الغرب الأوروبي من القدوم إلى هذه المدينة، ومن بين الحجاج الغربيين الذين قدموا خالل هذه الفترة ] أي ما بين 1274- 1284م] الحاج بورشارد من جبل صهيون (Zeon Burchard of Mount)، وواصل الحجاج الغربيون توافدهم نحو المدينة المقدسة بصورة مستمرة ومنتظمة إلى حد ما حتى سقوط مدينة عكا وبعض المدن التي كانت ال تزال تحت السيادة الفرنجية الصليبية بيد المماليك عام 1291م، إذ نجد خلال هذه الفترة تراجعاً كبيراً في أعداد الحجاج المسيحيين القادمين من مختلف أنحاء الغرب الأوروبي.
ويتحدث تشيك عن المكانة التي أحرزها الفرنسيسكان، فقد "أعطى الحاكم المملوكي للفرنسيسكان ابتداء من عام 1336 م حرية الإقامة الدائمة في القدس وعهد للراعي الفرنسيسكي عام 1342 م برعاية الأماكن المسيحية المقدسة". ويصف لنا تشيك رحلات الحج التي تبحر من البندقية على متن السفن الشراعية حتى تصل ميناء يافا الفلسطيني، ويشير إلى أعداد الحجاج، وأوقات سفرهم، والمدة التي تستغرقها الرحلة، وضرورة التزام الحجاج ببرنامج الرحلة. ويشير إلى زيارات الحكام والنبلاء إلى المدينة المقدسة بصحبة حاشية وبطانة كبيرة، ومن بين الأمثلة زيارة ملك البرتغال إلى الأرض المقدسة 1389 م تصحبه حاشية مؤلفة من خمسة وعشرين شخصاً، وأيضاً زيارة ابن عمدة مدينة براغ (Bruges) عام 1414م، برفقة أربعة من أصحابه إلى جانب ثلاثة عشر خادماً.
يتطرق المؤلف إلى الحجاج البروتستانت، ومن بين أوائل الحجاج البروتستانت الذين تم التعرف إليهم قائد إحدى السفن وهو هنري تايمبرليك (Henry Timberlake)، وجورج روبنسون (George Robinson)، وكذلك هنري موندريل (Henry Maundrell). وفي العهد العثماني وفد إلى الأرض المقدسة زوار وعلماء آثار مهمتهم مواصلة البحث والاستكشاف ومن بين هؤلاء ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كارستن نيبور (Carsten Niebuhr) الوحيد الباقي من أعضاء البعثة الدنماركية الكتشاف جزيرة العرب والذي زار القدس عام 1766م.
رصد تشيك زيارات الحجاج المسيحيين من باقي الطوائف قائلاً: "إن تحديد أعداد الحجاج بدقة تامة هي مهمة صعبة وشاقة". وحدثنا عن قدوم الحجاج الأرثوذكس سواء حجاج عاديين أو رهباناً أو إكليركيين على زيارة مدينة بيت المقدس وأماكنها الدينية المختلفة بصورة دائمة ومستمرة تفوق زيارات الحجاج المسيحيين في الغرب الأوروبي.
لم تغفل الدراسة الحديث عن زيارات الجورجيين، والأرمن، والأرثوذكس السريان (اليعاقبة)، والأقباط، طائفة الحجاج الأثيوبيين ) الأحباش (، الحجاج النساطرة.
ولكثرة هذه الطوائف المسيحية وتعددها وبسبب اختلافاتها المذهبية أوكلت الدولة العثمانية منذ قرون لعائلتين مسلمتين، وهما (آل جودة و آل نسيبة) مهمة فتح كنيسة القيامة والاحتفاظ بمفاتيحها إلى اليوم.
كذلك لا يهمل الباحث زيارات اليهود الذين وفدوا من إسبانيا والبرتغال للمدينة المقدسة، دون أن يتعمق في التفاصيل. ويشير تشيك إلى المسلمين الذين يعتبرون "الحج" إلى مكة والمدينة ، وإن كان الكثير منهم يتجهون إلى المدينة المقدسة بعد الحج لاستكمال تلك الفريضة في رحاب المسجد األقصى وقبة الصخرة المشرفة باعتبارها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وكان بعضهم يشارك في موسم النبي موسى قرب أريحا ، وآخرون يزورون الحرم الإبراهيمي في الخليل.
أخيراً، فنحن أمام عمل مميز، جاء على مدى 93 صفحة من القطع المتوسط، تكمن أهميته في إعطائنا بعض التفاصيل عن الحجاج والرحالة إلى فلسطين في العهدين المملوكي والعثماني، ما يسهم في تسليط الضوء على تاريخ فلسطين.
*كاتب وباحث فلسطيني