سلطت مجلة "
إيكونوميست" في تقرير لها الضوء
على آثار الطفرة
النفطية الأخيرة على دول
الخليج والطرق الواجب عليها إنفاقها.
وبدأت التقرير بالحديث عن مدينة نيوم التي تقدم خطوة نحو
المستقبل وصورة عن محاولات المملكة لتنويع اقتصادها بعيدا عن النفط. فهذه المدينة التي
اختيرت على بقعة في شمال- غرب السعودية ليس بعيدا عن خليج العقبة ستقدم روبوتات للقيام
بالعمل اليدوي وشواطئ مزينة بأحجار زجاجية وأسطولا من الطائرات المسيرة تشكل قمرا اصطناعيا.
وآخر النزوات هو بناء أطول بناية على شكل ناطحة سحاب لكنها متمددة على الأرض وبنظام
بيئي مكتف ذاتيا وتمتد على طول 100 ميل. وتشير التقديرات إلى أن المشروع سيكلف حوالي
500 مليار دولار.
وعندما ظهر الحلم المتوحش في عام 2017 بدت عملية تمويله مستحيلة،
أما اليوم فسيل أموال النفط المتدفق قد يسمح بالمضي قدما في عملية البناء. والعالم
يتعافى من تداعيات كوفيد-19 ودفع الغزو الروسي لأوكرانيا أسعار النفط حيث أدى لعملية
انتقال مذهلة للثروة العالمية من العالم الاستهلاكي إلى الدول المصدرة للنفط.
فما بين كانون الثاني/يناير إلى حزيران/يونيو ارتفع سعر برميل
النفط من 80 دولارا إلى 120 دولارا (وعاد اليوم إلى 95 دولارا).
ويقدر صندوق النقد الدولي أن الدول المصدرة للنفط في الشرق
الأوسط ووسط آسيا ستحصل هذا العام على صافي 320 مليار دولار كعائدات نفطية، وأكثر
مما توقعته وهو رقم يساوي 7% من الدخل القومي العام، وعلى مدى الخمس سنوات المقبلة
فإن الفائض المتراكم قد يصل إلى 1.2 تريليون دولار.
وعلى قادة دول الخليج التفكير والعمل حول كيفية إنفاق الأموال
والتي قد تكون آخر ضخة من مال النفط. وتعد بعض الدول بدفع الديون وتوفيرها لمستقبل
ما بعد النفط. وستكون هناك ضغوط لمشاركتها مع المواطنين، ورقابة قليلة على الذين يريدون
رش المال على المشاريع الضخمة وشراء التأثير الدولي.
وبدا تأثير هذا على الدوائر الدبلوماسية، ففي زيارة إلى جدة
في تموز/يوليو سلم الرئيس جو بايدن بالقبضة على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. وظل
بايدن طوال الفترة الماضية على مسافة بعيدة من الأمير، إلا أن الواجبات السياسية الحالية
ومحاولة تخفيض أسعار النفط لم تدع مجالا للمواقف الأخلاقية.
وتدعم أسعار النفط الباهظة القوة المالية الخليجية في الداخل
والخارج، وتفتح بوابة لضخ النفقات العامة وتوجيه تدفق المال حول العالم.
وتشير المجلة إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الذي
شهد زيادة في أسعار النفط بشكل أدى لاختلالات ضخمة في الوقود وضغط على أسعار الفائدة وجذب سيلا من المتوسلين الراغبين
بالحصول على أفضلية في المعاملة. وبالمقارنة فالنفط الرخيص يقلص من الطموحات. وعندما
انتهت آخر فترة مستدامة لأسعار النفط العالية عام 2014، بدا وكأن العقد الاجتماعي النفطي
الذي حمل معه وعودا بدعم كبير للمواد الأساسية والقطاع العام بحاجة للتغيير.
وانتشر الحديث حول التنويع وزيادة أسعار الوقود المحلي والطعام
بل وفرض الضرائب. وفي الفترة التي شهدت انخفاض أسعار النفط وانتشار كوفيد-19 عانت ميزانيات
دول النفط من التدهور. إلا أن هذا العام يقدم فرصة لتقويتها. فقد زاد الدين العام في
البحرين إلى 130% عام 2020، إلا أن ميزانية البلد تقوم على سعر 60 دولارا للبرميل.
ومن هنا تسمح أسعار النفط المرتفعة للبحرين بتخفيض الدين العام بنسبة 12%، مع أنها
من أصغر المنتجين للنفط في دول مجلس التعاون الخليجي. ويتوقع أن ينخفض عبء الدين العماني
بنسبة 20% من الناتج المحلي العام.
وترغب الدول الأخرى بتوفير الفائض المالي، حيث قال وزير المالية
السعودي، محمد الجدعان إن حكومته لن تلمس الفائض المالي النفطي، على الأقل هذا العام.
وستقوم بتخزينها في المصرف المركزي واستخدامها في عام 2023 لتجديد الاحتياطي الأجنبي
أو دعم هيئة
الاستثمار العام، الصندوق السيادي الذي تحول إلى عجلة الاستثمار في المملكة.
إلا أن البحرين ستستخدم جزءا من الفائض لتمويل صندوق يقصد
منه دعم أجيال المستقبل، والذي نضب أثناء الوباء. لكن الضغوط للإنفاق ستكون كبيرة،
فاقتصاديات دول الخليج لم تعان من زيادة الأسعار كما في بقية العالم، ويتوقع صندوق
النقد الدولي أن تصل نسبة التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي إلى 3.2% هذا العام،
وأقل من المستويات في الولايات المتحدة وأوروبا.
كما أن الأعداد الغفيرة من العمالة الوافدة الرخيصة تسهم
في تخفيض كلفة الأجور. وتعتمد معظم الدول الوقود المدعم للحد من التضخم. وفي غضون ذلك
يعمل الدولار القوي على تخفيض كلفة الواردات، فخمس من ست دول في مجلس التعاون الخليجي
تربط عملاتها بالدولار.
كل هذا لم يحم سكان منطقة الخليج من الشعور بآلام الأزمة
الاقتصادية العالمية، فقد خفضت الإمارات دعمها للوقود عام 2015، وارتفعت أسعار النفط
بنسبة 79% في الفترة ما بين كانون الثاني/ يناير إلى حزيران/ يونيو عندما رفعت الدولة
سعر الليتر الواحد مرة أخرى إلى 4.52 دراهم (1.23 دولار). ولا يعتبر السعر سيئا في
المعايير العالمية لكنه سعر باهظ بالنسبة للدول البترولية، ويدفع السائقون في السعودية
نصف السعر.
وأعلنت الإمارات في تموز/ يوليو أنها ستضاعف ميزانية الرفاه
للفقراء من 2.7 مليار درهم إلى 5 مليارات درهم. وستحصل العائلات المؤهلة على دعم في
السكن والتعليم مع بدل لتعويض سعر النفط والطعام. وتستطيع الإمارات التباهي قليلا نظرا
لأن عدد المواطنين لا يزيد عن مليون نسمة أي نسبة 10% من سكان الإمارات. لكن السعودية
ستواجه تحديا لإرضاء رغبات المواطنين، حيث ثلثا السكان من الشباب تحت سن الخامسة والثلاثين
عاما. وفي الماضي استخدمت الحكومة الطفرة النفطية من خلال توفير فرص عمل ومنح رواتب
عالية في القطاع العام. وعمل هذا سيكون مناقضا لرؤية 2030، وهي خطة لتنويع الاقتصاد
والتي تعني فطم المملكة عن النفط.
وتتذمر الشركات من عدم قدرتها على الحفاظ على المواهب. ويتعامل
الكثير من السعوديين مع القطاع الخاص على أنه مجرد متعة لحين توفر وظيفة في الحكومة.
وتقدم الثروات النفطية طرقا أخرى لحماية المواطنين من مشاكل
التكلفة. ففي عام 2016 وافقت دول مجلس التعاون الخليجي على فرض نسبة 5% كضريبة القيمة
المضافة. وفعلت هذا أربع دول باستثناء الكويت وقطر. وذهبت السعودية أبعد، ففي عام
2020، ضاعفت من القيمة المضافة إلى 15% على أمل أن تمنع الآثار المالية للوباء وبسبب
انخفاض أسعار النفط.
وقال ناصر سعيدي، الاقتصادي اللبناني الذي يدير شركة استشارات
في دبي: "بات لديك أداة سياسية لم تكن لديك من قبل" فـ "بدلا من زيادة
النفقات أو التوظيف يمكنك تخفيض ضريبة القيمة المضافة".
وإلى جانب هذه الاهتمامات، فهناك حاجة للتفكير البعيد وأبعد
من الطفرة النفطية. وفي المكاتب الحديثة في الصندوق السيادي البحريني فهذه الأفكار
واقعية "بالطبع نحن فرحون من أسعار النفط العالية ولكن التركيز يجب أن يكون على
القطاع النفطي" حسبما قال مدير تنفيذي. لكن التفكير بما يعني هذا على الواقع ليس
سهلا، ويقول مدراء في الصناديق السيادية بالخليج إن التفويض الذي حصلوا عليه أصبح متناقضا.
فمن ناحية طلب منهم الحفاظ على ثروة النفط للأجيال المقبلة، لكنهم يطالبون باستخدامها
لتغذية النمو في القطاع غير النفطي، من ناحية أخرى. وهو عمل يحمل معه الكثير من المخاطر.
وترى المجلة أن دول الخليج لم تكن جيدة في الحكم على المخاطر
الواجب اتخاذها، فالمنطقة حافلة بالمشاريع الضخمة والفاشلة وتعود لفترات ازدهار نفطي
سابقة. فالمنطقة المالية في السعودية التي قصد منها أن تنافس دبي، عانت من التأخير
وتجاوزت الكلفة المقررة لها. وعندما انتهى العمل منها ظلت فارغة، ولم تر البنوك ضرورة
في الانتقال إليها. وأنفقت الإمارات مليارات الدولارات لإنشاء جزر اصطناعية على شكل
خريطة العالم. وبعد أكثر من عقد عليها يبدو أرخبيل الجزر هذه مهجورا. وبنفس السياق
تلاشت طموحات الإمارات كي تكون مركزا لصناعة أشباه الموصلات ومركزا للسياحة الطبية.
وهذه المرة سيكون التفكير البري عن عالم مستعد لاستيعاب جزء
من الثروة النفطية، حيث تخطط السعودية لاستضافة دورة الألعاب الآسيوية الشتوية في عام
2029 ورش الجبال الصحراوية بالثلج. ولدى دبي خطة مثيرة للضحك وتقوم على خلق 40.000
وظيفة في مشروع مستقبلي وخلال خمسة أعوام.
وربما ثبت أن المشاريع المفرطة بالتفاخر مضيعة للمال. وترى
السعودية أن السياحة ستكون مركزا في خططها لمرحلة ما بعد النفط وتوفر نسبة 10% من الناتج
المحلي العام. وستعطي الطفرة النفطية هيئة الاستثمار العام مليارات لإنفاقها على مدن
الألعاب والمنتجعات ومظاهر الترفيه الأخرى. ولكن المسؤولين السعوديين ليس لديهم تقييم
مناسب يظهر أن 100 مليون سائح سيختارون زيارة المملكة كل عام. وكما يقول علي السالم،
المستثمر الكويتي: "فهذه تجارة متقلبة لتجعلها حجر الأساس في خطتك الاقتصادية".
وستكون دول الخليج حكيمة للتركيز على المجالات التي تتميز
فيها بالمنافسة. مثل تطوير خبرات وتكنولوجيا في تحلية المياه، كما فعلت إسرائيل، ستكون
جيدة لمنطقة تعاني من الجفاف. كما أن الاستثمار في الطاقة الخضراء والتكنولوجيا المتعلقة
بها مثل الهيدروجين قد تكون مصدرا للموارد بعد التحول في مجال الطاقة.
ويقترح سعيدي الاستثمار
في مشاريع الطاقة المتجددة واستراتيجيات تخفيف آثار التغيرات المناخية في آسيا وأفريقيا،
وكنسخة خضراء لمبادرة الحزام والطريق الصينية و"هذه لحظة للنظر مرة أخرى عندما
تريد تقديم الدعم الأجنبي".
وبالتأكيد فإن الثروة النفطية ستعمل على تشكيل علاقة الخليج
مع العالم، كما بدا واضحا من زيارة بايدن لجدة في تموز/يوليو. وتم إنفاق مبالغ ضخمة
لتحسين صورة السعودية وسمعتها. فقد تم تحويل عالم الغولف إلى ليف عندما دعمت السعودية
مباراة بديلة عن مباريات "بي جي إي" وجذبت نجوم اللعبة بالملايين. وبدأت
المملكة باستضافة "فورميولا وان" في عام 2021، وغنى نجوم البوب من جاستين
بيبر إلى ماريا كيري وديفيد غويتا في السعودية.
وسيترك الازدهار النفطي تأثيره الملموس على العالم. فالفائض
المالي لدول الخليج هذا العام سيكون أكثر من 400 مليار دولار، أي 04% من الناتج المحلي
العام الدولي، وهي نسبة أعلى من تلك التي تم تحقيقها قبل الأزمة المالية العالمية ما
بين 2007- 2009.
وفي الماضي كان يتم
إعادة تدوير الفائض من الازدهار المالي بالاستثمار
في أمريكا، لكنها أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم وأصبحت الدول الصاعدة غنية وطورت
رغبة للنفط. ولهذا فإن الفائض المالي الخليجي يتناسب اليوم مع وضع ميزان المدفوعات
الأضعف للدول الصاعدة، بما فيها الصين والهند، وعدد من الدول الأصغر منها سريلانكا
والتي تعاني من شلل بسبب زيادة أسعار النفط المستورد.
وتأثر العالم من زيادة أسعار النفط أكثر من العقد الأول من
القرن الحالي. وهذا نابع من تعطل سلاسل التوريد وليس نتيجة لزيادة الطلب القوية على
النفط. وطلبت عدة دول من قادة الخليج الدعم المالي من أجل الوفاء بالتزاماتها وليس
دعم سياسات البيئة.
ومثل الصين والهند، فقد لعبت السعودية والإمارات دورا متزايدا في الإقراض للدول الفقيرة على مدى العقدين الماضيين، ولعبت دورا كان مقتصرا على الاقتصاديات
المتقدمة والمؤسسات الدولية المتعددة مثل البنك الدولي. وستعطي الأزمة التي ضربت الاقتصاديات
ذات الدخل المتدني والمتوسط دول الخليج النفوذ لو أرادت استخدامه في أماكن غير محظوظة.
وربما كانت الفرصة الأخيرة، ففي الدول الفقيرة والغنية فإن
الآلام الناجمة عن زيادة أسعار الطاقة تزيد من الحاجة لتخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري.
والمشاعر واضحة في قلب الطفرة النفطية الحالية.
ويرى السالم، المستثمر الكويتي "هناك شعور أن الأيام
باتت معدودة"، مضيفا: "انظر إلى حالة أوروبا، ولا أعتقد أنها ستسمح لنفسها
بأن تكون ضعيفة في السنوات المقبلة"، والسؤال ينسحب على الخليج، فهل سيسمح؟