قضايا وآراء

"رابعة والنهضة".. دماؤنا الزكية التي لم تجف

محمد الغزلاني
1300x600
1300x600
كلما دخل علينا شهر آب/ أغسطس من كل عام تهيج علينا تلك الذكرى المؤلمة والفاجعة الكبيرة التي عايشناها وتركت ندوبا عميقة في قلوبنا ونفوسنا، لا أخال تمحوها السنون مهما تطاولت.

ذكرى شبابنا الأطهار الذين أُزهقت أرواحهم ظلماً وعدواناً وأُريقت دماؤهم الزكية بغير حق، حيث تم قتل خيرة شباب مصر بدم بارد وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، حيث انهمر رصاص الغدر والخيانة ليستقر في الرؤوس والقلوب، لا فرق في ذلك بين رجل وامرأة، بين شيخ وطفل، كلهم كانوا في مرمي الظالمين وغرضا يصوبون عليه دون أدنى ذرة من شفقة أو رحمة.

في ذلك اليوم الذي حدثت فيه المذبحة، استيقظت على اتصال هاتفي من أحد الشباب المتحمسين، وكان ذلك في حوالي الساعة الثامنة والنصف، وقمت مدهوشا، لأنني لم أنم إلا سويعات بعد صلاة الفجر ومصدوما من بكاء الشاب الغزير الذي اختلط كلامه بالصراخ، فلم أتبين كلامه إلا بصعوبة بالغة وهو يقول: "لقد قتلوهم.. لقد قتلوهم" (يقصد جموع الثائرين في رابعة العدوية وميدان نهضة مصر).

قمت مسرعا إلى الوضوء وأنا أشعر أن الدماء تغلي في قلبي من شدة الغضب، ثم ما لبثت الاتصالات أن توالت لتوضح فداحة الجريمة وحجم المأساة التي يعيشها المحاصرون في رابعة والنهضة.

ولا أنسى أبدا أول اتصال هاتفي جاءني من أحد الأصدقاء الذي كان معتصما في ميدان النهضة قال: لقد أُحرقت خيمتكم بالكامل ومعظم من كان فيها أصيب أو قتل، ونقل لي بعض الصور ومنها صورة صديقنا هشام الأعوج ابن منطقة كرداسة؛ وقد احترق نصفه الأسفل تماما وبقي جزء من صدره ورأسه وقد استشهد من فوره، ثم صورة ابن صديقي أشرف الزندحي (المهندس إسلام) وقد استُشهد وآثار الرصاص الكثيف يملأ وجهه وصدره.

ثم توالت الصور المرعبة التي تعكس حجم الفاجعة وفجور المجرمين.. هذا شاب أُصيب في رأسه فخرج مخه بالكامل، وهذا آخر احترق جسده كله، وهذه البنت أخذت طلقة مباشرة في القلب.

أردت أن أبكي فلم أستطع، تحجرت الدموع في عيني، واختلطت في داخلي مشاعر الحزن والغضب والألم. لم أفق إلا على نداء الاستغاثة من مجموعة من الشباب في ميدان النهضة، حيث تسارعت الأحداث بشكل مخيف، وكانت الإصابات كلها مركزة في الأماكن القاتلة.

هرعت مع مجموعة من الشباب لمحاولة إنقاذ العالقين في النهضة ومن حولها، واستوقفتني في الطريق مجموعات من الشباب في كرداسة في طريقهم للتظاهر أمام قسم شرطة المدينة، وقد نقلوا إليّ أن مدرعات الشرطة تطارد المتظاهرين مع إطلاق كثيف لعيارات الخرطوش وقنابل الغاز، وسألوني عما يمكنهم فعله، فأشرت عليهم بالتظاهر السلمي حول القسم فهرولوا لتنفيذ ذلك مسرعين.

وهرولت أنا باتجاه ميدان النهضة وأنا أتحسس الطريق وأغيره كلما اقتضت الضرورة، حتى قابلت بعض من كانوا مع المعتصمين وقد دهشوا من شدة الهول وبعضهم به إصابات مختلفة.

واتصل بي مجموعة من الشباب وهم في طريقهم لمؤازرة إخوانهم في رابعة العدوية، وكانوا كلهم حماسة وإصرار على نجدة المعتصمين المُحاصرين.

فتكلمنا قليلا حول حجم الأخطار التي ستواجههم، ثم أنهينا النقاش عندما قال صديقي أشرف عبد الكريم: لو لم نجد في نصرتهم إلا أن نُقتل معهم فليكن ذلك. وقد قُتل رحمة الله عليه (ونحسب أنه قد صدق الله فصدقه الله)، وقُتل غيره من أصدقائنا وأصيب العديد منهم.

وعندما حان وقت صلاة الظهر كانت السحابة السوداء تطوق قسم الشرطة في كرداسة من كثرة الإطارات التي أشعلها الشباب حول القسم، وكان ميدان النهضة قد تم اقتحامه وحرق خيم المعتصمين، وقد لحق بنا بعض الناجين.

ولم تكد الساعة الثانية تدخل إلا وقد تجمع حول القسم جحافل المتظاهرين الغاضبين الذين هالهم ما يحدث من حرق وقتل للمعتصمين، وما هي إلا دقائق حتى وصل ملثمون لا نعرفهم وتم اقتحام القسم.

وعندما دخل الليل وصلينا العشاء لم تكن أمهات شهداء رابعة والنهضة وحدهن اللائى يبكين، فلقد بكت معهن في نفس الليلة أمهات الضباط في قسم كرداسة، فلقد تجرعن من نفس الكأس وترملت الزوجات وتيتم الأطفال، حيث جلب لهن غربان الانقلاب الشؤم والخراب الذي طال كل فئات الشعب المصري؛ فالانقلاب هو المسؤول الأول عن تلك الدماء التي سالت وتلك الزوجات التي ترملت وهؤلاء الأبناء الذين فقدوا عائلهم.

وفي اليوم الثاني لفض رابعة والنهضة تجمعنا لكي نزف الشهيد إسلام الزندحي، حيث امتلأت مقابر كرداسة عن آخرها بجموع المشيعين وعلت أصوات التكبير والتهليل وطلب القصاص للشهداء.

ولم تستطع قوات الجيش والشرطة دخول كرداسة أكثر من ثلاثين يوما كاملة، خوفا من المواجهات داخلها، حتى قال أحد الرفاق إنهم نمر من ورق؛ ظاهره القوة والشجاعة وباطنه الجبن والخور.

ويبقى التساؤل الذي كتبه أحد الباحثين: ماذا كان سيحدث لو فعلت كل المحافظات ما فعلته كرداسة ودلجا؟ هل كانت الموجة الثانية للثورة المصرية قد دخلت حيز التنفيذ؟ أم أن الفوضى العارمة هي التي كانت ستسيطر على ربوع المحروسة؟

رحم الله شهداء رابعة والنهضة وكل شهدائنا الأبرار، وجمعنا بهم في أعلى درجات الجنة.
التعليقات (3)
طاهر الشرباصي
الثلاثاء، 16-08-2022 09:59 م
حسبنا الله ونعم الوكيل وعندالله تجتمع الخصوم حفظك الله دكتور غزلاني ورحم الله الشهداء وفك اسرالمأسورين
اشرف الزندحي
الثلاثاء، 16-08-2022 10:16 ص
جزاكم الله خيرا اخي دكتور محمد رحم الله شهداء رابعة والنهضة وكل شهدائنا الأبرار، وجمعنا بهم في أعلى درجات الجنة اللهم آمين
اشرف الزندحي
الثلاثاء، 16-08-2022 06:54 ص
بارك الله فيك اخي دكتور محمد رحم الله شهداء رابعة والنهضة وكل شهدائنا الأبرار، وجمعنا بهم في أعلى درجات الجنة. اشرف الزنحي