منذ اقتحام نابليون لسكون الشرق العربي المطمئن تفجرت
قضايا الوجود العربي والإسلامي في العالم. كانت يقظة مؤلمة، ولكنها كانت
مفيدة أنتجت حراكا فكريا عميقا تجاوز الإثارة الخارجية الغازية لتطرح الأسئلة
الجوهرية عن النهضة والتقدم، ويعود العربي المسلم إلى تراثه السياسي بالسؤال،
وسافرت الأسئلة الحارقة عبر الخريطة محاولة بناء عروة وثقى تجمع شتات الأمة وتضعها
في مكانها من الجغرافيا والتاريخ.. كان عصر نهضة عربيا إسلاميا حديثا.
محطات ترحيل
القضايا الجوهرية
انكسر مسار الأسئلة والمراجعات ومحاولات البناء بهجوم
استعماري متعدد الرؤوس دمر القدرات الناشئة وأحبط آمال الشعوب والنخب، حتى كانت
الاستفاقة الثانية التي يمكن التأريخ لها بثورة 1919 بمصر التي تجاوزت كونها حدثا
قُطريا.
الأسئلة المكسورة عادت من جديد ونشأت التيارات الفكرية
والأحزاب بشكل أكثر وضوحا وبأفكار أكثر مضاء (لقد حدثت ثورة مختلفة في روسيا وبثت
فكرا جديدا)، ولكن فكرة التحرير من الاحتلال المباشر هيمنت على الفعل الجماعي مما اقتضى
تأجيل البحث عن الإجابات العميقة. فلما حصل
التحرر الشكلي وبُنيت الدول الحديثة
هيمن حديث جديد يسبق
التنمية الاقتصادية الكمية (محاربة الفقر والجوع والمرض) على
التنمية الفكرية والثقافية، وكانت هذه حيلة اتبعتها الأنظمة الجديدة لعجزها الفعلي
عن تقديم الإجابات الشاملة والجذرية. وهكذا في كل مرحلة كان يتم ترحيل القضايا على
أمل أن تحل نفسها بنفسها، أو أن يوجد زمن خاص لحلها لاحقا.
فكرة التحرير من الاحتلال المباشر هيمنت على الفعل الجماعي مما اقتضى تأجيل البحث عن الإجابات العميقة. فلما حصل التحرر الشكلي وبُنيت الدول الحديثة هيمن حديث جديد يسبق التنمية الاقتصادية الكمية (محاربة الفقر والجوع والمرض) على التنمية الفكرية والثقافية، وكانت هذه حيلة اتبعتها الأنظمة الجديدة لعجزها الفعلي عن تقديم الإجابات الشاملة والجذرية
وقد كشف الربيع العربي بما أعاده إلى السطح من صراعات
أيديولوجية أن القضايا المرحلة من مرحلة الاستقلال على غرار صراعات الهوية في
مواجهة التحديث هي قضايا لم تحل، وأنها لا تزال تلح على الفعل السياسي والثقافي
وأن تجاهلها يؤدي إلى تعفنها كشأن الدمامل. وعليه، فإن علاجها بشكل مبدئي سيكون
حاجة وأساسا لبناء الديمقراطية مستقبلا ضمن سياق تحرر وتحديث وتأصيل هوياتي، رغم
أن خطاب العولمة الثقافية السائد الآن يغطي على المطلب (مرة أخرى).
تناقضات موهومة
ضيعت الطريق
كان سؤال القرن التاسع عشر: لماذا تأخر المسلمون وتقدم
غيرهم؟ ثم تحول السؤال في أول القرن العشرين إلى سبل تحقيق الحرية والسيادة كشرط
للتقدم والنماء، وتحت الدول الوطنية الناشئة نبت سؤال غريب في غير علاقة بما سبق: هل
يمكن التقدم بالحفاظ على ثوابت الهوية الأولى في المنطقة العربية خاصة "العروبة
والإسلام"؟ ووُضع المكونان في تناقض مع عملية بناء الدول بصفتها جوهر
التقدمية.
وكانت حروب داخلية قادتها أنظمة ضد شعوبها محاولة فسخ
هوياتها وتحويلها إلى نسخ من شعوب أخرى؛ نشأت نشأة مختلفة وتقدمت بطرقها الخاصة نحو
النماء الاقتصادي والتحرر السياسي والثقافي. كانت الأنظمة نسخا مشوهة من دول
مكتملة البناء، وقد عملت هذه الأنظمة على جعل شعوبها نسخا من شعوب تطورت بقواها
الذاتية وبنت نماذجها دون تقليد لأحد سبقها. وكانت قوة المحق الثقافي في يد
الأنظمة الحاكمة وكانت تحظى بدعم النماذج المكتملة، أي الدول الغربية.
القمع الثقافي الذي يستمر حتى الآن هو عملية منهجية
لمنع طرح أسئلة الهوية زادت في تعميق الأسئلة فتحول حملة السؤال إلى أحزاب، وفي
مواقع كثيرة إلى تنظيمات مسلحة ترد على القوة بمثلها دون إدراك الفارق ولا قياس
الإسناد الخارجي لهذا القمع.
القمع الثقافي الذي يستمر حتى الآن هو عملية منهجية لمنع طرح أسئلة الهوية زادت في تعميق الأسئلة فتحول حملة السؤال إلى أحزاب، وفي مواقع كثيرة إلى تنظيمات مسلحة ترد على القوة بمثلها دون إدراك الفارق ولا قياس الإسناد الخارجي لهذا القمع
سؤال الهوية لم يعد قضية داخلية يتجادل حولها مواطنون في
دولة واحدة فحسب، لقد تطور ليصبح سؤال حركة تحرر وطني مستعيدا سؤال أول القرن
العشرين، لكن ظل يحوم حول الوسيلة بفعل القمع نفسه، فلما فاجأه الربيع العربي لم
يفلح في توجيهه إلى جوهر السؤال القديم والمؤسس، فسقط في فخ صناعات السياسات
بأدوات الأنظمة نفسها فكأنها أبدت أدوات قمعها بنفسها (إن مجزرة رابعة هي بنت
القبول بالدخول تحت صندوق انتخابي).
هذا درس جاء بعد الواقعة، لذلك يظهر كسؤال مزايدة متعالم..
هناك تحريف وانحراف سابق وجب الانتباه له عند قراءة مسارات بناء الأفكار
والاجتهادات السياسية.
أما التحريف فهو أن الأنظمة العربية قطعت وشائج الارتباط
بين أفكار ثورة 19 في مصر، التي لها نظير تونسي في نشأة حزب الثعالبي، ولها نظير
مغربي في نشأة حركة الخطابي وبناء جمهورية الريف، ولها نظير جزائري في حركة علماء
المسلمين بقيادة بن باديس، وهناك أمثلة أخرى في الشام والعراق وتركيا. وعملت
الأنظمة على فسخ كل الأسئلة المؤسسة من الذاكرة الجماعية، عبر برامج مدرسية مدروسة
بعناية أنتجت مواطنا بلا هوية ومشغولا بلذته الفردية.
أما الانحراف فهو تحول حركة فكرية مثل حركة الإخوان
المسلمين تأسست على القضايا الأساسية إلى حركة فقهية تروج لفكر شريعي مشغول بنواقض
الوضوء وأحكام الطهارة؛ أكثر مما يشغل نفسه بقضية تحرير شعب رازح تحت نظام عسكري.
لقد فعلت التغريبة الخليجية فعلا تخريبيا في حركة الإخوان، فعادت نسخة رديئة من
الفقه الوهابي المتزمت وضيّقت على الناس حياتهم. وحدها حركة حماس تجعل هذا التحليل
غير متماسك، لكن أليست مصر وتونس وغيرهما محتاجتين إلى حركات حماس قُطرية بنفس
الفكر والأسلوب؟
أظن أن موجة الربيع العربي الأولى قد فقدت زخمها واستفرغت من مضامينها التحررية بحيل سياسية غير منتجة لأي أفق؛ إلا إعادة تأبيد وضع الاغتراب والفقر والقمع بكل أدواته، لذلك أرى ضرورة العودة إلى الأسئلة الأولى
الاستئناف من
النقطة الصفر
في هذه القراءة أظن أن موجة الربيع العربي الأولى قد
فقدت زخمها واستفرغت من مضامينها التحررية بحيل سياسية غير منتجة لأي أفق؛ إلا
إعادة تأبيد وضع الاغتراب والفقر والقمع بكل أدواته، لذلك أرى ضرورة العودة إلى
الأسئلة الأولى. فالأسئلة المرحّلة من المراحل السابقة لا تزال معلقة، وهي أسئلة
في جوهرها أسئلة تحرر وطني من الاحتلال المباشر (فلسطين) وغير المباشر (بقية
الأقطار).
يمكن تعديد مكاسب تنموية كمية مثل ارتفاع نسب التعلم
وتكوين نخبة أكاديمية وخبرات علمية وإدارية في مواقع كثيرة، ولكن ذلك غير كاف لأنه ليس هناك برنامج تحرر وطني. ففي الحالة التونسية مثلا تشتغل الجامعات التونسية على
صناعة أطباء ومهندسين بخبرات عالية وتصدرها مجانا، بل بكلفة الفيزا أيضا، لفرنسا
التي صارت تفتقر إلى الأطباء والمهندسين، كيف وهم يأتونها مجانا يتسولون خبزة؟
كيف ومتى وهل ذكر حماس وتمجيد أسلوبها دعوة للعنف
المسلح؟ بعد هذا عن نيتي وفكري، لكن اليقين أن اللعب في ساحة الأنظمة وبأسلوبها
وأدواتها لم ينتج حرية وانتهى إلى ردة. لذلك فإن الأسئلة الأولى تظل قاعدة تأسيس
للجيل الأكثر وعيا بأهمية الحرية وأدواتها الفعالة، وليس منها امتلاك أجهزة السلطة
إلا في مرحلة لاحقة.