هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أفغانستان وهي تجر أذيال الخيبة، بعد أن جاهدت طوال عشرين سنة (2001- 2021) لهزيمة خصمها ـ حركة طالبان وتثبيت حكم وكلائها الأفغان، وراح ضحية التدخل الأمريكي في أفغانستان زهاء 180 ألف من المدنيين والعسكريين الأفغان، فيما اضطر زهاء ستة ملايين أفغاني إلى النزوح طلبا للسلامة، بينما قتل في الجانب الأمريكي 2400 عسكري وأصيب الآلاف بجراح متفاوتة الخطورة، واستنزفت العمليات العسكرية تلك أكثر من تريليوني دولار من الخزينة الأمريكية، التي دفعت أيضا 145 مليار دولار لما أسمته إعمار أفغانستان، وتضمن الإعمار المزعوم، تزويد القوات الأفغانية بحوالي 76 ألف مركبة و600 ألف قطعة سلاح و163 ألف جهاز اتصالات و208 طائرات في الفترة ما بين 2003 و2016 وكان ذلك "التمويل" بالاقتراض، ومن المتوقع أن تصل فائدة الاقتراض إلى 6.5 تريليون دولار بحلول عام 2050.
وأنفقت بريطانيا وألمانيا، اللتان شاركتا في حرب أفغانستان تلك، ما يقدر بـ30 مليار دولار و19 مليار دولار على التوالي.
وظلت الولايات المتحدة تزعم منذ انسحابها من أفغانستان، ووصول حركة طالبان إلى السلطة فيها، أن الفراق بين الطرفين كان بمعروف، ثم قررت فجأة وقف تسليم حكومة طالبان أي قسم من أرصدتها البالغة 9.5 تريليون دولار في البنوك والمؤسسات المالية الأمريكية، ولا تبرير أو تفسير لهذا القرار سوى أنه من باب الكيد والانتقام، وربما لأن واشنطن في حاجة لتدوير أي "فلس" في خزائن بنوكها لدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا، والتي ورغم اندلاعها بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، صارت اليوم حربا بالوكالة بين الولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
ومنذ أكثر من ثلاثين سنة وإيران عاجزة عن الاستفادة من أصول وأموال سائلة تتراوح ما بين 100 مليار دولار ـ 120 مليار دولار، منها 1.973 مليار دولار مجمدة في الولايات المتحدة. بينما بقية الأموال الإيرانية مجمدة في مختلف أنحاء العالم، بقرار من الأمم المتحدة بإيعاز أمريكي، واستحق الشعب الإيراني الحصار المالي والاقتصادي والتجويع بسبب جريمة اسقاط نظام الشاه، وكيل أعمال تل ابيب وواشنطن في الشرق الأوسط.
وجاء الدور على روسيا، ففور غزوها لأوكرانيا بلغ حجم الاحتياطات الروسية التي تم تجميدها نحو 100 مليار دولار، وهي عبارة عن أصول مجمدة في الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي)، والبنوك الأمريكية الأخرى، في إطار عقوبات وزارة الخزانة الأمريكية التي تحظر المعاملات مع البنك المركزي الروسي. وغاية أمريكا هي استنزاف احتياطات روسيا من العملة الأجنبية، وبالتالي خفض قدرة روسيا على تمويل الحرب، وفي حال تعثر روسيا في سداد ديونها، فسينخفض تصنيفها الائتماني إلى أدنى مستوى، وهذا يؤدي إلى زيادة عزلها عن الأسواق العالمية، مما يعرضها لصعوبة الوصول إلى التمويل والاقتراض في المستقبل، وزيادة تكلفة الاقتراض المتمثل بفوائد مرتفعة تثقل كاهلها.
وهناك مئات الحسابات المصرفية التي تخص أشخاصا وجهات اعتبارية من مختلف البلدان تحت التجميد في الولايات المتحدة، لا لأمر سوى أنهم من بلدان مغضوب عليها أمريكيا، ومع هذا فهناك أكثر من 25 تريليون من الدولارات تستثمرها دول العالم في الولايات المتحدة، بينما هناك زهاء 20 تريليون دولار أمريكي، تستثمرها شركات وأفراد من الولايات المتحدة الأمريكية في دول العالم الأخرى، دون خوف عليها من التجميد او المصادرة، لأنه ما من دولة تمارس القرصنة البنكية دون وازع أو رادع سوى الولايات المتحدة.
صارت الولايات المتحدة صاحبة الأمر والنهي في شؤون دولية عديدة، تساند ديكتاتورا في بلد ما، وتطالب بلدا آخر بتطبيق نظام ديمقراطي تعددي، وتؤدب ثالثة عسكريا إذا صارت ناشزا، وتفرض نفسها حاميا لفوائض الأموال من مختلف المصادر، ثم تصبح الحرامي الذي يضع يده على تلك الأموال ويستفيد من تدويرها بحجة ان صاحب المال يستحق العقاب الى ان يعود الى جادة الصواب، الذي هو بيت الطاعة.
ويبقى السؤال: لماذا تحرص حكومات ومؤسسات وأفراد من ذوي المال الحلال ولصوص المال العام على إيداع أموالهم في بلد يمارس تسن حكومته القوانين وتصدر التشريعات التي تخرق الأعراف والمواثيق الدولية، وتصادر وتجمد أموال كل من ينتمي إلى بلد يأتي بأمر يغضبها؟ والإجابة البديهية هي إن تحريك الأموال في بلد يمثل ويحتكر ثلث اقتصاد العالم، عظيم الفوائد والعوائد، وأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الوحيدة التي تستطيع امتصاص استثمارات هائلة، ولهذا فإن دولة مثل الصين لديها فائض كبير من النقد، تقوم بإيداعه في الخارج، كي لا "ترتفع" العملة الصينية، ويعوق ذلك قدرتها التصديرية. وفوق هذا كله، فطالما ان أمريكا تتحكم في الاقتصاد العالمي، فإن وضع الأموال الضخمة في بنوك أمريكا يعطي الثقة والسمعة الطيبة للدول والشركات، ويكون بمثابة حسن شهادة "حسن السيرة والسلوك".
ونظام اقتصادي ومالي يعطي دولة واحدة حق وضع قوانينه ثم خرقها، حتما معلول وظالم، وطفى الى السطح خلال العقود الثلاث الماضية مصطلح النظام العالمي الجديد، ويعني ان الولايات المتحدة وحدها، بعد أفول المنافس السوفييتي، صارت الكل في الكل، في كل مجالات الاقتصاد والسياسة والحوكمة، بينما حقيقة الأمر هي أنها كانت الكل في الكل في تلك المجالات منذ اربعينات القرن الماضي، فهي صاحبة البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وعملتها معيارية، ولديها في الأمم المتحدة ومن خلال مجلس الأمن الدولي ذي الأعضاء الستة، حق النقض بمساندة حليفين لا يعصيان لها امرا، وثالث يفوز بعضوية المجلس المؤقتة فقط إذا كان مرضِيّا عنه أمريكيا.
وهكذا صارت الولايات المتحدة صاحبة الأمر والنهي في شؤون دولية عديدة، تساند ديكتاتورا في بلد ما، وتطالب بلدا آخر بتطبيق نظام ديمقراطي تعددي، وتؤدب ثالثة عسكريا إذا صارت ناشزا، وتفرض نفسها حاميا لفوائض الأموال من مختلف المصادر، ثم تصبح الحرامي الذي يضع يده على تلك الأموال ويستفيد من تدويرها بحجة ان صاحب المال يستحق العقاب الى ان يعود الى جادة الصواب، الذي هو بيت الطاعة.