الغرب كله، بمسؤوليه وماكيناته الإعلامية ومراكز
دراساته، يحتفي بواحد كان من كبار أقطاب
الشيوعية ذات يوم، إذ يرحل
ميخائيل
غورباتشوف بعد أقل من 31 عاما من أفول
الاتحاد السوفييتي، وانطواء صفحة ذلك القطب
الذي وقف في وجه الهيمنة الغربية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على الأقل.
ليس
غورباتشوف أول من تنهال عليه
مدائح الغرب
وتُمَجَّد خصاله الشخصية ومواقفه السياسية وفكره من الراحلين من معسكر "أعداء
الغرب" الحقيقيين أو من أمم أخرى تجرأت في زمن ما، على أن تقول لا للغرب، قبل
أن يتبوأ زعامتها قائد بطريقة ما، يبدو معها أن الجماهير الهاتفة للزعيم الجديد
والمنقذ العتيد هي التي رفعت الرجل فوق العرش، لتكتشف، وقد فات الأوان، أنه واحد
من "الزعماء" الذين يستحقون في نظر الغرب الاحتفاء بهم، سواء في حياتهم
أو لدى مماتهم.
ولست أحيل هنا إلى أن غورباتشوف كان صنيعة للغرب دسه
في صفوف الحزب الشيوعي السوفييتي، كما قد يقول الموغلون في تبني نظريات المؤامرة،
إذ لا علم لي بذلك، بل إنه استحق بما تبناه من سياسات واتخذه من قرارات هذا
الاحتفاء الصاخب به في العواصم الغربية.
ليس غورباتشوف أول من تنهال عليه مدائح الغرب وتُمَجَّد خصاله الشخصية ومواقفه السياسية وفكره من الراحلين من معسكر "أعداء الغرب" الحقيقيين أو من أمم أخرى تجرأت في زمن ما، على أن تقول لا للغرب، قبل أن يتبوأ زعامتها قائد بطريقة ما
حين خلف غورباتشوف "قسطنطين تشيرنينكو" في
زعامة الحزب الشيوعي على سدة الأمانة العامة عام 1985، كان كل الرفاق الأعضاء ممن
بلغوا من العمر عتيا، فكان الأمينُ العام الجديد ميخائيل سيرغييفتش غورباتشوف، وهو
كهل في الرابعة والخمسين آنذاك، يبدو شابا في مقتبل العمر مقارنة بتشيرنينكو
ورفاقه الذين كانوا يعدون ما تبقى من أيام في أعمارهم، وفي عمر الإمبراطورية
العظمى التي يحكمون، من دون أن يتنبهوا أو يستقرئوا واقعهم والعالم من حولهم.
فالسلطة تعمي البصيرة قبل البصر في أحيان كثيرة، وكفى بنا مثالا نظرة خاطفة إلى
عالمنا العربي.
توقع كثيرون أن يفتح الزعيم "الفتي" أبواب
الإصلاح في الإمبراطورية مترامية الأطراف، فينتقل بها إلى آفاق أرحب وأوسع، وأفضل
مما بلغته. وكان هذا الأمر مدعاة لأن تسلط الأضواء على الزعيم الشاب بالمقارنة مع
رفاقه الحاليين والسابقين، لعل العالم يشاهد بصماته الإصلاحية المرتقبة في دولة هي
الوحيدة القادرة على فرض الندية العسكرية على القطب الثاني، بما تمتلك من آلاف
الرؤوس النووية.
يستذكر غورباتشوف في وثائقي عن حياته، أذاعته الجزيرة
الوثائقية إثر وفاته، تلك الساعات التي وجد نفسه فيها مدفوعا إلى أعلى منصب في
الإمبراطورية السوفييتية ولسان حاله يقول "يا ويلي! ما الذي وجدت نفسي
فيه؟"!
عام 1985 كان الاتحاد السوفييتي ينزف بغزارة في
أفغانستان منذ أن ورطه في أهوالها ليونيد بريجنيف عام 1979، وكان واضحا لمن يراقب
ويستقرئ التاريخ أن إمبراطورية أخرى سترفع الراية البيضاء في أفغانستان عما قريب،
كما رفعتها بريطانيا من قبل عام 1919، وكما سترفعها الولايات المتحدة لاحقا عام
2021.
يبدو أن غورباتشوف فتح عينيه على الواقع العسير بعد أن
فتحت له أبواب الكرملين، وربما كان هذا هو السر وراء نظرات الحسرة والأسى والخوف
والندم التي لم يستطع كبحها في ذلك الوثائقي، واغرورقت في لحظات عيناه وهو يتذكر
وأنَّى له الذكرى!
غورباتشوف فتح عينيه على الواقع العسير بعد أن فتحت له أبواب الكرملين، وربما كان هذا هو السر وراء نظرات الحسرة والأسى والخوف والندم التي لم يستطع كبحها في ذلك الوثائقي، واغرورقت في لحظات عيناه
وليت أهوال أفغانستان فحسب! بل يجد "القيصر"
الجديد أمامه مهمة تنوء بالعصبة أولي العزم من الرجال، إذ يهم بإنعاش اقتصاد
متهالك، وتجديد إدارة تكلست وقد أثقلتها الأيديولوجيا والنظريات الاشتراكية
الحالمة، واستعادة ثقة شعوب متعددة الأعراق والثقافات أصابها القرح والقنوط حين
وجدت نفسها تجتر الشعارات وكثير من البطون فيها خاوية، وعند حدودها غرب ينعم
ببحبوحة عيش برَّاقة، رغم زيفها هي الأخرى، ويُلَوِّح ببنطال الجينز وسيجارة
المارلبورو وسيارة المرسيدس الفارهة، ويكاد يكسب معركة القلوب قبل العقول، ولو
بسلاح الوهم.
بدأ غورباتشوف بترتيب هيكل الأمانة العامة التي يرأسها،
فقَرَّبَ إليه من يريدون الإصلاح مثله، وطرح ترياق الغلاسنوت (الانفتاح)
والبريسترويكا (إصلاح الحزب الشيوعي الحاكم).
طغت هاتان الكلمتان آنذاك على عناوين الصحف ونشرات
الأخبار في العالم وفي الغرب، الذي هلل للزعيم الجديد وفتح له أبوابه. وكم كنا
ونحن نتداولها، في غرف تحرير تلفزيوناتنا وصحفنا المكتوبة، نتجادل بشأن الترجمة
الأدق لها والأشمل لمعانيها!
كان هذا ترياق غورباتشوف الإصلاحي، لكنه كان الجرثومة
التي فتكت بالجسم الكبير العليل، إذ دخلته بجرعة غير مدروسة عواقبُها ووقتُ
تَجَرِّعِها، وما هي إلا خمس سنوات أو أقل حتى طوى غورباتشوف راية الاتحاد السوفييتي
الحمراء، وارتفعت في سماوات بلدانه العديدة رايات أخرى بألوانها وثقافاتها الأصيلة
التواقة لربيع جديد لم يزهر حتى الآن في أغلبها.
هكذا إذن يحتفي الغرب بغورباتشوف وقد رحل، لكنه ترك
أثرا لا ينمحي في عالم الأقطاب، كما لم تنمح تلك العلامة التي كانت على رأسه منذ
أن ولد.
ولم يُقْتَصَرْ احتفاء الغرب بغورباتشوف، وهو حي، على
شخصه فحسب، بل كان لزوجته منه نصيب كبير، فقد تألقت "رايسا غورباتشوف"
الجميلة على أغلفة أشهر المجلات الأمريكية والغربية. أوليست هي من بيدها زمام قلب
الزعيم المصلح، ومن تدير دولاب دفة عقله؟ وهي امرأة عصرية تحب الموضة والترف وتعشق
أفانين الحياة الغربية، وتمل قيود الاشتراكية وحدود الشيوعية القاسية في الظاهر.
ودهاقنة الغرب يعرفون أهمية دور المرأة في حياة الزعيم، سواء كانت زعامته شعبية
حقيقية أو زعامة مدسوسة تسللت إلى كرسي الحكم والناس نيام.
لم يُقْتَصَرْ احتفاء الغرب بغورباتشوف، وهو حي، على شخصه فحسب، بل كان لزوجته منه نصيب كبير، فقد تألقت "رايسا غورباتشوف" الجميلة على أغلفة أشهر المجلات الأمريكية والغربية. أوليست هي من بيدها زمام قلب الزعيم المصلح، ومن تدير دولاب دفة عقله؟
في ذلك الوثائقي بكى غورباتشوف زوجته وحبيبته، وغنى
أغنيتها المفضلة ولوحة جميلة بريشة فنان تتألق خلف البيانو، منذ أن رحلت
"رايسا" عام 1999، وتركت ميخائيل خائفا يترقب ما قد يفعله به
قياصرة
الكرملين، إذ يُحَمِّلونه مسؤولية انهيار الإمبراطورية وأحلامها الاشتراكية، وكم
شّفَّ عن ذلك رفضه الإجابة بصراحة عن بعض أسئلة معد الوثائقي.
لم تكن رايسا أول زوجة "زعيم" يحتفي بها
إعلام الغرب ودوائره. أَوَلا نتذكر كيف أصبحت جيهان السادات نجمة عالمية بعد أن
تماهى الرئيس المؤمن تماما مع الغرب، وتنكر لأمته وأصبح "بطل كامب
ديفيد" والسلام الذي يريده الغرب؟ مع أن في هذه المقارنة إجحافا بحق
غورباتشوف ورايسا.
وغير جيهان كثير ممن احتفى الغرب بهن، ومنهن
"ايلينا تشاوتشيسكو"، زوجة الرئيس الروماني الشيوعي الذي قتل وزوجته عام
1989 في ثورة شعبية أطاحت بالشيوعية. ومع أنه شيوعي فإن تشاتشيسكو كان وسيطا يساعد
الغرب في تنفيذ سياساته وخططه، من خلف جدران قصوره وقصور إيلينا الفارهة في
بوخارست، وكان هو من أقنع أنور السادات بأن يزور القدس المحتلة ويخاطب الكنيست.
كذلك لم يكن ميخائيل غورباتشوف أول شيوعي اشتراكي
يحاول الغرب اجتذابه لصفه وتوجيه سياساته بما يخدم مصالح الغرب. فحين توفي
"ماو دزي دونغ" مؤسس
الصين الشعبية عام 1976؛ آلت زعامة الحزب الشيوعي
أخيرا إلى "دينغ شياو بينغ"، الزعيم قصير القامة الذي ذاق مرارات الثورة
الثقافية وفتح الاقتصاد الصيني على عوالم السوق.
وجد الغرب في زمن "دينغ" فرصة لعله يستطيع
أن يخرج الصين من عباءة الشيوعية، فقابل انفتاح دينغ الاقتصادي بانفتاح أوسع في
العلاقات مما كانت عليه بعد زيارة "ريتشارد نيكسون" لبيجين عام 1972.
قام دينغ بزيارة دولة للولايات المتحدة أواخر كانون الثاني/ يناير عام 1972
استغرقت 11 يوما، وزار خلالها العديد من الولايات وسط احتفاء إعلامي ورسمي كبير في
الغرب كله، حتى إنهم أخذوه لمشاهدة إحدى مسابقات الروديو (ركوب الثيران).
نحن في الوطن العربي فلم نستطع حتى الآن، ورغم وحدة ثقافتنا الإسلامية وقوتها الجامعة بين أقوامها، أن نفيق من أوهامنا فنقول لا للغرب، وما زلنا نتهاوى في مستنقع كامب ديفيد وتبعاته
بعد 17 عاما وقعت اعتصامات ساحة "تيان آن
مين" (بوابة السماء) وهلل الغرب لها، لكن الاحتفاء السابق بدينغ لم يكن له
أثر هذه المرة، فقمع تلك الاعتصامات وخيب آمال الغرب في تحويل مسيرة الصين نحو ما
تريد عواصمه.
مع الصين ودينغ غلبت الثقافة الكونفوشية العميقة وسطوة
الحزب بريق الغرب، خلافا لإمبراطورية غورباتشوف التي لم تستطع أن تنسج، بحكم
الاستحالة، بين شعوبها متعددة الأعراق ثقافة عميقة، فانخدعت موسكو ببريق الآمال
الواهمة ولم تستبن الرشد إلا ضحى الحرب الدائرة رحاها
في أوكرانيا اليوم.
أما نحن في الوطن العربي فلم نستطع حتى الآن، ورغم
وحدة ثقافتنا الإسلامية وقوتها الجامعة بين أقوامها، أن نفيق من أوهامنا فنقول لا
للغرب، وما زلنا نتهاوى في مستنقع كامب ديفيد وتبعاته ونهرول للتطبيع لعل الغرب
يحتفي بالمهرول ذات يوم، وأنَّى له ذلك!