هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ أيام أقدم وزير الداخلية التونسي توفيق شرف الدين على خطوة مفاجئة تتمثل في إيقاف العمل بآلية الاقتطاع من أجور الأمنيين لفائدة النقابات الأمنية "لانعدام أي سند قانوني لهذا الإجراء". وكان القرار محل سخط كبير واحتجاجات من قبل النقابيين الأمنيين. ولكن كان محل ترحاب لدى غالبية الناشطين السياسيين بما فيهم عديد المعارضين لنظام سعيد.
مناورة تكتيكية لفرض مشروع الرئيس
ليس هناك أدنى شك أن هذه الخطوة القوية والمحفوفة بالمخاطر لوزير الداخلية في مواجهة عشرات النقابات الأمنية، التي تضم ما يقارب 100 ألف عون من قوات الأمن الداخلي، ليست سوى مناورة تكتيكية تهدف إلى الضغط على عموم النقابيين الأمنيين للقبول بمشروع الرئيس في إنشاء هيكل نقابي موحد ينضوي تحت رايته كل أعوان قوات الأمن الداخلي بمختلف أسلاكهم.
للتذكير فإن مشروع الرئيس سعيد يتمثل في الدعوة إلى "توحيد نقابات الأمن الداخلي في هيكل واحد يقوم على أساس الانتخاب ويقتصر على الجوانب الاجتماعية دون سواها"، تحت اسم: "الاتحاد العام التونسي لقوات الأمن الداخلي".
واضح أن الوزير شرف الدين بدأ في العمل على إنجاز مشروع الرئيس عبر استعمال ورقة الاقتطاع الآلي من الأجور في مرحلة أولى، لضرب قدرات النقابات الامنية المالية، ودفعها للاحتجاج وردة الفعل، بشكل يبرر له المرور إلى ورقة ثانية أكثر إيلاما وضغطا وهي خطوة الإجراءات التأديبية تجاه بعض النقابيين، وصولا إلى خطوة القرارات الإدارية بحل بعض النقابات. وهو مسار متدحرج محفوف بمخاطر عدة في ظل وضع سياسي واقتصادي واجتماعي ودبلوماسي هش جدا. وهو ما يدفع للتساؤل عن الدافع الحقيقي وراء هذا المشروع الدنكشوطي الذي يستحق كل هذه المخاطرة.
ما هي دوافع سعيد لفرض توحيد النقابات الأمنية؟
الرئيس سعيد صرح في 20 نيسان (إبريل) الماضي أن الهدف من أحداث النقابة الموحدة هو القضاء على "التشرذم النقابي".
التشرذم النقابي الأمني والفوضى الكبرى حقيقة لا جدال فيها. حيث توجد بالبلاد ما لا يقل عن 50 نقابة أمنية تأسست كلها بعد الثورة في ظل مناخات من التسيب وضعف الدولة. أكبرها يضم ما يفوق 60 ألف منخرط وأصغرها يضم بعض الأنفار. بعضها بهياكل منتخبة فيها حدود من التداول القيادي، وأغلبها انتخاباتها صورية ولا تداول فيها. قلة منها فيها بعض الشفافية والرقابة بخصوص التصرف المالي والكثير منها تتصرف في الموارد دون رقيب وتنظم الانشطة المربحة وتتقاسم الارباح. بعضها لازم المهنية والحياد ورعاية حقوق الزملاء والعديد منها دخل في لعبة التموقع والتسيس والولاءات والتضامن القطاعي والبلطجة أحيانا. وهذه الفوضى ناتجة أساسا عن غياب اطار قانوني وترتيبي ينظم العمل النقابي الامني، ويحدد ضوابطه وشروطه، ويضبط مجالات نشاطه وكيفية تمويله واليات التداول القيادي والرقابة على التصرف والعقوبات في صورة المخالفات.
ولكن، ما دخل رئيس الجمهورية في هذا التشرذم وهذه الفوضى؟ ومتى كان الحل للفوضى تجميع كل النقابات المتشرذمة والفوضوية تحت سقف واحد؟ ولماذا يبدو الرئيس مستعجلا في هذا المشروع؟
لماذا لم يتجه الرئيس، صاحب السلطات المطلقة، إلى إصدار مرسوم لتنظيم العمل النقابي الأمني ويفرض تطبيقه الصارم، بشكل يمكن في ظرف سنوات معدودة من تقليص عدد النقابات بشكل كبير وتطهير المشهد النقابي الامني من الظواهر الطفيلية والمرتزقين والمتسيسين والبلطجية.
وما دام دواء فوضى التعددية عند الرئيس هو إلغاء التعددية وفرض الاتحاد الواحد، فهل سننتظر منه الدعوة لإلغاء التعددية الحزبية الفوضوية والاستعاضة عنها بحزب واحد؟
مخاطر حقيقية لمشروع غامض
العمل على إلغاء التعددية النقابية في الأسلاك الأمنية وتأسيس نقابة جامعة لكل الأمنيين يعني الإقدام قصدا على تأسيس هيكل نقابي عملاق يضم كل أعوان وإطارات القوات الأمنية الحاملة للسلاح الذين يقارب عددهم 100 ألف عون حسب بعض التقديرات. هيكل نقابي يتصرف في ميزانية خيالية من موارد الاقتطاعات قدرها وزير الداخلية في تصريحه قبل أيام بما لا يقل عن 40 مليون دينار سنويا قابلة للتضاعف بموارد أخرى.
هذا السيناريو خطير ويحمل في طياته تهديدات كبرى للاستقرار في البلاد. لأن مثل هذه النقابة الأخطبوطية ممكن أن تتحول إلى ذراع خطير للسلطة التنفيذية مستقبلا تمارس من خلالها الهيمنة على المجتمع. ولا شيء يضمن ألا تنحرف لتصبح رديفا مسلحا لمشروع سياسي شعبوي أو أيديولوجي يحكم البلاد بالتسلط، بالتنسيق مع حزب حاكم أو مع حشد شعبي عنيف. كما أنه لا شيء يضمن ألا تدخل يوما في تصادم مع السلطة التنفيذية وما يمكن أن تصل إليه الأمور من عصيان للأوامر وتهديد للأمن القومي.
من المسؤولية التأكيد على أن تجربة النقابات الأمنية تحتاج إلى تقييم جدي ومراجعات قاسية، ولا يمكن أن تتواصل بالشكل الراهن، لأن أغلب النقابات الأمنية انحرفت طوال العشرية الماضية عن مهمتها الأساسية بالدفاع عن منظوريها مهنيا واجتماعيا، لتنخرط في السياسة وتتحالف مع أحزاب ومع رجال أعمال فاسدين وتصبح ملجأ لحماية المتورطين وتتدخل في تصرف الوزارة وفي السياسة الامنية للحكومة، وتحاول فرض ارادتها على القيادة.
لتقريب الصورة، هذه المنظمة يمكن أن تكون بمثابة "اتحاد عام للشغل حامل للسلاح". بل لا شك أن نفوذ النقابة الأمنية الموحدة سيتجاوز سريعا نفوذ اتحاد الشغل. بالنظر لانضباط منظوري النقابة الأمنية وترابطهم وولائهم الطبيعي لقياداتهم وقدرتهم التفاوضية باعتبار دورهم في حفظ الأمن وحملهم السلاح.
دعوة الرئيس سعيد أن يقوم الهيكل الموحد "على أساس الانتخاب ويقتصر على الجوانب الاجتماعية دون سواها"، لا يحمل أي ضمانات للنأي بذلك الهيكل عن التجاذبات السياسية وحمايته من الانحرافات والإغراءات. ولا أدل على ذلك من الإتحاد العام التونسي للشغل الذي يُفترض أنه قائم أيضا على الانتخاب ومقتصر على الجوانب الاجتماعية دون سواها، ولكن في الممارسة تتلاعب قيادته بالانتخابات كما تشاء وتشتهي دون رقيب. ولم تعد الجوانب الاجتماعية سوى الجزء الصغير الظاهر من جبل الجليد الضخم لنفوذه السياسي والاقتصادي والمؤسساتي في البلاد.
العمل النقابي الأمني يحتاج إلى التنظيم لا إلى التوحيد
من الواقعية الانطلاق من مسلمة أن العمل النقابي الأمني أصبح أمرًا واقعا وحقا مكتسبا سيكون من الصعب على أي سلطة قادمة مهما كانت شرعيتها سحبه.
ولكن من المسؤولية التأكيد على أن تجربة النقابات الأمنية تحتاج إلى تقييم جدي ومراجعات قاسية، ولا يمكن أن تتواصل بالشكل الراهن، لأن أغلب النقابات الأمنية انحرفت طوال العشرية الماضية عن مهمتها الأساسية بالدفاع عن منظوريها مهنيا واجتماعيا، لتنخرط في السياسة وتتحالف مع أحزاب ومع رجال أعمال فاسدين وتصبح ملجأ لحماية المتورطين وتتدخل في تصرف الوزارة وفي السياسة الامنية للحكومة، وتحاول فرض ارادتها على القيادة.
هناك حاجة كبرى الى تنظيم عمل النقابات الأمنية عبر تشريعات صارمة تضع الحدود والشروط والعقوبات، وتمكن من تحديد عدد النقابات وربطها بمجالات وطنية وقطاعية، وتعزيز شرعيتها وحيادها، وفرض التزامات الرقابة والشفافية والتداول القيادي عليها.
تطوير المنظومة القانونية والترتيبية للنقابات الامنية ووضع آليات صارمة للرقابة والتعديل سيدفع نحو مزيد تنضيج وترشيد العمل النقابي الامني، وهو ما سيمكن من تخليصه سريعا من الشوائب.
سيدفع ذلك إلى تنافس بين النقابات في تطبيق القانون والالتزام بمبادئ الشفافية والحياد السياسي والانضباط بالاضافة الى التنافس في جودة الخدمات الاجتماعية المقدمة لاعوان الامن. التنافس في اطار التعددية سيدفع بعض النقابات للاختفاء تدريجيا وأخرى للتطور السريع والبقاء سيكون للافضل.
التعددية النقابية في اطار قواعد قانونية صارمة تمنع التغول وتحقق التوازن وتفشل أي مساعي لاستعمال النقابيين من طرف السلطة في مخططات سياسية غير سوية.
وبالعودة مجددا لمثال الاتحاد العام التونسي للشغل، لو توفرت تعددية نقابية حقيقية مؤطرة قانونيا، مع مساواة تامة في حقوق الاقتطاع والتمثيل والتفاوض وواجبات الشفافية والتداول الديموقراطي، لما حصل تغول الاتحاد على الدولة وهيمنته على المشهد وانحرافه عن المبادئ النقابية وانغماسه في الفساد والمحسوبية.
خلاصة القول أن محاربة تجاوزات النقابات الأمنية لا يجب أن تكون طريقا لتدجين الأمن وتحويله للعصا الغليظة للسلطة من جديد. والحفاظ على التعددية النقابية الأمنية مع تنظيمها أفضل بكثير للبلاد من دمج النقابات ضمن هيكل موحد عملاق.