هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
انهارت الهدنة الهشة في إثيوبيا بين جبهة تحرير تيغراي والحكومة المركزية برئاسة آبي أحمد ولم تصمد أكثر من 6 أشهر كان خلالها طرفا النزاع يستعدان للحرب بترتيب أوضاعهما الداخلية وتحشيد قواتهما والتموقع انتظارا لساعة الصفر.
فمن جهتها حشدت الحكومة قواتها العسكرية على حدود إقليم تيغراي وفي الأقاليم المجاورة له، فيما توجهت جبهة تحرير تيغراي لفرض التجنيد الإجباري على سكان الإقليم لترفع من عدد قواتها، وتوظيف قدراتها في التسلح والتدريب. ورغم تساؤل المتابعين للوضع الإثيوبي عن الجهة التي كانت وراء تجدد القتال، فإن طرفي الصراع مستمران في اتهام بعضهما البعض بخرق الهدنة، غير أن المكاسب الأولية للقتال التي كانت لصالح جبهة تحرير تيغراي من خلال اكتساحها لمساحات واسعة في إقليم أمهرة المجاور والسيطرة على 8 مدن من الإقليم، وتكبيد الجيش الإثيوبي خسائر كبيرة بحسب تصريحات المسؤولين في الجبهة، بينما تطالب الحكومة المركزية المجتمع الدولي بالتدخل لوقف إطلاق النار، كل ذلك يرجح كفة تعمد الجبهة استئناف القتال استباقا كما يبدو لاستكمال الجيش تحركاته في اتجاه تحشيد قواته وتمركزها في جبهات القتال، واستجابة لضغط داخلي بدأ يتصاعد وما عاد يتحمل مواجهة تبعات الحصار المفروض على الإقليم الذي أصبح عاجزا عن توفير الغذاء والدواء للسكان.
فما هي خلفيات هذا النزاع المسلح المتجدد بين جبهة تحرير تيغراي والحكومة الإثيوبية، وما هي سيناريوهات تطور الأوضاع في إثيوبيا والقرن الإفريقي في ضوء تصاعد القتال في الشمال الإثيوبي على الحدود الإريترية والسودانية؟
مشروع جبهة تحرير تيغراي
يقع إقليم تيغراي في شمال إثيوبيا وتحده من الشمال إريتريا ومن الغرب السودان ومن الشرق إقليم عفر ومن الجنوب إقليم أمهرة. يبلغ عدد سكان الإقليم 6% من مجموع سكان البلاد الذي يتجاوز 100 مليون نسمة يتوزعون على 80 مجموعة عرقية، ويخضع الإقليم في حكمه محليا لجبهة تحرير تيغراي وهي جماعة مسلحة خاضت مواجهات عديدة ضد الحكومة المركزية دفاعا عن مصالح الأقلية العرقية في إقليم تيغراي.
تأسست جبهة تحرير تيغراي سنة 1975 في سياق المواجهة مع الحكومة المركزية الإثيوبية والتي استمرت طوال حكم الدكتاتور منغستو هايلي ماريام الممتد من سنة 1977 إلى سنة 1991 تاريخ استلام جبهة تحرير تيغراي السلطة ضمن تحالف واسع ضم 4 مجموعات إثنية مسلحة تحت لافتة الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، واستمرت جبهة تحرير تيغراي في قيادة التحالف الحاكم رغم ضعف تمثيلها الشعبي الذي لا يتجاوز الـ 6% من مجموع سكان البلاد الذين يبلغ عددهم 105 مليون نسمة يتوزعون على حوالي 80 مجموعة إثنية، ولكن تاريخ جبهة تيغراي الطويل في مواجهة السلطة المركزية وقوة تنظيمها المسلح سمح لها بتصدر المشهد السياسي وقيادة السلطة.
يظل الحل السياسي قائما عبر التفاوض الذي يرعاه المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية والإتحاد الإفريقي، ولكن انشغال الطرفين الرئيسيين أوروبا والولايات المتحدة بالحرب الروسية الأوكرانية يلقى بظلاله على جهود الوساطة الدولية لحل النزاع في إثيوبيا،
بعد عقدين من الحكم دب الخلاف داخل التحالف الحاكم بسبب هيمنة جبهة تحرير تيغراي على قرارات الحكومة المركزية، والاستئثار بامتيازات السلطة، وعدم تقدير التوازنات داخل التحالف الحاكم بمنح المستثمرين أراضي في إقليم أوروميا، فبدأت الاحتجاجات الشعبية التي أجبرت رئيس الحكومة هايلي مريام ديسالين على الاستقالة سنة 2018 وتم انتخاب آبي أحمد علي الجنرال في المخابرات العسكرية رئيسا للحكومة وبدعم قوي من إقليم أوروميا الذي يبلغ عدد سكانه 40% من مجموع السكان، ومع هذا التحول في هرم السلطة فقدت جبهة تحرير تيغراي موقع القيادة وفتح المجال لإثنية أورومو وللجيش لقيادة البلاد عبر الجنرال آبي أحمد الذي بدأ في اتباع سياسة تصعيدية ضد جبهة تحرير تيغراي تهدف لإقصائها من موقع القرار مركزيا ومحاصرتها في دائرة الحكم المحلي في إقليم تيغراي شمالي البلاد.
آبي أحمد وبداية الصراع مع تيغراي
قام رئيس الوزراء الجديد آبي أحمد بإعادة تشكيل التحالف الحاكم بإقصاء جبهة تحرير تيغراي وتأسيس حزب جديد أطلق عليه اسم "الإزدهار"، كما قام بتغيير رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات وهي المناصب التي كانت من نصيب جبهة تيغراي منذ سنة 1991 وهو ما اعتبرته الجبهة استهدافا لها، ثم بادر لتغيير قائد القاعدة العسكرية الشمالية في إقليم تيغراي التي تعد أحد أكبر وأهم القواعد العسكرية في البلاد وقد اعترضت جبهة تيغراي على هذا القرار ومنعت الجنرال المعين جمال محمد من تسلم مهامه وأجبرته على العودة إلى العاصمة أديس أبابا في نفس الطائرة التي قدم فيها. وهو ما زاد في توتر العلاقة مع رئيس الحكومة ليمتد التوتر إلى مؤسسة الجيش التي أصدرت بينا تستنكر فيه التعدي على القرارات العسكرية واتهام المؤسسة العسكرية بخدمة الأجندة الحزبية والسياسية لشخص رئيس الحكومة.
وبسبب تفشي فيروس كورونا سنة 2020 أوعز رئيس الحكومة آبي أحمد للبرلمان بتأجيل الانتخابات العامة في البلاد في مناسبتين وهو ما اعتبرته جبهة تحرير تيغراي مخالفا للدستور وأعلنت رئيسة البرلمان ثريا إبراهيم المنتمية للجبهة استقالتها من منصبها احتجاجا على هذه الخطوة التي اعتبرتها غير قانونية وغير دستورية و"تؤسس لدكتاتورية جديدة بصدد التكوين" حسب قولها. ولمواجهة هذا القرار الغير دستوري في نظرها أعلنت جبهة تحرير تيغراي في مؤتمرها المنعقد في يونيو 2020 أنها ستجري الانتخابات في الإقليم في موعدها، وهو ما تم في شهر سبتمبر من نفس العام، غير أن الحكومة المركزية رفضت الاعتراف بنتائج الانتخابات، مما دفع جبهة تحرير تيغراي إلى إعلان عدم شرعية الحكومة المركزية، فردت حكومة آباي أحمد بإيقاف الخدمات المصرفية والتحويلات المالية لحكومة الإقليم وعرقلة جهود الإغاثة والخدمات الأساسية مثل الغذاء والدواء والكهرباء وهو ما اعتبرته جبهة تحرير تيغراي إعلانا للحرب.
يبدو واضحا من خلال ما تقدم أن الخلفية السياسية للصراع القائم في إثيوبيا هي بالأساس نزاع على السلطة التي كانت طوال العقود الأخيرة تحت هيمنة الأقلية المسلحة الممثلة في جبهة تحرير تيغراي، وأصبحت بعد عام 2018 تحت سيطرة الجيش ورئيس الحكومة آبي أحمد المدعوم من الأكثرية الممثلة في إقليم أمورو، والذي عمل على إعادة ترتيب المشهد السياسي في البلاد وتفكيك التحالفات القائمة عبر إقصاء القوة التي كانت نافذة في الحكم ممثلة في جبهة تحرير تيغراي، ومحاصرتها داخل إقليمها دون أن تتطلع للمشاركة في الحكم مركزيا.
يبدو جليا أن ما يزعج الولايات المتحدة في النزاع الإثيوبي هو التدخل الإريتري لذلك كان موقف واشنطن واضحا من خلال الدعوة التي أطلقتها وزارة الخارجية بضرورة انسحاب القوات الإريترية من الأراضي الإثيوبية وتحديدا من إقليم تيغراي،
بالنسبة لسيناريوهات مستقبل الصراع فمن غير المرجح إمكانية حسم النزاع عسكريا رغم القوة التي يمتلكها رئيس الحكومة أبي أحمد المدعوم من الجيش والأورومويين الذين ينتسب إليهم في مواجهة جبهة تحرير تيغراي، لأن هذه الأخيرة تمتلك خبرة طويلة في التنظيم وإدارة المعارك والمواجهات المسلحة مع القوات الحكومية، مما ينذر بطول أمد القتال وربما توسع دائرته ليطال أقاليم أخرى في البلاد، وقد ينتشر الحريق ليمتد إلى بعض دول الجوار في منطقة القرن الإفريقي بالنظر إلى الحدود المتداخلة، والأقليات الإثنية المنتشرة في جميع دول المنطقة، خاصة في السودان الذي له ولايتين تحدان إقليم تيغراي هما كسلا والقضارف اللتان تشهدان اضطرابات بسبب النزاعات القبلية.
تمكن رئيس الحكومة آبي أحمد من تسوية الخلاف الحدودي مع إريتريا تنفيذا لقرارات محكمة العدل الدولية، وتم توقيع اتفاقية الصلح بين البلدين ولكن جبهة تحرير تيغراي ترى أن اتفاق الصلح تضمن ترتيبات عسكرية تستهدف وجودها، وهو ما أكدته الخارجية الأميركية بدعوتها القوات الإريترية للانسحاب من الأراضي الإثيوبية ووقف مشاركتها في القتال ضد جبهة تحرير تيغراي. ويظل السودان الذي احتضن تأسيس تحالف شعوب إثيوبيا سنة 1988 بقيادة جبهة تحرير تيغراي أمل الجبهة في الحصول على الدعم العسكري، خاصة في ضوء الخلاف بين السودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة، على الرغم من الوضع السياسي والاقتصادي الذي يمر به السودان، وهو ما يشجع حكومة أديس أبابا على استغلال الوضع الإقليمي لصالحها بعد "تحييد" الجارة إريتريا عبر توقيع اتفاقية الصلح معها، وانشغال السودان بأزماته الداخلية، لحسم الصراع مع جبهة تحرير تيغراي عسكريا.
هل تعلن جبهة تحرير تيغراي الانفصال؟
في هذا السياق الحربي مع الحكومة الإثيوبية، وتبادل الاتهام بانعدام الشرعية وخرق الدستور، من المرجح أن تبادر جبهة تحرير تيغراي إلى إعلان الانفصال، وهو ما يجد مشروعيته في المادة 39 من الدستور الإثيوبي الذي ينص على حق الأقاليم في تقرير مصيرها، وهو ما يهدد وحدة ثاني أكبر دولة إفريقية من حيث عدد السكان، ولا شك أن هذا التوجه سوف يغري بقية الأقاليم بالتفكير في الانفصال متى ما كان ذلك في مصلحتها الاقتصادية واحتكار الثروة، وهذا التوجه الانفصالي على أساس عرقي تتجاوز آثاره حدود إثيوبيا ليطال دول القرن الإفريقي متعددة الأعراق والطوائف.
ويظل الحل السياسي قائما عبر التفاوض الذي يرعاه المجتمع الدولي خاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية والإتحاد الإفريقي، ولكن انشغال الطرفين الرئيسيين أوروبا والولايات المتحدة بالحرب الروسية الأوكرانية يلقى بظلاله على جهود الوساطة الدولية لحل النزاع في إثيوبيا، وهو ما يفسر ضعف التمثيل الدولي والإفريقي في الجهود الرامية للبحث عن حل سياسي للأزمة الاثيوبية إلى حد الآن، حيث أسند الإشراف على محادثات السلام بين الجانبين إلى مبعوث الاتحاد الإفريقي للقرن الإفريقي الرئيس النيجيري السابق أولوسيجون أوباسانجو، كما بحث رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي مع المنوبة الأميركية لدى الاتحاد الإفريقي جيسي ليبين في أديس أبابا سبل خفض التصعيد في إقليم تيغراي، بينما تاريخيا كان لبريطانيا والولايات المتحدة عندما توفرت لديهما الإرادة السياسية، دور حاسم في توحيد المعارضة سنة 1990 في مؤتمر لندن استعدادا لاستلام السلطة والإطاحة بالدكتاتور منغستو.
ويبدو جليا أن ما يزعج الولايات المتحدة في النزاع الإثيوبي هو التدخل الإريتري لذلك كان موقف واشنطن واضحا من خلال الدعوة التي أطلقتها وزارة الخارجية بضرورة انسحاب القوات الإريترية من الأراضي الإثيوبية وتحديدا من إقليم تيغراي، فالولايات المتحدة تتوجس من التحركات والتحالفات الدولية التي تنسجها إريتريا والتي بدت جلية في الموقف من الحرب في أوكرانيا حيث عارضت مشرع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب روسيا بوقف الحرب وسحب قواتها من أوكرانيا، كما أعلن السفير الإيريتري في موسكو ترحيب بلاده بالمركز اللوجيستي الروسي على أراضيها، فيما زار وفد رفيع المستوى روسيا لدعم الموقف الروسي في أوكرانيا، كما نددت الخارجية الإريترية بزيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان دعما للموقف الصيني.
كل ذلك يدفع الولايات المتحدة لاستهداف نظام أسياس أفورقي عبر جبهة تحرير تيغراي التي ستدفعها واشنطن للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حكومة أبي أحمد، فانتظار إعداد البديل لأسياس أفورقي ـ الذي لا يجب أن يترك رحيله فراغا في منطقة حساسة هي محط أنظار روسيا والصين ـ واستقرار المشهد في الحرب الروسية الأوكرانية التي تستنزف فيها روسيا في الوقت الذي تهدد فيه هذه الأخيرة أوروبا بشتاء قارس و"بحرب البرد". لذلك يسود الاعتقاد أن مستوى الجهود الأمريكية والأوروبية لحل الأزمة الإثيوبية وفرض السلام رهين تطورات الأزمة الأوكرانية التي تستأثر بكل الجهود لمواجهة تداعياتها على مستوى الطاقة والغذاء والسلم والأمن الدوليين.
* دبلوماسي سابق وباحث في العلاقات الدولية