كتبت
(قبل شهور) سلسلة من خمس مقالات، على هذه المنصة، تحت عنوان "
ما هي الثورة؟ تحريرا للمصطلح.. كي لا نظل نجري في المكان".. حررتُ فيها مصطلح
الثورة، وميَّزتُ بين الثورة
"المحمودة" و"الثورة المذمومة"، وفسَّرتُ سبب افتناننا بكلمة
"الثورة"، فقلت:
"لعل
نشأة الفهم المشوَّه لدينا لكلمة الثورة تعود إلى ما أُشرِبناه في قلوبنا، منذ
الصغر، عن الثورة ومعناها، إذ دأبت كُتبنا المدرسية على وصف كل حراك شعبي أو عسكري
بالثورة، وصوَّرته لنا (دائما) عملا وطنيا، بطوليا، جليلا! في حين أن الثورة (في
حقيقتها) مجرد "فعل" يستحق الحمد أو الذَّم؛ لدوافعه ومآلاته، والمآلات
أهم بكثير من الدوافع، ولا يصح أن نعتبره "محمودا" لكونه
"ثورة" وحسب.. فإذا كانت دوافع الثورة محمودة، ومآلاتها محمودة، فهذه
"الثورة التي نريد".. وإذا كانت دوافعها محمودة، ومآلاتها مذمومة، فهي (في
نظرنا) ثورة مذمومة، إذ أن العبرة (هنا) بالمآلات لا بالدوافع.. وإذا كانت دوافعها
طائفية، أو عرقية، أو فئوية، أو قومية، فهي مذمومة ابتداءً، ولا يمكن أن تكون
مآلاتها محمودة؛ لأنها قامت منذ البداية على التمييز بين أبناء الوطن".
ولا
يزال الحديث مستمرا عن الثورة، وسيظل مستمرا، حتى لو قامت ثورة؛ لأننا لا نريد أن
نفهم ماهية الثورة، ولا كيف تُصنع الثورة!
بحسب
التاريخ، فإن الثورات الأربع الكبرى المعروفة (الإنجليزية، الفرنسية، الروسية،
الإيرانية) توفرت لها قيادة "متجانسة فكريا" يحكمها "إطار
فكري" متوافق عليه، ولها أهداف واضحة، استطاعت (القيادة) حشد قطاع عريض من
الجماهير لتحقيقها.. غير أن نجاح هذه الثورات لا علاقة له بكونها
"محمودة" أو "مذمومة".. فنجاح الثورة يعني إزالة النظام الذي
ثارت عليه، وإنشاء نظام جديد، وفق الإطار الفكري المتوافق عليه؛ لتحقيق الأهداف
التي قامت لأجلها، بغض النظر عن صلاح أو فساد النظام الجديد.. علما بأن الصلاح
والفساد مسألة نسبية، ستبقى محل خلاف دائما وأبدا.. إذ لا يزال بيننا مَن يتبنى
الفكر الثوري الشيوعي، رغم سقوط النموذج الشيوعي، بعد سبعين سنة (فقط) من إنشائه،
على أنقاض عرش القياصرة الروس، معللين ذلك بانحراف الثورة الشيوعية (البلشفية) عن
"الفكر الماركسي" الذي هو فكر منحرف أصلا، يصادم المنطق والفطرة معا!
نجاح الثورة يعني إزالة النظام الذي ثارت عليه، وإنشاء نظام جديد، وفق الإطار الفكري المتوافق عليه؛ لتحقيق الأهداف التي قامت لأجلها، بغض النظر عن صلاح أو فساد النظام الجديد.. علما بأن الصلاح والفساد مسألة نسبية، ستبقى محل خلاف دائما وأبدا
ثورات
ناجحة لكنها مذمومة!
لقد تمخضت
الثورتان الإنجليزية والفرنسية عن نظامين ديمقراطيين، الأول ملكي دستوري، والثاني
جمهوري (بعد نحو ستين سنة من التخبط والانتقال من ثوري متعدد الرؤوس، إلى قنصلي،
إلى إمبراطوري، إلى ملكي، ثم جمهوري)، غير أن هذين النظامين الديمقراطيين (داخليا)
انتهجا نهجا عدوانيا توسعيا دمويا (خارجيا) باحتلال شعوب أخرى ساماها سوء العذاب،
فقتلا الملايين من هذه الشعوب، واستوليا على ثرواتها عنوة، وبلا مقابل، ولا يزالان
يهيمنان على تلك الشعوب، من خلال حكام موالين لهما لا لشعوبهم وأوطانهم!
إن المبادئ
لا تتجزأ، فما أبذل الدماء من أجله، باعتباره حقا طبيعيا، لا يجوز لي أن أضطهد الآخرين
وأمنعهم من الحصول عليه، لكن هذين النظامين (الديمقراطيين) كانا من الأنانية
والعدوانية والدموية والبشاعة بمكان؛ جعلتهما يَحولان بين الشعوب التي احتلاها وبين بناء نظمها "المستقلة" التي
تسهر على أمنها، وترعى مصالحها، وتوفر لها حياة كريمة..
أما
الثورتان الروسية والإيرانية، فقد تمخضتا عن نظامين لا يمكن وصفهما بـ
"الديمقراطي" بأي حال.. فالأول كان نظاما ديكتاتوريا استبداديا دمويا
بامتياز، استعبد الشعب الروسي كله، وجعل منه تروسا في آلة كبيرة تعمل لصالح الحزب
الشيوعي عموما، وقياداته العليا خصوصا.. تلك القيادات التي وأدت شعار الثورة الذي
التفت حوله الجماهير، ألا وهو "حكم البروليتاريا" أو "ديكتاتورية
البروليتاريا"، كما أوهموا "البروليتاريا" لتحفيزها على الثورة. ضد
حكم القياصرة. وظلت "البروليتاريا" تكدح في المصانع والمزارع سبعين سنة،
وتعاني شظف العيش، بينما استحوذت النخبة الحاكمة على كل السلطات، وتمتعت بكل
الامتيازات!
أما
النظام الثاني (الإيراني)، فهو نظام "طائفي" اضطهد المسلمين السنة
والعرقيات غير الفارسية، بل واضطهد الشيعة الذين لم يقبلوا بفكرة "ولاية
الفقيه" التي ابتدعها الخميني، وشكلت الإطار الفكري والمرجعية الفقهية للنظام
الحاكم في إيران.. ويشترك النظامان (الشيوعي والشيعي) في فكرة "تصدير
الثورة" وخلق جيوب لهما خارج الحدود، كانت (ولا تزال) تثير القلاقل والاضطرابات
والتوترات والحروب، في البلاد التي تجذرت وتمددت فيها..
تثور الشعوب إذا فسدت وتهرأت وتداعت أنظمتها الحاكمة، وباتت عاجزة عن القيام بواجباتها "الطبيعية"، ولا أقول "الدستورية"، فالسلطة في المجتمعات "البدائية" تعرف (بالفطرة) أن واجباتها هي: الحفاظ على حياة الأفراد، وتوفير لقمة العيش، والمسكن الملائم، والأمن
لماذا
تثور الشعوب؟
تثور
الشعوب إذا فسدت وتهرأت وتداعت أنظمتها الحاكمة، وباتت عاجزة عن القيام بواجباتها "الطبيعية"،
ولا أقول "الدستورية"، فالسلطة في المجتمعات "البدائية" تعرف
(بالفطرة) أن واجباتها هي: الحفاظ على حياة الأفراد، وتوفير لقمة العيش، والمسكن
الملائم، والأمن.. وبدلا من أن ترحل هذه الأنظمة، مكتفية بما نهبته وسببته من
كوارث للبلاد والعباد، فإنها تعمد (دون تردد) إلى اضطهاد شعوبها والتنكيل بها،
وحرمانها من أبسط حقوقها، ظنا منها أن هذا هو السبيل الأمثل لبقائها ولو إكلينيكيا!
لم
نسمع بجرَّاح عمد إلى استئصال عضو من الجسم يعمل بكفاءة! فاتخاذ القرار باستئصال
عضو معطوب، وزرع عضو آخر سليم، لا يكون إلا عندما تفشل "الأدوية
المتاحة" في علاج العضو التالف، ويصبح عاجزا عن القيام بوظيفته التي خُلق
لها، فضلا عن الآلام المبرحة التي يسببها لصاحبه.. إذن، فالجراحة عمل اضطراري لا بد
منه؛ لبقاء الإنسان على قيد الحياة بـ "صحة جيدة".. وكذلك الثورة
بالنسبة للشعوب!
والأصل
أن ينجح الإجراء الجراحي، إذا كان الفريق الطبي يتمتع بالمؤهلات والكفاءة اللازمة
التي تجعله يحسن قراءة المعطيات (فحوصات، تحاليل، أشعة.. إلخ)، ويحسن التشخيص، وتقدير
الموقف، وتحديد الوقت المناسب للقيام به.. وقد يتسبب هذا الإجراء الجراحي في
مضاعفات تجعل حالة المريض أسوأ مما كانت عليه قبل إجرائه، إذا حدث تقصير من الفريق
الطبي في أي مرحلة من المراحل، قبل أو أثناء أو بعد إجراء العمل الجراحي! وكذلك
الثورة.. تنجح (بالضرورة) في إزالة النظام القديم، وقد تفشل في إقامة نظام جديد، وساعتئذ
تغرق البلاد في الفوضى.
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com