هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
وما مصلحتها في ذلك؟ قد يقول قائل. وهل أن التوصل إلى حل نهائي وتوافقي للمشكل الصحراوي سيفيدها في شيء؟ قد يضيف آخر. لقد خرجت إسبانيا وفي ظرف عام فقط من أزمة مع المغرب، لتدخل في أخرى مع الجزائر.
ولم
يكن ذلك بالنسبة لها مفاجئا أو غير متوقع. فهي كانت تعلم جيدا وقبل عدة شهور أن
الاعتراف الأمريكي في ديسمبر 2020 بمغربية الصحراء لن يمر بهدوء، بل سيخلط الكثير
من أوراقها وسيجعلها بحاجة لأن تعيد ترتيب سياستها الإقليمية وفقا لما تقتضيه
الظروف والمتغيرات التي حصلت في المنطقة، لكن هل إنها كانت مع ذلك تراهن على كسب
مزيد من الوقت؟ وهل إنها جعلت من إطالة أمد الأزمة الصحراوية واحدا من بين أهدافها
في الشمال الأفريقي؟ سيكون من الصعب جدا أن لا ينتبه الطرفان المعنيان بالنزاع إلى
ذلك.
لكن ما الذي فعلته حتى تعدل الكفة وترجع علاقاتها مع
الجزائريين إلى ما كانت عليه قبل مارس الماضي، من دون أن يثير تصرفها غضب المغاربة
واستنكارهم؟ المؤكد أنها لم تتحول بعد من مملكة عريقة وذات تقاليد دبلوماسية راسخة
إلى جمهورية من جمهوريات الموز، وبالتالي فإنها لم تستنسخ مثلا ما حصل مؤخرا في
إحدى مستعمراتها الأمريكية السابقة، من قبيل ما أقدمت عليه البيرو قبل أسابيع فقط،
حين أخذت وفي ظرف أقل من شهر واحد فقط قرارين مناقضين لبعضهما بعضا، قضى الأول
بسحب الاعتراف البيروفي بجبهة البوليساريو، فيما شدد الثاني على إعادته من جديد.
لكن كلمات بيدرو سانشيز أمام الجمعية العامة للأمم
المتحدة، التي قال فيها الخميس الماضي وهو يتحدث عن مشكلة الصحراء، «فيما يتعلق
بمنطقة مهمة جدا لإسبانيا، مثل الصحراء الغربية تدعم إسبانيا حلا مقبولا للطرفين،
في إطار ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن»، ألقت ظلالا كثيفة من الريبة حول
بقاء القرار الذي أخذته حكومته ربيع هذا العام بدعم مقترح الحكم الذاتي، الذي عرضه
المغرب في 2008 واعتباره «الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لحل النزاع»
الصحراوي، على حاله ودفعت البعض للتساؤل عما إذا كان رئيس الوزراء الإيبيري، بدأ
يأخذ مسافة ويحاول التنصل منه، ويتبنى موقفا آخر قد يقترب نسبيا هذه المرة من
الموقف الجزائري من تلك القضية.
إن السؤال الذي دار في أذهان هؤلاء هو، هل ناقض
سانشيز نفسه بنفسه حين تحدث الآن عن حل مقبول للطرفين، بعد أن كان يشيد قبل شهور
قليلة بفكرة الحكم الذاتي، ويدعمها كحل نهائي لمشكل الصحراء؟ حين سألت صحيفة
«لاراثون» الإسبانية الأحد الماضي وزير الخارجية الإيبيري عما اعتبرته موقفين
متناقضين من القضية الصحراوية، كان جواب خوزيه مانويل أرباريس هو، «الإعلان
الإسباني المغربي الصادر في 7 إبريل الماضي في جميع جوانبه هو الموقف الذي لدينا
مع المغرب وهو بالطبع ما زال ساريا، وما عبر عنه الرئيس بوضوح في الأمم المتحدة،
هو أن ذلك يتم بالسعي إلى حل سياسي مقبول للطرفين في إطار قرارات الأمم المتحدة
ومجلس الأمن التابع لها»، لكن ما الذي فهم من ذلك؟ هل عادت مدريد مجددا إلى
سياستها القديمة في اللعب على الحبلين الجزائري والمغربي ومحاولة إيهام كل واحد من
الطرفين بأنها تدعم موقفه من الصحراء على حساب الآخر؟ أم أن الصيغة الأخيرة التي
عرضها سانشيز لم تكن سوى نوع من رفع اللبس وسوء الفهم، لما سبق وأعلن عنه في إبريل
الماضي بخصوص تلك الأزمة؟
حتى الآن لم تعلق الرباط رسميا على ما
جاء في خطاب المسؤول الإيبيري في الأمم المتحدة، لكن في الجزائر ربما يبدو الأمر
مختلفا بعض الشيء، فقد لمح الرئيس عبد المجيد تبون، حين كان يخطب أمام الولاة
السبت الماضي إلى أن إسبانيا ربما بدأت «ترجع إلى القرار الأوروبي بخصوص القضية
الصحراوية»، ما اعتبر من جانب بعض الأوساط الإعلامية الجزائرية نوعا من الرضوخ
الإسباني، ووصف أيضا بأنه محاولة التودد للجزائر، خصوصا في ظل الأزمة الصعبة التي
يعرفها قطاع الطاقة في أوروبا، جراء الحرب الروسية في أوكرانيا، كما اعتبر كذلك
إشارة إلى أن الإسبان بصدد مراجعة موقفهم والعودة إلى حيادهم السابق في الملف
الصحراوي.
لكن الثابت من كل ذلك الآن هو أن الإيبيريين بعيدون جدا عن أن يشاطروا الرئيس الجزائري نظرته للنزاع على أنها مسألة مبدأ، أو أنها تنبع فقط من رفض للاستعمار ورغبة في محاربته مثلما قال في الخطاب نفسه. فتاريخهم وواقعيتهم أيضا يأبيان عليهم حصر المشكل الصحراوي ضمن الإطار الوحيد الذي يصر الجزائريون على وضعه فيه، أي كقضية تحرر وطني وتصفية استعمار لا غير.
إنهم يعرفون جيدا أنه تحول منذ
عدة عقود إلى نزاع ثنائي صعب وثقيل بين أكبر شريكين لهم في الشمال الأفريقي، وأن
مصالحهم تجعلهم ينظرون إليه ضمن رؤية استراتيجية وجيوسياسية واسعة لا تقتصر على
معالجة قنبلة الصحراء التي تركوها في المنطقة منتصف السبعينيات، بل يتعداه إلى
البحث عن أفضل السبل والوسائل لحماية تلك المصالح والحفاظ عليها. ولعل أكثر جملة
قد تلخص ولو بشكل موارب نسبيا ذلك البعد هي تلك التي قالتها وزيرة خارجيتهم
السابقة أرنشا غونزاليس لايا، قبل أقل من عامين من الآن حين ذكرت، أن موقف إسبانيا
من الصحراء « يظل دائما دون تغيير» لأن الأمر «يتعلق بسياسة دولة».
أي أن القرارات والمواقف الاستراتيجية
الكبرى في تلك القضية بالذات لا تحددها حكومة ما، أو حزب سياسي، حتى إن امتلك
أغلبية مريحة في البرلمان، بل يضعها ما يمكن أن يطلق عليه بالدولة العميقة في
إسبانيا، أي تلك النواة الداخلية الصلبة التي تتكون أساسا من الجيش والمخابرات،
وتضم أيضا كبار القادة والشخصيات ورجال المال والنفوذ وغيرهم. إن كل هؤلاء يعملون
في الواقع على أن يبقى المشكل الصحراوي من دون أي حل، لأنه في اليوم الذي يتوصل
فيه طرفا النزاع، أي المغرب والجزائر إلى الاتفاق على تسوية مقبولة بالنسبة لهما
فإن جزءا كبيرا من مصالح إسبانيا في المنطقة سيكون ومن دون شك مهددا بشكل كبير.
ولا يبدو أن المغاربة والجزائريين يجهلون ذلك. ولكن التنافس الحامي بينهم يجعلهم
يتطلعون ولأسباب تكتيكية وظرفية إلى موقف مدريد وينظرون له كمقياس حقيقي لمواقف
القارة العجوز من المشكل.
وفي المقابل فإن الإسبان يحسبون بدقة وقع كل خطوة
يقطعونها فهم حين يقتربون فقط نصف المسافة إلى المغرب لا يتورعون عن الاستنجاد
بأوروبا حتى تقف بجانبهم وتقنع الجزائر بأن لا تلحق الضرر بتجارتهم ومبادلاتهم
معها، كما أنهم حين يتفاوضون سرا مع الجزائريين حول تطبيع العلاقات معهم، يصرون
على التأكيد في تصريحاتهم على أن العلاقات مع المغرب تظل استراتيجية، لكن إن نجحوا
مرة فهل يمكنهم أن ينجحوا دائما في خداع جيرانهم؟ المغاربة والجزائريون مؤهلون
ليجيبوا عن ذلك.
(القدس
العربي)