مع رحيل العلَّامة الإمام يوسف القرضاوي تُطوى صفحةُ
أحد أكبر الفقهاء المعاصرين أثراً وتجربةً وإنتاجاً، فهو قد رحل عن عمُرِ بلغ زهاء قرنٍ هجريٍّ، قضى منها سبعين عاماً
في الدعوة والكتابة والتأليف، وترك تراثاً هائلاً من الكتب جاوز المائة والسبعين
كتاباً، عدا آلاف اللقاءات التلفزيونيَّة والخطب والمحاضرات.
أوَّل ما يشدُّنا في سيرة القرضاوي هو علوُّ همَّته
الذي نادراً ما ينافسه فيه أحدٌ في العصور المتأخرةِ، فهو رجلٌ قضى معظم وقته في
الكتابة والعملِ والدعوةِ، ويقول عنه المقرَّبون إنَّه يكتبُ ويكتبُ في كلِّ مكانٍ
وفي كلِّ فرصةٍ متاحةٍ، على متن الطائرة وفي استراحة الفندق، ولم تنل شيخوخته
المتقدِّمة من همَّته في الاستمرار فقد أصدر كتابه الأخير "فقه الصلاة"
وهو في السادسة والتسعين من عمره، قبل أسابيع قليلةٍ من موته.
يزيد شعور الخسارةِ في رحيل القرضاوي حين نرى تفشِّيَ
وباء الجهل في فضاء ثقافتنا العربيَّةِ، إذ نادراً ما نجد من يصبر على قراءة كتابٍ
واحدٍ، فضلاً عن تخصيص عمره في محراب التأمل والقراءة والبحث والكتابة وإنتاج
أفكارٍ تنفع الناس. هذا الواقع يذكرنا بالحديث المرويِّ عن الرسول محمدٍ صلى الله
عليه وسلم: "إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعاً ينتزعُهُ منَ النَّاسِ،
ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ، حتَّى إذا لم يترُك عالماً اتَّخذَ النَّاسُ
رؤوساً جُهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا".
الواقع يدفعنا إلى اعتبارِ كلِّ عالمٍ أو باحثٍ جادٍّ مكسباً للأمَّة وأنَّ موته ثلمةٌ لا يسدُّها شيء. ومهما كان الاتفاق أو الاختلاف في ميدان الفكرِ، فإنَّ توفُّر شرط الجديَّة في البحث والتعلُّم يصنع الأرضيَّةَ التي نحتاجها للبناء والمراكمةِ الفكريَّةِ بعد ذلك
"الجُهَّال" هو أدقُّ وصفٍ لكثيرٍ من
المشاهيرِ الذين يقودون الفضاءَ العامَّ في الوطنِ العربي في هذا الزمان، فهم لا
يحملون أيَّ رؤيةٍ جادَّةٍ أو تكوينٍ علميٍّ راسخٍ، ومع ذلك يلتفُّ الناس حولهم
ويتلقَّون عنهم الفراغ والتفاهةَ. هذا الواقع يدفعنا إلى اعتبارِ كلِّ عالمٍ أو
باحثٍ جادٍّ مكسباً للأمَّة وأنَّ موته ثلمةٌ لا يسدُّها شيء. ومهما كان الاتفاق
أو الاختلاف في ميدان الفكرِ، فإنَّ توفُّر شرط الجديَّة في البحث والتعلُّم يصنع
الأرضيَّةَ التي نحتاجها للبناء والمراكمةِ الفكريَّةِ بعد ذلك.
مثَّل القرضاوي بصدقٍ عنوانَ مرحلةٍ طويلةٍ من مراحل
تاريخِ الأمَّةِ الإسلاميَّة؛ اتسمت بالهزيمة والضعف والتيه، وتمثل
سيرة حياته
الشخصية تعبيراً عن هذه المرحلة، فقد ولد بعد وقتٍ قريبٍ من سقوط الخلافة
الإسلامية التي كانت تمثل المظلة السياسية الجامعة للأمة، ونشأ يتيماً في الوقت
الذي كان يخيم فيه على المسلمين شعور اليتم، وتلقَّى تعليمه في كُتَّاب القرية وأتم
حفظ القرآن وهو في التاسعة من عمره. ومثلَ أي ناشئ يتطلَّع إلى استعادة أمجاد
أمَّته، توجَّه إلى جماعةِ الإخوان المسلمين وانتظم من خلالهم في جهود الدعوة
والتربية، وفي ذلك الوقت احتلت فلسطين فكان له سهمٌ في جمع المال وإرسال السلاح
إلى غزة.
على درب الدعاة دخل السجن وضاقت به بلاده فخرج منها
واستقر في المنفى، ثمَّ خرج من حدود التنظيم إلى فضاء الأمة، لكنَّه ظلَّ منغمساً
في هموم أمَّته وقضاياها المتعدِّدة، وكرس حياته الطويلةَ في محراب العلمِ
والكتابة والدعوة..
كان العلَّامة القرضاوي طوال عمره العلميِّ الطويل
يبحث في مشكلات الأمَّة فيضع يديه على مواطن الخلل، ويسعى إلى الإصلاح كتابةً
وخطابةً ودعوةً وإفتاءً، فحمل لواء فقه التيسير ليضع عن الناس الإصر والأغلال
ويشجعهم على العودة إلى دينهم، وحمل لواء فقه المقاصد ليحرِّك العقول من الجمود
على الأحكام الجزئيَّة إلى استبصار المقاصدِ العامَّة والمعاني الكليَّة، واقترب
من المشكلات المستجدَّة التي لم يعرفها الفقهاء السابقون وقدَّر مدى إلحاح تلك
المشكلات في واقع المسلمين الذين يعيشون تحدياتٍ جديدةً، فحمل لواء
التجديد ولم
يتفق مع نهج أغلب الفقهاء الذين اختاروا الأحوط على الأيسر، فالأخذ بالأحوط يحسنه
كل أحدٍ لكنَّ تحليل المشكلات المستجدة وإصدار فتاوى تناسب الواقع الجديد تقتضي
مغامرةً وشجاعةً تميَّز بها القرضاوي عن غيره.
كان العلَّامة القرضاوي طوال عمره العلميِّ الطويل يبحث في مشكلات الأمَّة فيضع يديه على مواطن الخلل، ويسعى إلى الإصلاح كتابةً وخطابةً ودعوةً وإفتاءً، فحمل لواء فقه التيسير ليضع عن الناس الإصر والأغلال ويشجعهم على العودة إلى دينهم، وحمل لواء فقه المقاصد ليحرِّك العقول من الجمود على الأحكام الجزئيَّة إلى استبصار المقاصدِ العامَّة والمعاني الكليَّة
قدَّم القرضاوي مثالاً فريداً في سعة انخراطه مع قضايا
أمَّته في مشارق الأرض ومغاربها، حتَّى سمِّي الفقيه الطائر من كثرة البلاد التي
سافر إليها ليلتقي بالمسلمين في كلِّ مكانٍ ويتعرف على واقعهم وقضاياهم، ويقدِّم
لهم
الرؤيةَ الفقهيَّة التي يؤمن بها لتنير سبيل حياتهم.
مع غزارة إنتاج القرضاوي الفقهيِّ إلَّا أنَّه لم
يغادر أدوات
الفقه التقليديِّ، وقدَّم بهذه الأدوات مثالاً على الإمكانات الكامنة
في الفقه للمرونة، لكنَّه لم يتبع مثلاً طريقةَ المفكر جودت سعيد في قراءة
التاريخِ الإنسانيِّ والتعرف على سنن التاريخ والاجتماع خارج حدود التراث
الإسلاميِّ، ولو أنَّ الشيخ القرضاوي كان أكثر انفتاحاً على التراث الإنسانيِّ
قراءةً وتفكيكاً وهضماً واستلهاماً لأنتج رؤىً فكريَّةً أكثر جرأةً ومرونةً
وفاعليةً في التحليق في آفاق العالميَّة الرحيبة.
أشدُّ ما أساء إلى العلَّامة القرضاوي رحمه الله أن
عرفه كثيرٌ من الناس في ميدان الاضطرابات السياسية والاصطفافات الأيديولوجية، بدل
أن يعرفوه من كتبه وأفكاره.
لقد انخرط الشيخ القرضاوي في هموم أمَّته، وهذا موقف
يحسب له لا عليه، وكان متفاعلاً مع مقتضيات اللحظة، ولم يكن هو المسؤول عن مآلات
الأوضاع مثل مقتل البوطي في سوريا أو قصف الناتو لليبيا، فمن اتخذ مثل تلك
القرارات لم يكن متسمِّراً أمام الشاشة في انتظار رأي القرضاوي، والمواقف التي
عبَّر عنها القرضاوي في تلك اللحظة كانت تمثل
نبض الشعوب وكانت نابعةً من حرارة
الإحساس بهول الظلم الواقع على الشعوب، لذلك فإنَّه ليس من العدل أن يضخَّم تأثير
رجلٍ وأن تنسب إليه تلك الأحداث التي كان دوره فيها التفاعل معها وليس صناعتها.
لعلَّ الدرس المستفاد من السنوات العشر الأخيرة في
حياة العلَّامة القرضاوي أننا نحتاج إلى حماية العلماء من سهام الظالمين والجاهلين
كي يظلوا قادرين على أداء رسالاتهم التنويريَّة، ولعلَّ الأفضل للعلماء ألا يظهروا
انحيازاً حادَّاً لفريقٍ في أتون الصراعات السياسيَّةِ، وأن يحذروا من الاصطفاف
السياسيِّ والأيديولوجيِّ الحادِّ الذي يصنِّفهم على جماعةٍ معيَّنةٍ أو حلفٍ
معيَّنٍ فيحصر تأثيرهم داخل تلك الدائرة، لأنَّ تأثير العالم يتمثل في قدرة رسالته
على التسلل إلى منافذ القلوب دون جدرانٍ صادَّةٍ.
حالة القرضاوي لا تقيَّم بالاتفاق أو الاختلاف مع بعض اجتهاداته، فالوضع الطبيعي هو تعدُّد الرؤى داخل ميدان الفكر، ومن يكتب ويعمل كثيراً سيخطئ أحياناً، والسبيل الوحيد لئلا يخطئ الإنسان هو ألا يعمل، أمَّا القيمة الأهمُّ للعلامة القرضاوي هو الحضور المهيب الذي أعطاه الله إياه في مشهد الأمَّة الإسلاميَّة خلال عقودٍ طويلةٍ
حالة القرضاوي لا تقيَّم بالاتفاق أو الاختلاف مع بعض
اجتهاداته، فالوضع الطبيعي هو تعدُّد الرؤى داخل ميدان الفكر، ومن يكتب ويعمل
كثيراً سيخطئ أحياناً، والسبيل الوحيد لئلا يخطئ الإنسان هو ألا يعمل، أمَّا
القيمة الأهمُّ للعلامة القرضاوي هو الحضور المهيب الذي أعطاه الله إياه في مشهد
الأمَّة الإسلاميَّة خلال عقودٍ طويلةٍ وشعور الثقة والأمل والوحدة الذي هيَّأه
الله أن يكون سبباً في إلقائه في قلوب
الملايين من المسلمين في زمان الضعف والهوان، والبذور التي أسَّسها في توجيه أنظار
تلاميذه من بعده إلى منهج المقاصد وتجديد الفقه.
لا ريب أن أطروحات العلَّامة القرضاوي رحمه الله ليست
الحقائق المطلقة المتجاوزة للنقد، والحركة الفكريَّة النشطة تقتضي دوام المراجعة
والتطوير واستبصار آفاقٍ جديدةٍ، لكن من الغرور أن يتحدث أحدهم عن التجاوز قبل
الاستيعاب، فإنَّ أحدنا يستحيل أن يسبق من سبقه قبل أن يبلغه ثم يتجاوزه بعد ذلك،
والمراجعات التي تحتاجها أمتنا هي التي تبنى على القراءة الجادَّة واستيعاب المنتج
الفكريِّ الذي تمَّ إنجازه ثم تطويره بعد ذلك، بما يقرِّبنا أكثر إلى مقاصد العدل
والحكمة والإصلاح.
twitter.com/aburtema