جاء
في الحديث الشريف الصحيح، الذي يرويه عبد الله بن عمرو: "إنَّ اللهَ لا
يَقبضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ من العِباد، ولكن يَقبض العلم بقَبْضِ
العلماء"، واليوم ثُلِمْنَا ثلمةً لا ندري أيأتي لها رتق؟ أم فقدنا عَلَماً
لا نظير له في قادم الأيام؟
كان
الشيخ رحمه الله عَلَماً فذّاً أمسك بناصية
الفقه وأصبح من مجتهدي زمانه، وشيخ
الفقهاء في القرنين الرابع والخامس عشر الهجرييْن، فاستظلَّ المسلمون بعلمه وفقهه،
وأخرج كثيرين من حَمَلَة السلاح من دوامة القتل والتكفير، وأخرج ملايين المسلمين
من الحرج في القضايا الفقهية المعاصرة، خاصة الأقليات المسلمة في الدول ذات
الغالبية غير المسلمة.
أنشأ
الشيخ مدرسة فقهية معاصرة لا تميل نحو التشدد في المسائل المستحدثة، ولا نحو
التسيّب فيها، فاطمأن عموم المسلمين إلى فتاواه، وأصبحت فتواه مرجعا للغالبية
منهم، حتى اشتُهر بين بعض الفقهاء قولهم: "إن كان هناك مجتهد مطلق في زماننا
فهو الشيخ
القرضاوي"، وهي الرتبة الفقهية التي حازها الفقهاء أصحاب المذاهب
الأربعة، ويُقصد بأن صاحبها لديه القدرة على وضع أصول فقهية،
وتقعيد قواعد للفقه، وإحداث اجتهاد مقبول في تفسير النص. وقد حاز الشيخ هذا الاحترام
من المخالف والمتابِع على سَوَاءٍ.
أحيا شيخنا الراحل الشعور بأن الزمان لم يخلُ من مجتهدين يقومون على إحياء الدين في النفوس، وتقريب مفاهيمه مع اختلافات الزمان، وإحداث الاجتهاد الذي يُيسر في الفروع ولا يضيّع الأصل، ويُشدد في الأصول، دون يَبَس الفرع
أحيا شيخنا الراحل الشعور بأن الزمان لم يخلُ من مجتهدين
يقومون على إحياء الدين في النفوس، وتقريب مفاهيمه مع اختلافات الزمان، وإحداث
الاجتهاد الذي يُيسر في الفروع ولا يضيّع الأصل، ويُشدد في الأصول، دون يَبَس
الفرع. ومع ذلك الانشغال بالفقه والعلوم الدينية، كان منارة للثائرين في زمن
الْتِيَاثِ الظُّلَم، وسندا للمظلومين على الظالمين. ومَن مثله لاقى العَنَت من
الحكام بسبب مواقفه؟ ومن مثله احتمينا برأيه وموقفه
وقت ثوراتنا؟ ومن مثله جعل
فلسطين قضية محورية في ثقافة الأمة ووعيها؟
وقف الشيخ كذلك في مساحة التقريب بين السنة والشيعة،
بعدما اشتعل أُوَار النزاع بين أهل الطائفتين، وجعل للاتحاد العالمي لعلماء
المسلمين نائبا شيعياً لتقريب الفجوة. وقد لقي موقفه هذا هجوما شرسا من التيار
السلفي، واستمر الشيخ على موقفه، إلى أن تفاقمت الأمور في العراق، وأصبحت مؤتمرات
التقريب للمجاملات، واستشعر زيادة عمليات نشر المذهب الشيعي في البلاد، فتوقف هذا
المسار.
ظهرت أمارات فقه الشيخ القرضاوي في مواطن عديدة، ومن
أهمّها ممازجته بين العلم والفقه، فكان الرأي العلمي تابعا للرأي الفقهي، فأفتى
بجواز زراعة الأعضاء، ووافق التوجه في مصر بمنع ختان الإناث لأنه رأي أغلب الأطباء،
وتحدث في المسائل العلاجية أثناء الصيام، فأفتى بفقه واسع، ووصْلٍ بين العلم
والشرع، وممازجة بين الأصل والحادِث المستجد عليه.
هذا التشعّب الذي سلكه الشيخ يصل إلى نتيجة واحدة، وهي أن
الشيخ اعتنى بالفكر الإسلامي لا بمجرد الفقه الإسلامي، فطرق أبواب التشريع من باب
شحذ الفِكر، وطرق أبواب
الفكر لمصالحة الناس مع الحياة، وأصبح عنوان برنامج
"الشريعة والحياة" معبرا تعبيرا تاما عن فكر الشيخ وفقهه، وحسن إدراكه
لمعايش الناس واحتياجاتهم. وكان المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ثمرة من ثمرات
فكره وفقهه، وأصبحت آراؤه ملاذا للأقليات المسلمة التي عانت من عدم الاندماج،
وغَلَبَة التشديد عليها. وحال الأقليات مع عدم الاندماج يدفع إلى زيادة اضطهادها،
أو مجافاتها لأصول دينها لتقدر على الاندماج في المجتمعات الرافضة لثقافتها
الدينية، وكانت فتاوى المجلس من أجَلَّ ما ينفع المسلمين في الغرب.
التشعّب الذي سلكه الشيخ يصل إلى نتيجة واحدة، وهي أن الشيخ اعتنى بالفكر الإسلامي لا بمجرد الفقه الإسلامي، فطرق أبواب التشريع من باب شحذ الفِكر، وطرق أبواب الفكر لمصالحة الناس مع الحياة
ربما لو كان الشيخ قد جافى التعمّق في
الخلاف السياسي،
لزاد الانتفاع منه، لكنه وجد نفسه مدفوعا للحديث عن المظالم عندما سكت العلماء، أو
تواطؤوا، فحمل الراية وحده وخسر جمهورا، وتضررت أسرته، وشَنَّعوا على سمعته. ويبدو
أنه قد أحيط ببعض من لم يُحسن المشورة فزادوا من توريطه في تفاصيل الخلافات، وكان
غنيا عن التفاصيل، بعدما أعلن رأيه العام في القضايا.
كانت بوابة السياسة مدخل إفساد العلاقة بين الشيخ
وقطاعات من المسلمين، وقد أُريد إفساد هذه العلاقة لأن آراء الشيخ لم تكن ممتزجة
مع هوى الحكام، فلم يتركوا موطنا إلا وهاجموه فيه. وقد أعلن موقفه واضحا بشعار
الاتحاد الذي تزيّن بقول الله "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون
أحدا إلى الله"، فكان رحمه الله ندا لهم، فما ترك موطنا إلا ونغص عليهم فيه
انسلاخهم من ثقافة الأمة ومعاداتهم لقضاياها، خاصة القضية الفلسطينية التي حملها
داخل عروقه، وطوى قلبه عليها حُبّا ونصرة لها، فزادوا من سخطهم عليه، وازددنا محبة
له.
انهدم برحيل الشيخ القرضاوي عمود من عُمُدِ الدين، وركن
من أركان الفكر الإسلامي المعاصر، وقد فقدنا قبله الأستاذ البشري والدكتور محمد
عمارة، وقد كانت لهم جميعا صولات دينية متصلة بالفكر الإسلامي، وقد كان هذا مكمن
خطرهم. صحيح أن علماء الدين في مصر ما زالوا مهتمين بعلوم الشريعة، لكن القليل
منهم من مزج بين الواقع المعاصر والشريعة، وأقل من مزج بينهما وبين مهاجمة
الاستبداد والظلم. فالخسارة فادحة، والخطوب فاجعة، وللأسف لم نرَ بين تلاميذ الشيخ
من يكمل مسيرته، أو يُظهر أمارة استنارة العقل مع التمسك بالأصول، فإنا لله وإنا
إليه راجعون.