هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تعسر المفاهيمُ إذا همّ بها الفهم. فتأبى الحدَّ ويتعسّر الضّبطُ وتُشْكل على مستعملها، خاصة حينما تكون في مهب التحولات والصراعات الفكرية. ومن أكثرها التباسا اليوم مفهوم "الهوية". ولعلّ الالتباس أن يعود إلى تعدد زوايا مقارباته. وهذا طبيعيّ. ولكن فضلا عن ذلك، يعود في تقديرنا، إلى اختلاف أهداف مقاربيه وإلى منافع ترجى من وراء فرض فُهوم بعينها. وحتى نجعل المسألة موضوع تفكير سننطلق من تعريفات متداولة تخوّل لنا الحد الأدنى من المشترك في مقاربة المفهوم.
فوفق الشائع في الموسوعات تعرّف الهوية بكونها نظام القيم والتصورات الذي تستند إليه الذّات وهي تتمثل ذاتها، أو بكونها ما يجعل من الكائن هو هو أي العلامات والخصائص التي يستقلُّ بها عن غيره، وفي غيابها تُطمس معالمه ويذوب في الآخر. ولكنّ المفهوم متحوّل كما سنرى ممّا يجعل من كلّ محاولة لضبطه تعسفا على سيرورته التي لا تني تتحوّل. والمؤسف أنّ الثابت الوحيد هو أنّ العرب يظلون الخاسر الأكبر في مختلف تصوراته كيفما كان تقليبها أو تحوّلها.
1 ـ في صلة الهوية بالجوهر والماهية
تشدّد بعض تصورات الهوية على إبراز دورها في تحديد خصائص الذّات حدّ وصل المفهوم بالجوهر منها وبماهيَّتها. فتفهم باعتبارها عنصرا ثابتا يخترق الزمن ويتعالى على التاريخ والجغرافيا معا، حتى يكاد يُنقل جينيا من جيل إلى آخر. ويصبح للجنس وللعرق دور حاسم في تشكيله. ومن شأن التراخي في تدبر هذا التصوّر أن يجعل البعض يجد فيه مدخلا مهما لتمثل المفهوم. فتحديدنا لهوية العربي في سياق حضاري بعينه مثلا، يجعل الذّهن يمر آليا إلى مقارنته بأجناس أخرى مجاورة له في الفضاء. فهو ليس الفارسي أو الإغريقي أو البربري.
وانطلاقا من هذا التمييز يستحضر الذهن العناصر الحضارية الفارقة المشكّلة لهويته من لغة ودين وثقافة وتاريخ مشترك. ولكنّ مفهوم الهوية على هذا الأساس يظل فهما مغامرا. فالنّزعات العنصرية كلّها تنطلق من الاعتقاد في امتلاك أصحاب عرق ما أن جوهرا كامنا في هذه الهوية ومتلبّسا بها، يميّزهم عن غيرهم ويجعلهم جنسا أرقى من غيرهم. فتتحوّل الهوية عندئذ إلى عامل تناحر يفكّك للنسيج الاجتماعي للدول. وخطاب اليمين المتطرّف الذي ينتعش اليوم في أوروبا ويغتذي من المقولات الفاشية والنّازية معتقدا بجوهر صاف للهوية الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية يغنينا عن التفصيل.
ومن التبعات الخطيرة لعزل الهوية عن التاريخ والجغرافيا أن تُفهم باعتبارها كتلة صلبة فـ"ـتتجمد وتمنح أسوأ أيديولوجيات "الهوية القومية" الفرصة كي تفلت من عقالها" كما يقول بول ريكور في أثره الذّات عينها كآخر[ ص 264، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربة للترجمة، ط1 بيروت 1990]. ومن هذا المنطلق نفهم سبب انطواء المجموعات اليمينية على نفسها ومقاومتها المستمرة لدمج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة وتبنيها لخطاب العنف والكراهية..
2 ـ الهوية والديناميات الاجتماعية
مقابل هذا الفهم "المحنط" للهوية يترسّخ تصور مختلف شيئا فشيئا. فيصادر على أنّ الذات تكتسب كيانها (وهويتها بالتالي) من تفاعل العناصر الثقافية التي تسهم في تشكيلها. ومن هذا المنطلق يرفض الفيلسوف الفرنسي بول ريكور اعتبارها عنصرا جوهريا قارّا. فالهوية عنده "تماسكُ ما يحفظه الزمان من التبدّد والتبعثر". والمغترب الوافد إلى ثقافة مغايرة لثقافته الأصلية على سبيل المثال، يكتسب مقومات جديدة تضاف إلى هويته حالما يندمج في الآخر. كليا أو جزئيا فيصبح العنصر المشكل للهوية مرتبطا أكثر باللغة والمصير مشترك الذي تحكمه العناصر الاقتصادية والاجتماعية ضمن سيرورة لا تتوقف عن الحركة.
ويعتبر هذا التصوّر المعطى الثقافي والحضاري ظاهرة إنسانية شاملة تحدّد معالم الكيان للأفراد والجماعات على حدّ سواء بفاعلية أكبر من فاعلية العرق والدّم. وتصوّرنا للأوروبي اليوم يختلف، ولا شك عن فهمنا له قبل نصف قرن بعد اندماج المهاجرين من أصول إفريقية أو آسيوية وإسهامهم الفاعل في نهضتها أو مشاركتهم في خلق مشاكلها أيضا. والأوروبيون بدورهم باتوا يهاجرون اليوم إلى الولايات المتحدة بحثا عن مراكز أرقى للبحث أو عن أفق أرحب للعمل أو التجارة ويكتسبون بالتالي مقومات جديدة للهوية. ولعلّ هذا التصوّر أن يتجلى في الاحتفاء بذلك الاندماج، في كل متوحّد الذي مثله الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم متعدد الأصول في دورتي 1998 و2018. فقد شكل مثالا للهويات المختلفة التي تتبدّد بعض مكوناتها الأصلية لتنصهر في هوية واحدة. ومن منطلق هذا التصور للهوية، بعيدا عن كرة القدم، أمكن للمهاجرين أن يكتسبوا حقوق المواطنة الكاملة في المجتمعات الحاضنة. فخوّلت في حالاتها القصوى، لباراك أوباما ذي الأصول الكينية حكم الولايات المتحدة الأمريكية ولنيكولا ساركوزي ذي الأصول المجرية واليونانية حكم فرنسا.
3 ـ مفهوم الهوية بين الصلابة والرخاوة
بيّن أنّ الاتجاه الثاني لفهم الهوية أكثر عمقا وأكثر تماسكا. ولكنّ التساهل في ضبط حدّها والإفراط في ربطها بالعناصر السوسيولوجية لا يخلو من مخاطر بدوره. فالتعاطي معها على هذا النّحو يجعلها رخوة عاجزة عن مقاومة الغزو الثقافي ويحوّلها إلى مبعث للشعور بالفراغ والدونية والعجز وبابا للاغتراب الدّيني والسياسي. وقد أثبتت فكرة العولمة ذلك. فقد كان ظاهرها طلبا لثقافة كونية تتخطّى الحدود وتوحّد القيم. وأما باطنها ففرض لنظام عالمي جديد يضرب فكرة التّنوع الثقافي ويفسح المجال للنموذج الأمريكي بالأساس المدعوم بمختلف أسباب القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية أن يهيمن على باقي الثقافات ويلغيها.
من المهمّ إذن الانتباه إلى أنّ التفاعل بين الصلابة والرخاوة في أصل المفهوم يجعل الهويةَ دينامية متفاعلة تتقاطع فيها مكونات كثيرة مكتسبة، بالمعنى الأنتروبولوجي للاكتساب الثقافي. منها التاريخيُّ والديني واللغوي والجغرافي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي، أي كل ذلك الذي يحفظه الزمان من التبدّد والتبعثر، على عبارة ريكور. ولا تنفك هذه المقولة تتطور باستمرار وتتأثر بغيرها من الهويات الثقافية التي تحتك بها وتفاعل معها. والهوية هويات. فما يمنح المرء خصوصيته هويتُه الفرديةُ أي أفكاره الخاصة وأسلوبه المميز وطريقته في سكنى الوجود.
يظل سؤال الهوية ملحّا يقتضي أن يعاد التفكير فيه من جديد. فيفيد من التجارب المقارنة التي خوّلت لشعوبها الانخراط الفاعل في الحضارة اليوم والمحافظة على المقومات الدنيا لانسجامها المجتمعي ويصدر عن خلفية فكرية عميقة ومتدبرة ترفض الانبتات والاستلاب في الآن نفسه وتحترم حقّ الآخر المختلف في التعبير. وهي لعمري مهمة المفكرين المخلصين اليوم الأكثر نبلا ولكنها الأعسر.
ولا بدّ لهذه الهوية الفردية من امتداد أسري أو قبلي أو وطني أو ثقافي أوديني يصلها عبر الروابط المشتركة بغيرها وينزّلها، ضمن هويّة جماعية. ويكون ذلك وفق تفاعلات معقّدة. "فالمجتمع ليس مجرَّد حصيلة حسابيَّة للأفراد المكوّنين له" وفق ما يذكر سعد غراب ضمن أثره العامل الدّيني والهوية [التونسية، الدار التونسية للنشر، ط1 ، 1990، ص 11]. فالهوية التونسية على سبيل المثال، ملتقى للمكون الأمازيغي والوندالي والفينيقيّ والعربي والتركي. وفي مكوّنها اللغوي تتفاعل مؤثرات مستمدة من هذه الحضارات. لذلك لا تتمثل الذات التونسية نفسها التمثّل الجيد خارج انتمائها المغاربي والعربي والمتوسطي والإفريقي. ولا تتفاعل هذه المكوّنات في كل فرد التفاعل نفسه.
ومن المهم أيضا الانتباه إلى أنّ الإيديولوجيا كثيرا ما تمثّل عاملا يشكّل وعي الناس بهوياتهم على نحو معين يقصي بقية العناصر ويجعل تمثلها محرّفا ويجرّ إلى إقصاء الآخر المختلف، كأن تجعل البعد العرقي أو الديني أو اللغوي المحدّد الأبرز لتمثلها.
4 ـ العرب وخطاب الهوية: الخسارة المضاعفة
لقد ظل خطاب الهوية العربي منذ النهضة خطابا قلقا باستمرار، أي منذ أن بات الغرب نقطة الارتكاز في فهمهم لذواتهم. فهم الضعفاء المتخلفون لأنّ الغرب قوي ومتطور صناعيًّا وعلميًّا وحضاريًّا وتسود مجتمعاته قيم الحرية والديمقراطية. وهم بالمقابل أصحاب القيم الأصيلة مقارنة بالغرب الاستعماري المتعالي ناهب حق شعوبهم ومعرقل تطورهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. وهم الرّوحانيون مقارنة بالغرب المادي. ورغم انبهارهم به وولعهم باتباعه، كما يولع كل مغلوب باتباع الغالب على عبارة ابن خلدون، لم يستطع العرب التلاؤم مع قيمه الأخلاقية مطلقا وظلّوا ممزقين بين الانجذاب إليه والاختلاف عنه وظلّ سؤال الهوية يتحمّل كل عبء هذا التردّد المبرّر حضاريا.
فما أن خطوا خطوات فاعلة في ترتيب أولوياتهم بعد هزيمة 1967 لحسم الموقف من الخلافة ومن الدولة القومية ومن تنبني أشكال الدولة المدنية حتى جاءت العولمة بفهمها البراغماتي للهوية وبكل ما فيه من المفارقات. فكانوا ضحية لنزعتها الجلية إلى تطويع الهويات المختلفة تطويعا يلغى الثقافات الوطنية الأخرى ويميّع خصائصها لفائدة الثقافة الغربية المهيمنة ويفرض تصوراتها للعيش ولنماذجها المجتمعية. فيعلي من ثقافة الاستهلاك التي تتناسب مع مصالح مراكز التحكم والسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية ويقصر حظهم منه على أن يكونوا سوقا لتكديس سلع، سريعا ما تفقد جاذبيتها عند ظهور أخرى أكثر رفاهية أو خلق أذواق جديدة عبر تقنيات التسويق. مما يجعلهم في تبعية مستمرّة.
وفي الآن نفسه كانوا ضحية لتصوّر نقيض يُغرق الهوية في المحلية ويصلها بالقبيلة أو الطائفة. فيتّخذ من شعار مناصرة الأقليات وضمان حقّها مبررا لتشجيع النزعات الانفصالية. فأغرقت المنطقة في حروب أهلية هزّت استقرار اليمن والعراق ولبنان وسوريا وليبيا والمغرب والصومال بعد أن أتت على نصف السودان وتهدد اليوم نصفه الباقي بالانشطار أيضا.
هكذا كان العرب ضحية للتصورين معا. فضمن التصوّر الرخو تعلقوا بفهم طوباوي لهوية كونية يقفز على الانتماءات المحلية ويتغاضى على الخصوصيات الثقافية والتاريخية. وكانت القضية الفلسطينية ضحيتها أساسا بعد تراجع فاعلية البعد القومي لتحديد مقومات الذات. وضمن الفهم المتصلّب ازدهر الإرهاب وتوفرت بيئات حاضنة له وتشتت قواهم ودمّرت مكتسباتهم بما أشعلوا من حروب داخلية.
5 ـ في الحاجة إلى مراجعة مفهوم الهويّة
لقد تولّى الخطاب الفلسفي مراجعة مقومات الهوية مراجعات جذرية بفعل حركات الهجرة والتثاقف والثورات الاتصالية المبشرة بالقرية الكونية الواحدة. وهذا بديهي. فنحن نعيش في سياق يتسم بكونية الثقافة وعالميتها. فتزول الحواجز بين المجتمعات ويَرشح نموذج كوني لتحقيق الكيان الفردي والجماعي. ولكنّ العرب مدعوون إلى تحديد تصورهم لأدوارهم في هذه القرية الكونية ولمنزلتهم فيها.
ولعلّ ما يعسّر هذه المهمة أنّهم لا يتفقون على الحدّ الأدنى من التصور المشترك لنموذج مجتمعي يكفل انسجام تصوّرهم للهوية. فحرية التعبير التي منحتها الثورة التونسية للنخب كشفت عمق الخلاف حول النموذج المجتمعي الذي يريدون تحقيقه وعمق الهوّة بين الخلفيات الفكرية (التصور الأصولي أو التصور الليبرالي العلماني) مما أفضى إلى حياة سياسية شديدة التشنج. ومع ذلك يظل سؤال الهوية ملحّا يقتضي أن يعاد التفكير فيه من جديد. فيفيد من التجارب المقارنة التي خوّلت لشعوبها الانخراط الفاعل في الحضارة اليوم والمحافظة على المقومات الدنيا لانسجامها المجتمعي ويصدر عن خلفية فكرية عميقة ومتدبرة ترفض الانبتات والاستلاب في الآن نفسه وتحترم حقّ الآخر المختلف في التعبير. وهي لعمري مهمة المفكرين المخلصين اليوم الأكثر نبلا ولكنها الأعسر.