هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ترتبط جماعة العدل والإحسان بشكل محوري بالشيخ عبد السلام ياسين، فهو الذي وضع لبنات التأسيس الأولى، وهو المنظر صاحب الأدبيات المتعددة التي تعد اليوم مرجعية للجماعة. وإذا كانت لحظة الاحتفاء بالتأسيس (أربعينية التأسيس) تلهم قياديي هذه الجماعة ومثقفيها لاستحضار مسارها، قراءة تطور كسبها في مواجهة سياقات سياسية مختلفة، وملاحظة جوانب قوة الجماعة، وقدرتها على مقاومة الضغوط السياسية، وإفشال استراتيجيات الدولة في التعاطي معها، فضلا عن إبراز تطور آلتها التنظيمية، فإن مهمة الباحث، أن يدرس مسار الجماعة بشكل منفصل عن قراءة التنظيم التي تنتصر للذات التنظيمية، ويقيم فكر الجماعة وسلوكها في سياق اشتباكها مع البيئة السياسية والاجتماعية، وتسجيل محطات الفعل والتأثير ومحطات التراجع والعزلة، والتوقف على أهم العوامل التي تقف وراء ذلك.
المسار الفردي في التأسيس
مهما يكن الخلاف حول لحظة التأسيس، فكل الأعمال التأريخية، تتحدث عن خمس محطات أساسية، تغطي الأولى بشكل جد مختصر لحظة الخلاف مع الزاوية البوتشيشية، وتركز الثانية على الإصدارين المبكرين للشيخ عبد السلام ياسين، أي "الإسلام بين الدعوة والدولة" (1972) و"الإسلام غدا" (1974) فيما تخص الثالثة، رسالته الموجهة إلى ملك البلاد "الإسلام أو الطوفان". أما المحطة الرابعة، فتخص مبادرة أطلقها الشيخ عبد السلام ياسين لتوحيد العمل الإسلامي (1978 أو 1979). أما الخامسة فتتعلق بخلق أول نواة للجماعة (أسرة الجماعة سنة 1981) متمحورة على مجلة سماها الشيخ ياسين "الجماعة".
يقدم الشيخ عبد السلام ياسين روايته للخلاف مع الزاوية البوتشيشية، فيحكي في كتابه" الإسلام بين الدعوة والدولة"، أن شيخ الزاوية العباس توفي، وأخلف ابنه حمزة، وأجلسه بالإذن في التربية، وأنه بقي على العهد مع ابنه حمزة ينال بركته، وأن مغادرته للزاوية كانت على خلفية عدم اقتناعه بخطها، الذي لا يدخل البعد الجهادي في العمل.
لم يثبت من أي رواية أن مغادرة ياسين للزاوية كان على خلفية التنافس على الرئاسة (مشيخة الزاوية بعد العباس)، فشيخ الزاوية نفسه، أي حمزة ابن الشيخ العباس، لم يؤكد هذه الرواية، وعلل سبب مغادرة ياسين إلى رغبته في تسييس الزاوية، وهو التعليل نفسه، الذي حملته رواية ياسين التي انتقدت على الزاوية قصورها عن الأداء الجهادي.
في اللحظة الثانية، يظهر أول كتاب أصدره ياسين (الإسلام بين الدعوة والدولة) سنة 1972، نضج تصوره لعمل إسلامي يجيب عن سؤال العلاقة بين الدعوة والدولة (الحركة والسلطة)، إذ تبنى في هذا الكتاب فكرة التقاء الإرادتين (قيادية روحية ممثلة في الشيخ الصوفي) والجهادية (حاكم ينهض لحمل رسالة الإسلام، ويجعل إرادة الله فوق إرادته)، فيحاول ياسين قراءة تاريخ التقاء هاتين الإرادتين وأثره في محطات مشرقة في تاريخ الإسلام. وعلى الرغم من إشارته لعدم تحقق هذا اللقاء في محطات تاريخية مختلفة، إلا أن خطه الفكري في هذه المرحلة، ركز على إمكانية تحقق هذا اللقاء وأهميته.
اللحظة الثالثة، التي كانت الأكثر إثارة في مسار الشيخ ياسين (رسالة الإسلام أو الطوفان) التي بعث بها إلى ملك المغرب سنة. لم تكن هذه الرسالة في الجوهر سوى اختبار لإمكانية الرهان على صيغة التقاء الإرادتين الروحية والجهادية من خلال طرح مفهوم التوبة العمرية، أي اختبار أن يقوم ملك البلاد بتوبة على شاكلة ما قام به عمر بن عبد العزيز، لإثبات قدرته على أداء دور الحاكم الجهادي.
من المفيد أن نلاحظ أن المحطة الرابعة، المتعلقة بمبادرة الشيخ ياسين للحوار من أجل توحيد العمل الإسلامي، تأخرت أربع أو خمس سنوات بعد المحطة الرابعة، ويعود ذلك إلى الأثر الذي أحدثته رسالته إلى الملك، وما أعقبها من قرار السلطات بنقله إلى مستشفى المجانين، ثم بعدها مستشفى الأمراض الصدرية (حوالي ثلاث سنوات ونصف). ومباشرة بعد خروجه، يصدر مبادرته للحوار مع قيادات العمل الإسلامي بالمغرب، من أجل توحيد عملها.
رواية الجماعة تقر بفشل هذه المبادرة، وتختلف في ذكر أسباب ذلك، لكن المعتبر في تعليلها أن الجماعات الأخرى كانت مشغولة بتصفية خلافاتها، وأنها أرجأت الموضوع أن الشيخ ياسين عرض تصورا للعمل الإسلامي يشترط قيادته للعمل، وطلب منهم الانخراط فيه (مركزية شخصه المشروع).
المعتبر في التحقيق في هذه الروايتين، أن رواية الجماعة نفسها تقر بأن الشيخ ياسين عرض على الجماعات تصورا للعمل الإسلامي، يرجح أن يكون هو ما تم عرضه في كتابيه "الإسلام بين الدعوة والدولة" و"الإسلام غدا". وإذا كان الأمر بهذا التأويل، فإن رواية الريسوني، تبقى الأصح في تفصيل رواية الجماعة المجملة، بحكم أن أدبيات الشيخ ياسين التي سبقت مبادرة التوحيد، اشترطت محورية الشيخ المصحوب في العمل الإسلامي (الصحبة والجماعة).
المحطة الخامسة، التي تعدّ المنطلق التأسيسي للجماعة، جاءت عقب تقييم المسار السابق، وبشكل خاص، اقتناع الشيخ ياسين باستحالة تحقق التقاء الإرادتين الروحية والجهادية (الشيخ والسلطان)، واستحالة توحيد مكونات العمل الإسلامي، فجاءت خطوة إصدار مجلة الجماعة (1979)، لتتلو ذلك خطوة تأسيس أسرة الجماعة (1981)، تزامنا مع نشر أول حلقة من حلقات "المنهاج النبوي" في العدد السابع من المجلة، وبدأ يراهن في هذه اللحظة على توظيف هذا المنبر الإعلامي، من أجل توسيع شبكة علاقاته الاجتماعية نحو الذات الإسلامية (استقطاب من داخل مكونات الحركة الإسلامية)، وأيضا نحو النخب الأخرى (الحوار مع النخب المتغربة)، وقد أثمر هذا المسار عن تأسيس "الجمعية الخيرية الإسلامية" في نيسان/أبريل 1983، ودخل ياسين السجن في السنة نفسها، بعد إصداره لجريدة "الصبح"، بسبب تعرضه بالنقد لـ"رسالة القرن" التي ألقاها الملك الحسن الثاني، وجعلها إطارا توجيهيا لسياسة دينية، قصد بها مواجهة التغلغل الماركسي بالمغرب.
يمكن أن نخلص من هذه المحطات الخمس إلى ثلاث خلاصات أساسية: أولها أن تصور عبد السلام ياسين للعمل الإسلامي في بعده النظري والتنظيمي قد نضج مبكرا (1972)، وأنه كان مستوعبا لتجارب الإسلاميين من قبله (انتقد تجربة البنا وسيد قطب)، ومطلعا جيدا على حراك الإسلاميين وأزماتهم في تلك المرحلة. وثانيها، أن أطروحة الرجل تدرجت فكريا وتنظيميا، وذلك بطرح فكرة التقاء الإرادتين الروحية والجهادية، ثم اختبارها، فالإيمان بعدم جدواها (التدرج الفكري)، وأيضا بتنهيج فكرة بناء العمل الإسلامي، بطرح فكرة التوحيد، ثم تجاوزها بعد استحالتها، والبناء أولا بالتعبير الإعلامي (المجلة)، لخلق فضاء استيعابي استقطابي (شبكة العلاقات الاجتماعية) ثم تأسيس النواة التأسيسية للعمل. وأما الثالثة، فتمكن في مركزية شخصه في البناء الفكري (القيادة الروحية)، والحركي (قيادة العمل الإسلامي مرجعية وتنظيما)، والتنظيمي (إدارة مرحلة التأسيس بجميع خطواته الإعلامية والتواصلية والتنظيمية).
العدل والإحسان.. لحظة التوهج والامتداد التنظيمي
قضى الشيخ عبد السلام ياسين عشرية كاملة لبناء مشروعه (ما بين 1972 و1983)، لكن هذه الدينامية النشطة التي غطت الجوانب المذهبية (نشر المنهاج النبوي)، والتنظيمية (اقتراح خطاطة تنظيمية للجماعة)، والحركية (التأسيس من المجلة إلى أسرتها إلى الجمعية الخيرية)، والتواصلية (خلق شبكة علاقات واسعة مع الداخل الإسلامي والنخب الأخرى)، لم تساعده كثيرا في إعطاء زخم لتنظيمه، فقد ظلت الجماعة أقل صيتا وجاذبية مقارنة مع ما كانت تمثله وقتها حركة الشبيبة الإسلامية بمكوناتها المختلفة، فرغم ضجة رسالة "الإسلام أو الطوفان" وما أعقبها من ابتلاء للشيخ ياسين، ورغم اعتقاله بعد إصدار جريدة "الصبح" على خلفية تعرضه للملك بالنقد، إلا أن محدودية الجماعة وضعف استثمارها لهذه "المظلومية" لم يكسبها الجاذبية الواسعة، ولم يثر اهتمام الإسلاميين إليها، رغم أن أغلبهم كان يعيش لحظات توتر تنظيمي (انشقاق عن الشبيبة منذ سنة 1978 وبحث عن صيغ جديدة للعمل من سنة 1981 إلى غاية سنة 1983).
عمليا، يمكن أن نعد العشرية الثانية للجماعة، عشرية الوهج والامتداد التنظيمي، لكن، مع اعتبار سنة 1987 بداية لها.
يمكن أن نرصد في هذه المرحلة محطات كبيرة في تاريخ الجماعة، تبتدئ برفع شعار "العدل والإحسان" سنة 1987، ومحنة اعتقالات مجلس الإرشاد سنة 1989، ومحاولة السلطة التفاوض مع الجماعة، وإخضاع الشيخ عبد السلام ياسين للإقامة الجبرية في آخر سنة 1989، ونشر جملة أدبيات للشيخ، غلب عليها الطابع السجالي مع القوى المنافسة، وعرض أطروحته للمسألة الاجتماعية.
تتميز هذه العشرية بأربع ملاحظات أساسية: أولها هو حدوث تحول محوري في هوية الجماعة اتجاه البعد السياسي، وقد جسد تغيير اسمها إلى "العدل والإحسان" الانتقال من الواجهة التربوية والدعوية إلى الوظيفية الحيوية (السياسة)، عبر التركيز على القضية الاجتماعية (العدل الاجتماعي). والثانية، هو حصول تحول في العلاقة مع السلطة، وذلك من مواجهة شخص ياسين، إلى مواجهة التنظيم في شخص مجلس الإرشاد أي القيادة الجماعية، كما يمكن أن نسجل في هذه الملاحظة بداية تفاوض السلطة مع الجماعة، وإن ظلت جماعة العدل والإحسان تنكر حصول ذلك خوفا على سوء فهم أتباعها، إلى أن نشرت وثيقة حصل عليها أحد الباحثين المقربين من وزير الأوقاف السابق، تثبت وجود هذا التفاوض.
وأما الثالثة، فتخص الدور الذي قامت به أدبيات ياسين الجديدة، إذ شكل نفسها الحواري والنقدي قاعدة للمساجلة اعتمدتها الجماعة في الحوار مع النخب المختلفة، وبشكل خاص، مخالفوها من العلمانيين والماركسيين، بل وحتى من الإسلاميين، إذ وفر كتاب "نظرات في الفقه والتاريخ" الحجج التاريخية والشرعية والأصولية لنقض أطاريحهم وتأصيل أطروحة ياسين. أما الملاحظة الرابعة، فتخص وضع الجماعة بعد الإقامة الجبرية على الشيخ، والمساحات التي أتاحتها هذه المحنة، سواء من جهة الاستثمار السياسي لها (استثمار مظلومية الجماعة إعلاميا)، أو بروز دور حيوي لقيادات أخرى، وجدت في فراغ القيادة مجالا لتكثيف نشاطها وتأثيرها داخل التنظيم (محمد البشيري).
مؤشرات التوسع والوهج التنظيمي كثيرة، يبررها توسع الاستقطاب الكيفي (الفئات) والكمي (العدد)، وحيوية العمل الطلابي (الإعلان عن الفصيل الطلابي بالجامعة سنة 1991) وتوسع العمل التلمذي، ورهان قوي على رجال وأطر التعليم، وبداية حملات واسعة من الاعتقالات التي شملت القيادات الطلابية (الدار البيضاء، فاس، وجدة).
قام الفصيل الطلابي بدور مهم في الإشعاع لمرجعية الجماعة (المنهاج النبوي)، وشكلت الأدبيات الحوارية التي أصدرها الشيخ ياسين سلاحا فكريا لهذه القيادات في اشتباكها مع اليساريين بمرجعية (الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية)، والقوميين العلمانيين بمرجعية (الإسلام والقومية العلمانية)، وأيضا في اشتباكها مع الإسلاميين من خلال كتابه (نظرات في الفقه والتاريخ)، الذي حاول تأصيل أطروحته التغييرية بتسويغ الخروج على الحاكم وعصيانه، وإعادة قراءة دلالات أحاديث طاعة الحاكم، واستخلاص مطالب الشريعة الثلاثة: العدل والحرية والشورى، التي لا يمكن تصور عودتها من غير "قومة" على الحاكم، وإقامة الخلافة على منهاج النبوة.
وهكذا غطت "المسألة الاجتماعية" بزخمها على التراث الصوفي للشيخ عبد السلام ياسين، فصارت الأبرز في مشروعه، بحيث أصبحت الجماعة بفضل الصورة التي قدمها الفصيل الطلابي، أقرب إلى أن تكون تيارا سياسيا راديكاليا يقوم على فكرة العدل الاجتماعي، ويناهض شرعية السلطة، أي تيارا بديلا للقوى اليسارية التي تشترك معه في الهويتين السياسية (مواجهة شرعية السلطة السياسية) والاجتماعية (تمثيل القاعدة الشعبية المتطلعة إلى العدل الاجتماعي)، وشكلت الدار البيضاء، القاعدة الصلبة لهذا الفصيل، وأدى الشيخ محمد البشيري دورا مركزيا في تفسير جوانب كثيرة من هذا الوهج.
والواقع أن ثمة عوامل متعددة في تفسير هذا الوهج، بعضها يرجع إلى تحولات الجماعة نفسها، وانعطافها إلى المسألة الاجتماعية، فضلا عن المساحات التنظيمية التي تركها فراغ القيادة (نسبيا بسبب الإقامة الجبرية) وحرية المبادرة التي أتيحت لقيادات أخرى، فضلا عن الاستقلالية النسبية التي كانت متاحة للفصيل الطلابي، دون أن نغفل الزخم الفكري الذي شكلته كتابات ياسين الحوارية، التي مكنت القيادات الطلابية من أدوات مهمة لبناء أطروحتها وأسلحتها السجالية. كما أن هناك عوامل أخرى ترجع إلى المناخ السياسي نفسه، وجو الانحباس السياسي والاقتصادي الذي كان يعيشه المغرب (سمى الملك الوضع بالسكتة القلبية)، ومخاض الإعداد لمرحلة التناوب التوافقي (بداية الحوار مع الكتلة الديمقراطية)، وعدم دخول المكونات الإسلامية الأخرى بعد إلى العملية السياسية، إذ وجدت جماعة العدل والإحسان الفرصة مواتية لملء الفراغ وإبراز قدرتها على تحريك الشارع.
العدل والإحسان ومسار المتاهة
تمتد هذه المرحلة لعقدين من الزمن، وتبتدئ من اللحظة التي تم فيها اتخاذ قرار بإحياء مجالس الربانية (مجالس النصيحة)، أي بعد اندلاع الخلاف في مربع القيادة بين الشيخ ياسين والشيخ محمد البشيري، حيث انتهى بفصل البشيري سنة 1996، وتعليل القرار بخلافه مع نهج الجماعة.
وعلى الرغم من بعض التطورات التي قد ينسبها البعض للزخم والوهج الذي حققته الجماعة، من قبيل تأسيس الدائرة السياسية سنة 1998، والتجديد التنظيمي، وخلق هيئات متعددة (قطاعات نقابية ونسائية وشبابية وحقوقية، وبحثية وغيرها)، فضلا عن صدور كتابات مفصلية في تصور الجماعة، تتناول قضايا العدل (العدل) والمرأة (تنوير المؤمنات)، والشورى والديمقراطية (الشورى والديمقراطية)، أو قضايا الاقتصاد (الاقتصاد الإسلامي البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية)، واستمرار النفس الحواري سواء مع النخب الأمازيغية (حوار مع صديقي الأمازيغي)، أو القوى الوطنية (حوار الماضي والحاضر)، أو النخب الديمقراطية لحفزهم على بناء ميثاق جامع لمقاومة الاستبداد على أرضية الإسلام (حوار مع الفضلاء الديمقراطيين)، فإن هذه المؤشرات، كانت جوابا عن الانكفاء والعزلة أكثر منها مؤشرات للزخم والصعود.
بيان ذلك، أن لحظة فصل البشيري، لم تعبر فقط عن صدمة تنظيمية، بل شكلت رجة فكرية ونفسية أيضا، إذ لأول مرة، يتم تكسير صورة القيادة المجتمعة على شيخها، ولأول مرة أيضا، يطرح سؤال المرجعية الصوفية، وبأي معنى ينبغي تمثلها: هل بالمعنى السلفي (أطروحة البشيري)، أم بالمعنى العرفاني (الشيخ ياسين)؟ فكانت لحظة العودة لمجالس النصيحة بمنزلة نكوص كبير للخط الذي تم ترسيمه في العشرية السابقة (خط العدل الاجتماعي). كما شكل هذا التحول، توجيه الأولويات إلى الذات، بدل المجتمع والدولة، وهو ما فسر بشكل كبير تراجع الاستقطاب في هذه المرحلة، فضلا عن تراجع أداء الفصيل الطلابي، ومحدودية تأثيره وإشعاعه إعلاميا وسياسيا.
على أن المؤشر الكبير الذي دفع بالجماعة إلى الانكفاء ومواجهة واقع العزلة، هو الشكل الذي استقبلت به تولي الملك محمد السادس للعرش عقب وفاة والده سنة 1999، إذ استمر الشيخ ياسين على النهج نفسه (نهج رسالة الإسلام أو الطوفان)، رغم رفع الإقامة الجبرية عنه، فكتب (مذكرة إلى من يهمه الأمر) سنة 2000، وهو ما اعتبر وقتها بأنه رسالة تصعيد غير مبررة، إذ بدل أن تراهن الجماعة على إحداث قطيعة مع عهد الحسن الثاني، وإعطاء مؤشرات حسن النية، اتجهت رسالة الشيخ ياسين إلى استبقاء حالة التوتر مع السلطة، مما كان له أثر معاكس لرسالة الإسلام أو الطوفان، فبدل أن تخلق الرسالة الثانية الحدث، وتثير جاذبية الجمهور والنخب السياسية، استقبلت من جهة السلطة بالتجاهل، كما استقبلت من جهة النخب المختلفة بكثير من الامتعاض.
يبدو واضحا في سلوك الجماعة أن علامات الوهج والإشعاع كان دائما ما يرتبط بالتوسع التنظيمي والحضور السياسي والإعلامي، بينما شكل الانكفاء إلى ما هو تربوي وإعطاء أولوية للتجديد التنظيمي على حساب الأداء السياسي، فضلا عن الحفاظ على منطق توزيع السلطة بين القيادات التقليدية في التنظيم، العلامات البارزة للأزمة.
تولي محمد السادس للحكم سنة 1999، وإصداره قرارا برفع الإقامة الجبرية عن الشيخ ياسين سنة 2000، ومشاركة الإسلاميين في العملية السياسية خاصة في محطة 2002، والنتائج التي حصلوا عليها في هذا الاستحقاق، أدخل جماعة العدل والإحسان في سياق العزلة، إذ توسع القلق والسؤال حول رهانات الجماعة وإمكان تحققها، كما طرح سؤال سبب الرهان على التوتر مع السلطة، مع أن مبرراته قد انتهت بموت الملك الحسن الثاني.
يمكن أن نرصد ثلاثة مؤشرات كبيرة على المتاهة التي دخلتها الجماعة، أولها تدبير أخطاء رؤية 2006، وكلفة الانخراط في حراك 20 فبراير (شباط)، وغموض ترتيبات ما بعد وفاة الشيخ عبد السلام ياسين.
المؤشر الأول، يحمل معه أزمتين اثنتين، تتعلق الأولى بسؤال تدخل العرفاني في السياسة، وهل يمكن لرؤيا في المنام، أن تصنع حدثا سياسيا؟ وتتعلق الثانية، بسؤال الجواب عن عدم تحقق الرهان.
المشكلة أن الرؤيا التي نالت قبل حلول موعد تحققها جاذبية كبيرة، وتم استقبالها من الداخل التنظيمي بالإذعان والحفاوة والثقة الكاملة في التحقق، واجهت الجماعة بسببها موجة اعتقالات مست عددا من نشطائها، في حين، كان جواب الجماعة عن عدم تحققها في وقتها، مرتبكا، استعان مرة بأدبيات صوفية تبرر إمكان عدم التحقق (عطاء الله السكندري)، أو بتأويل متعسف لمضمون الرؤيا، ولجأ مرة أخرى إلى رواية تنكر تبني الجماعة لها ورهانها عليها.
ومهما يكن أمر هذه الأجوبة واختلافها، فالثابت أن الجماعة استشعرت عزلتها، بعد أن أضعفت رؤية 2006 مفعول كتاب الشيخ ياسين حول الـ"حوار مع الفضلاء الديمقراطيين"، ودعوته إلى ميثاق يجمعه بهم لمناهضة قاعدة الاستبداد في البلاد، كما لم تبدد عزلتها سياستها التواصلية التي كثفتها سنة 2006 تحت مسمى "الأبواب المفتوحة"، فلم تجد الجماعة بدّا من طرح مبادرة أخرى، تنهل من أرضية هذا الكتاب، وتدعو إلى جبهة واسعة من أجل الإنقاذ والخلاص سنة 2007 (جميعا من أجل الخلاص) تلاها وبتزامن معها "نداء حلف الإخاء" الذي أطلقه رئيس الدائرة السياسية عبد الواحد المتوكل. لكن، وكبقية المبادرات، تجسد واقع عزلة التنظيم في تجاهل هذا النداء، وعدم إبدائه أي اهتمام ولو على المستوى الإعلامي.
ومهما يكن من شأن هذه الأزمة (المؤشر الأول)، فإن الجماعة حاولت أن تمتصها بعدة محاولات سواء بإطلاق مبادرة جميعا من أجل الخلاص، أو بتدقيق بعض الأوراق وتجديد هويتها، لكن على عكس هذه الدينامية، لم تنتج أي حراك في مواجهة الأزمتين اللاحقتين (المؤشر الثاني والثالث).
تمثل المؤشر الثاني، في ضعف التقدير السياسي للجماعة لحدث حراك 20 فبراير، ومسايرتها لمنطق اللحظة التاريخية الحاسمة، ومنطق تشابه السياقات (سياق تونس ومصر بسياق المغرب)، وتفضيل خيار المشاركة في الحراك على خيار التريث وانتظار التفاعلات الجارية كما فعل عدد من الحركات. وكان من جراء ذلك، أن واجهت مشكلتين عمقتا من عزلة الجماعة، الأولى، هي تنامي جاذبية التيارات الإسلامية المشاركة (تجربة العدالة والتنمية الذي تصدر نتائج الانتخابات وترأس الحكومة). والثانية، هي عدم تحمل كلفة المشاركة في الحراك، وتفضيل الانسحاب بعد تفجر التناقضات الداخلية بين النهج الديمقراطي القاعدي وبين العدل والإحسان، فصدمت خطوة الانسحاب الداخل في العدل والإحسان، وبرزت صورة التنظيم العاجز عن الإمساك بلحظة الحسم التاريخية، كما برزت صورة القيادة التي أخطأت التقدير السياسي (الخطأ في قراءة قوة وقدرة النظام على المناورة).
يتعلق المؤشر الثالث، بتدبير ما بعد مرحلة ياسين، إذ فضلت الجماعة خيار الانكفاء والبعد عن الإعلام في الإفصاح عن تصورها للمرحلة، ومواجهتها للمشكلة المذهبية التي تطرحها الحاجة للمصحوب الحي (الصحبة)، واختارت اجتهادا نسبته إلى "وصية" عبد السلام ياسين "الصحبة في الجماعة"، مع محاولة الحفاظ على منطق توزيع السلطة بين القيادات التقليدية في التنظيم، والابتعاد عن أي سلوك سياسي يعمق التوتر مع السلطة (بحث عن هدنة)، وذلك للحفاظ على تماسكه من جهة، والقطع مع أي خلاف يمكن أن ينتج سواء باعتبارات مذهبية أو تنظيمية أو حركية أو سياسية، والاعتكاف على أولوية الذات وتحصينها، وهذا ما يبرر اللجوء مرة أخرى إلى الرافعة التربوية واعتبارها أولوية المرحلة.
علامات الأزمة
واضح من هذه القراءة في مسار العدل والإحسان، أن النضج والوهج والإشعاع ارتبط بثلاثة مؤشرات أساسية، أولها توجه الجماعة نحو المسألة الاجتماعية وتغطيتها على ما سواها من المسائل، وبشكل خاص المسألة التربوية، ومواكبة هذا التوجه بأدبيات حوارية تحمل الطابع التبشيري والسجالي، وهو ما أعطى للحركة قوة وحيوية في الاشتباك مع بيئتها السياسية، ثم وجود مساحة معتبرة للقيادات (البشيري) أو القطاعات (القطاع الطلابي) للتحرك باستقلال نسبي عن السلطة المركزية للشيخ. بينما ترتسم مؤشرات الأزمة، في ضعف التقدير السياسي والعجز عن فهم تحولات البيئة السياسية (أخطاء في التعامل مع تحولات السلطة وشرعيتها)، وضعف في تقدير قوة وقدرة الدولة على المناورة (استيعاب حراك 20 فبراير)، ووجود خلافات معتبرة داخل التنظيم حول جدوى الثقافة الصوفية، أو على الأقل، جدوى تدخل العرفاني في السلوك السياسي (رؤية 2006)، ووجود مشكلة هوية مذهبية، تتمثل في عدم إنتاج مفهوم إجماعي داخل الجماعة يجيب عن سؤال نهاية صحبة الشيخ الحي.
يبدو واضحا في سلوك الجماعة، أن علامات الوهج والإشعاع كانت دائما ما ترتبط بالتوسع التنظيمي والحضور السياسي والإعلامي، بينما شكل الانكفاء إلى ما هو تربوي وإعطاء أولوية للتجديد التنظيمي على حساب الأداء السياسي، فضلا عن الحفاظ على منطق توزيع السلطة بين القيادات التقليدية في التنظيم، العلامات البارزة للأزمة.