الكتاب: "حرب الريف 1921- 1926: وجهة نظر إنجلترا للأحداث"
المؤلف: ريتشارد س. بينيل
ترجمة: جواد رضواني
دار النشر: أفريقيا الشرق
الطبعة الأولى 2022
مقدمة:
شكلت حرب الريف مساحة خصبة للدراسات والأبحاث والتقارير الصحفية التي قام بها صحفيون أجانب بعثتهم صحفهم من أجل تغطية الأحداث، فعلى الرغم من تواتر عدد من الكتابات حول هذه الحرب، إلا أن عدم الإفراج عن الأرشيف الإسباني ثم الفرنسي، ترك فراغات كبيرة ومساحات رمادية، يقوم كل جهد بحثي بملأ القليل منها دون أن ينجح في تبديد العتمة الشاملة حولها، ذلك أن الأرشيف الاستعماري الإسباني منه والفرنسي لا يزال بعيدا عن أيدي الباحثين، وهو الذي لا يحتفظ فقط بوثائق تهم الرواية العسكرية الاستعمارية، بل يحتفظ أيضا بوثائق جد مهمة تهم الرواية
المغربية، أو بالأحرى الرواية الريفية، التي قانم الاستعمار الإسباني بطمسها بعد أن سطا على كم هائل من الوثائق والمذكرات والمراسلات التي كانت تنطلق من قيادة المقاومة بالريف إلى مختلف الحكومات والصحف في العالم.
وإذا كان موقع
"عربي21" قد أتاج الفرصة لاكتشاف رواية صحفي أمريكي عاش بين الريفيين (فينسنت شيين في كتابه أمريكي بين الريفيين) وحاول قدر الإمكان نقل روايته "الموضوعية" اعتمادا على المصادر الريفية، فإن ذلك الجهد لا يعدو أن يكون تغطية صحفية لأحداث يراها الصحفي من زاويته، ويكيفها بحسب الرؤية التي تشكلت له عن الأحداث، وانطلاقا من تجربته الخاصة التي كانت محفوفة بكثير من الإكراهات.
وتبقى الكتابات التاريخية ذات الصبغة الأكاديمية جد محدودة. فلم يبتدئ الانشغال والاهتمام بهذه الأحداث المهمة في تاريخ المغرب عربيا وأوربيا إلا مع سنة 1921 عندما لحقت بإسبانيا هزيمة عسكرية ضخمة فجرت الكثير من الجدل على صفحات مختلف الصحف الأوربية والأمريكية، وخلقت أسطورة مقاومة تحريرية مسلحة تعدى صداها كل الحدود، فبقدر ما صارت مصدر إلهام للحركات التحررية في العالم، بقدر ما شكلت منطقة ضغط على الصحف الأجنبية (الحاجة للتغطية الإعلامية من أجل الفهم) وعلى المؤرخين (الحاجة للتواصل مع مختلف الفاعلين للتأريخ للحظة من كل زواياها) وعلى صناع القرار السياسي الغربي الذين تفاجأوا بهذه المقاومة، وكيف استطاعت أن تهزم جيشا غربيا بوسائل المقاومة التقليدية.
والملاحظ أن الدراسات أو التقارير والتغطيات التي تناولت حرب الريف، كانت في أغلبها محكومة بتغطية البعد العسكري في هذه الحرب، وكانت في الأغلب أيضا مستندة إلى الرواية الإسبانية، أي أنها لم تكن في أحسن أحوالها سوى كتابة تاريخ إسباني محض، لا يمت بصلة إلى تاريخ المغرب المحض، وإن كان يغطي جانب مهما من الأحداث التي جرت بشمال المغرب في هذه الحقبة.
وهكذا غلبت على كتابات القادة العسكريين الإسبان مثل قوضاض وأندريس سانشيز بيرز وفرانسيسكو كوميز جوردانا وسوزا طغيان الرواية التي تجلي العقلية العسكرية الإسبانية، كما غلبت على كتابات الجنرال الإسباني داماسو بيرينكر دور المحامي الذي يقدم مرافعة عن الإسبان لتبرير الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسباني سنة 1921. ومع الجهد الذي قام به كل من المؤرخ كارلوس مارتينيز دي كامبوس وشانون فليمينغ، إلا أنهما لم يبتعدا عن تقديم تحليل كرونولوجي للحملات العسكرية للحكومة الإسبانية والجيش الإسباني.
ويندرج ضمن نفس النسق أيضا، ما قام به الضابط العسكري الفرنسي ليون غابريلي، الضابط المسؤول في منطقة تاوريرت (المدينة المغربية القريبة من الريف). فبحكم قربه من الأحداث، ومعايشته لها، فضلا عن دوره في مشاورات السلام مع محمد بن عبد الكريم الخطابي، فقد نجح في تقديم معلومات سياسية مهمة أضفت على التحليل العسكري بعض التميز، وبررت المسافة بين ما كتبه وبين الكتابات السابقة التي تأطرت بحضور المركزية العسكرية الإسبانية في التأريخ للحدث..
في سياق تأليف هذا الكتاب
يندرج هذا الكتاب: "حرب الريف 1921 ـ 1926: وجهة نظر إنجلترا للأحداث" لمؤلفه ريتشارد. س. بينيل ضمن جهد بحثي يروم تجاوز أربعة أعطاب في الكتابات السابقة: أولها، التحرر من الرؤية العسكرية للأحداث، ومحاولة قراءة حرب الريف من زوايا مختلفة، تستحضر مختلف الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاثنية (القبلية)، ومحاولة إدراك التفاعلات التي كانت حاصلة بين هذه الأبعاد وكيفية التعاطي معها أو توظيفها أحيانا (توظيف القبيلة مثلا). والثاني، هو محاولة التحرر من الرواية الإسبانية، والبحث عن وثائق مختلفة إسبانية ومغربية وفرنسية وانجليزية، تقدم جوانب مهمة مما يمكن أن يخدم الحقيقة التاريخية. والثالث، أنها تأتي لتجاوز الصورة الأسطورية التي رسمت عن شخصية محمد عبد الكريم الخطابي، بل وتتجاوز منطق كتابة السيرة البيبليوغرافية (سيرة القديسين) إلى كتابة التاريخ بجميع معطياته وجوانبه. وأما الرابع، فهو أنه يحاول أن يكشف الرواية الإنجليزية للأحداث، ويقطع بذلك مع التصور الجاهز الذي كان يعتبر الموقف الإنجليزي غير معني بقضية الريف وبتفاعلاتها.
ومع أهمية هذه القطائع الأربعة، أو بالأحرى هذا الجهد البحثي الذي حاول استدراك أوجه القصور في الكتابات السابقة، إلا أن الأهم فيه، أنه حاول أن يتجاوز النظرة الأوربية التي تدرس حرب الريف من زاوية تأثير الحرب العالمية الأولى على الدول الأوربية، فحاول بدلا عن هذه المقاربة، أن يركز على حالة الريف، وليس أوربا، وكيف تم تأسيس النظام السياسي الاجتماعي بالريف، وكيف استطاع محمد بن عبد الكريم الخطابي أن يحصل على قيادة المقاومة، وكيف تمكن من الحفاظ عليها وقيادة أتباعه نحو سلسلة من الانتصارات، ثم كيف تجرع طعم الهزيمة في النهاية.
وإذا كان هذا هو المميز في الجانب الموضوعي في الكتاب، فإن الجانب المنهجي يضفي عليه أهمية كبيرة، ذلك أنه تجنب الاعتماد فقط على المصادر الأوربية، وإنما اتجه إلى المصدر الرئيس لبناء الرؤية التاريخية حول الأحداث، أي الأرشيف الذي يضم مجموعة واسعة من الوثائق الغير منشورة، والتي لم يسبق لأحد الوصول إليها، سواء تعلق الأمر بوثائق وزارة الخارجية الفرنسية حول الريف، أو الأرشيف العام بالرباط، والذي يضم ذكريات أحد المشاركين في حرب الريف، وهو محمد أزرقان، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية في حكومة محمد بن عبد الكريم الخطابي، فضلا عن مذكرات محمد بن عبد الكريم الخطابي نفسه.
ثم إن المؤلف، اشتغل على الأرشيف العسكري الإسباني الذي يوجد بالمصلحة التاريخية العسكرية، ويتكون من تقارير استخباراتية يومية، تم التوصل بها من طرف ريفيين خدموا الاستعمار الإسباني طيلة الحرب، إضافة إلى مجموعة من الرسائل التي كتبت من طرف الريفيين أنفسهم، وهي مخطوطة باللغة العربية. كما استفاد المؤلف من أرشيف بريطاني، حكم عليه بأنه أقل أهمية من سابقيه، وهو ما يتوفر عليه مكتب التسجيلات العامة في لندن، ويضم التقارير المتواصلة للقناصل البريطانيين ومساعديهم بمدينتي طنجة وتطوان، والتي تتميز بمواقف مستنكرة للتصرفات الكولونيالية الإسبانية. كما استفاد أيضا من الأرشيف الفرنسي المتواجد بالمصالح التاريخية العسكرية الخاصة بجهاز الدفاع الوطني بمنطقة فانسين قرب باريس، والذي يحتوي على مادة خاصة بالمخابرات العسكرية، تتعلق بفترة انضمام فرنسا إلى الجرب سنة 1925، كما استفاد من أرشيف جريدة التايمز، والأوراق التي أرسلها مراسل الجريدة (والتر هاريس) من مدينة طنجة.
ومع أن تكوين الرؤية التاريخية الموضوعية عن هذه الفترة يتطلب أرشيف الحماية الإسبانية بالمغرب، الذي يتواجد اليوم بمعية أوراق الوزير الأول الإسباني بمكتب رئاسة الحكومة بقلعة هيناريس خارج مدينة مدريد، إلا أن افادة المؤلف من الكم الهائل من الوثائق التي وفرتها الأرشيفات السابقة، سمحت بتجاوز كثير من الأعطاب في الدراسات السابقة، وأعانته على كتابة ما أسماه بـ"تاريخ مؤقت حول حرب الريف" في انتظار أن يتم الإفراج عن هذا الأرشيف الضخم، الذي من شأنه أن يساعد في كتابة تاريخ نهائي لهذه المرحلة المهمة من تاريخ المغرب من تاريخ المقاومة بالريف.
في دراسة المقاومة الريفية
يضم الكتاب اثنا عشر فصلا، مع تقديم عام شرح فيه منهجه في التأليف، إذ شرح في الفصل الأول الظروف العامة التي تفتقت فيها المقاومة، وتوقف على مظاهر تفكك الدولة المغربية، لينتقل في الفصل الثاني والثالث إلى شرح سياق فرض الحماية الإسبانية على شمال المغرب، ليبدأ من الفصل الرابع دراسة المقاومة، وسياق تشكلها بالتركيز على جذورها، وتحليل المقومات التي ساهمت في تحقيقها للانتصار على الجيش الإسباني، إذ توقف المؤلف كثيرا عند أسس بناء الشرعية لدى محمد بن عبد الكريم الخطابي (من العشيرة إلى القبيلة)، وكيف شكلت القبيلة الوحدة الأساسية في بنية المقاومة، وكيف شكل أتباعه، وبنى ثقافتهم وشكل رؤيتهم، وكيف استطاع بناء كاريزميته القيادية، في هذه المنطقة، وكيف استطاع أيضا أن يحصن المكتسبات التي حققتها الانتصارات التي أنجزها، لينتقل بعد ذلك للحديث عن سياق تشكيل حكومة الريف، ونزعات التحديث عند المقاومة الريفية، والعلاقة مع السلطان.
يتوقف المؤلف على الأبعاد السياسية في مشروع محمد بن عبد الكريم الخطابي، وكيف تزاوج البعد السياسي والعسكري في سلوكه في إحداث تحولات كبيرة في الريف، وكيف تطلعت المقاومة لضم قبائل جبالا إلى الريف، والخلافات التي فجرتها بعض القبائل التي رفضت هذه الدعوة، فضلا عن القيادات في بعض القبائل التي تمردت على الهمينة الريفية، ليقف في فصل خاص على العوامل التي فسرت القوة التي اكتسبتها المقاومة الريفية، وأنه على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة، وعلى الرغم أيضا من الخلافات بين المقاومة الريفية وقبائل جبالا، ووجود قيادات متمردة منهم على سلطة حكومة الريف، فقد نجحت المقاومة في جلب دعم هذه القبائل لمواجهة الاحتلال الإسباني، بسبب الشعار الذي كانت تحمله، أي طرح المستعمر الإسباني من شمال المغرب.
يشير المؤلف في مقدمة كتابه للجهد السوسيولوجي التحليلي الذي قدمه أحد الباحثين الأمريكيين (دافييد هارت) الذين درسوا حرب الريف والمقاومة الريفية بالتركيز على معامل القبيلة، لكنه يسجل عليه أنه لم يركز في عمله إلا على قبيلة واحدة، وأنه ملأ كتابه بالملاحظات العامة، مما جعل كتابه في تحليل حرب الريف ذا أهمية جد محدودة.
تظهر أهمية هذه الملاحظة النقدية في الفصلين اللذين كتبهما المؤلف عن إخضاع المقاومة الريفية لقبائل جبالا، ثم عناصر قوة المقاومة (الريف في أوج قوته)، فقد قدم معلومات كثيفة عن القبائل الجبلية، وجدل المكاسب والمضار، ورؤية كل قبيلة للعلاقة مع المقاومة، وكيف كانت تتعامل بمنطقين مختلفين، مجابهة الهيمنة الريفية، وتقديم الدعم لطرد المستعمر الإسباني، وكيف نجحت براغماتية محمد بن عبد الكريم الخطابي في إدماج هذه القبائل في استراتيجية المقاومة لتحقيق النصر على الاستعمار الإسباني.
في القراءة الموضوعية للمقاومة الريفية
تضمن الكتاب في فصله الأخير، أي قبل الملاحق الكثيفة التي ضمها، مناقشة نظرية غنية، حاول فيها المؤلف عرض التفسيرات المختلفة، التي حاولت فهم ظاهرة المقاومة الريفية، فعرض في هذا السياق رأي عبد الله العروي الذي ساير فيه رأي المستشرق الفرنسي ماونتاغن، والتي اعتبر فيه أن هذه المقاومة تشكل المقاومة التقليدية التي ملأت فراغ تراجع السلطان عن مهمة الجهاد ، كما حاول فيها أن يميز بين طبيعة هذه المقاومة بوصفها تمردا قبليا على الاستعمار الإسباني، وبين ظاهرة الحركة القومية الشاملة (حركة حضرية) في الشرق والغرب، والتي كانت تحمل إيديولوجية دينية وسياسية، تحمل أجندة تحريرية في الوطن العربي والإسلامي، كما عرض لوجهة نظر مقابلة، ترى أن حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي تمثل حركة تحرير ذات توجه ديمقراطي، كانت تهدف إلى تحسين أوضاع الناس، وأن حكومته كانت تمثل كيانا سياسيا مؤقتا، لا يناقض شرعية الحكم المركزي (علال الفاسي)، أو أنها حركة ديمقراطية ذات مضمون حداثي كانت تهدف إلى بناء بنية دولة حديثة، ترفض بشكل مطلق أخطاء المخزن السلبية المتعلقة بالسيبة (عبد الرحمان اليوسفي).
ينتقد المؤلف وجهتي النظر هاتين، ويرى أنهما لا تقدمان تفسيرا لظاهرة المقاومة الريفية ويختزلان في الوقت ذاته أبعادها الإيديولوجية والقومية، ويستشهد بهذا الخصوص بمقابلة مع محمد بن عبد الكريم الخطابي نشرت في مجلة المنار التي كان يشرف عليها رشيد رضا تلميذ محمد عبده، والتي تضج بالمفردات التي تعزز انتماء حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي للحركة القومية التحريرية التي تحمل الإيديولوجية الإسلامية لوحدة الأمة ضد الاستعمار. ومع تحفظه على أوجه التناقض الموجودة في هذه المقابلة، وتفسيره لذلك بالطابع البراغماتي لشخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي، وكيف كانت تصريحاته تخضع لموقعه في موازين القوى، إلا أنه أكد على محدودية التفسير الذي يتغافل الجانب الإيديولوجي في قراءة ظاهرة المقاومة الريفية.
الجانب الثاني في هذه المناقشة، والذي يرتبط بسابقه، وهو تحليل طبيعة هزيمة المقاومة، والرواية التي قدمها محمد بن عبد الكريم الخطابي لها، وكونها لا تربط فقط بعوامل خارجية (تحالف الاستعمار الفرنسي والإسباني)، وإنما تعود إلى الذات، أو إلى أزمة في الداخل.
يتوقف الباحث طويلا على رواية محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويستحضر تفسيره السابق الذي يدخل المعامل الإيديولوجي في فهم ظاهرة المقاومة، ويعتبر أن المشكلة التي واججها محمد بن عبد الكريم الخطابي، هو كونه لم ينجح في أن يقنع القبائل بالدخول في سلطته المركزية الموحدة، أو في البناء الدولتي الذي بناه، وأن اقتناعها بشق واحد من رؤيته (البعد الديني ودوره في التحريض ضد الاستعمار) لم يكن كافيا لإقناعها بالدخول ضمن وحدة مركزية تدين بالولاء للسلطة الريفية (الوطن)، وأن سبب ذلك، يعود لجدل الإيديولوجيا والمصالح والنفوذ، فقيادات القبائل وبعض الشرفاء (زعامات الزوايا وشيوخها) رغم اقتناعها بالبعد الديني في الصراع وضرورة طرد المستعمر، إلا أنها لم يكن مستعدة للتنازل عن مصالحها ومواردها ومساحات نفوذها كما أن محمد بن عبد الكريم الخطابي، لم ينجح في تحقيق المعادلة المزدوجة: الهيمنة على القبائل وتوحيدها، مع تحصين موارد ومصالح ونفوذ هؤلاء القيادات، مما سرع في تفكك جبهته الداخلية، مما سهل على التحالف الفرنسي والإسباني هزم المقاومة والقضاء على أسطورتها.