تحولت جزيرة جربة في الجنوب
التونسي إلى معزل مغلق أمنيا لحماية الوفود
المشاركة في قمة
الفرانكفونية. يراهن النظام على القمة لتقديم صورة نظام منفتح
سياسيا ومقبول دوليا على خلاف ما يروج معارضو الانقلاب، لكن التونسيين الذين
أدمنوا السخرية السوداء يقولون سنتابع خطاب الرئيس وسيهدم بنفسه دون تدخل من
المعارضة كل آماله التي يعلقها على القمة، إذ يكفي أن يتكلم لينكشف مثلما ما فعل
في قمة جامعة الدول العربية في الجزائر. هناك عرف العرب فصاحته وعقله السياسي
وعادوا مشفقين على الشعب التونسي، وفي قمة الفرانكفونية سينكشف لبقية العالم. لكن
هذا عرض فحتى لو ملك هذا الرئيس فصاحة الزعيم بورقيبة، أحد مؤسسي القمة، فنحن نطرح
هنا السؤال العملي على خطى البروفيسور المؤرخ محمد ضيف الله: ماذا يمكن أن تقدم
هذه القمة لتونس في الوقت الراهن؟
قمة لخدمة فرنسا
هذا ليس اكتشافا منذ تأسيس هذه القمة لتجميع الدول الناطقة بالفرنسية، وهي
في الحقيقة كلها مستعمرات فرنسية سابقة بما في ذلك مقاطعة الكيبك الكندية. لم تقدم
هذه المنظمة سوى خدمة واحدة مهمة لفرنسا، هي الإبقاء على لغتها وثقافتها في أنظمة
التعليم والثقافة والإدارة في هذه البلدان. لم ترتق هذه المنظمة إلى مستوى منظمة
الكومنولث التي تجمع بلدانا تنطق الإنجليزية وتدور في فلك التاج البريطاني، والتي
خرجت في مجملها من دائرة البلدان الفقيرة وتحول بعضها إلى بلدان أقطاب مثل الهند
وجنوب أفريقيا.
لم تقدم منظمة الفرانكفونية منذ تأسيسها أي مساعدات تنموية نوعية لأي بلد من البلدان المنخرطة فيها، فحتى في تعليم الفرنسية تكتفي المنظمة بالتدخل في نوعية البرامج والدروس وحجم ساعات التدريس، بينما تعاني البلدان كلفة هذه الدروس من موازناتها
لم تقدم منظمة الفرانكفونية منذ تأسيسها أي مساعدات تنموية نوعية لأي بلد
من البلدان المنخرطة فيها، فحتى في تعليم الفرنسية تكتفي المنظمة بالتدخل في نوعية
البرامج والدروس وحجم ساعات التدريس، بينما تعاني البلدان كلفة هذه الدروس من
موازناتها، فهي تعلّم لغة غيرها بحرّ مالها وهي الفقيرة دون أن تتلقى أي دعم.
توفر المنظمة دعما للإنتاج السينمائي وتتدخل في السيناريو فتفرض رؤيتها
الحداثية، ويحتل موضوع الجنس والمثلية موضوعا أثيرا في السينما التي تدعمها.
وتعتبر السينما التونسية مثالا صارخا على الولاء للثقافة الفرنسية، في انقطاع كامل
عن الهموم المحلية والمرجعيات الثقافية الوطنية، دون أن نغفل أن أكبر المخرجين
تلقوا تعليمهم وخبرتهم في فرنسا لكن على نفقة الدولة التونسية، لينتجوا ثقافة
فرنسية لم يمكن إنتاجها تحت الاحتلال المباشر.
هناك خطاب معاد لفرنسا يسري في منطقة المغرب العربي وأفريقيا، وقد عبرت
فرنسا عن قلقلها خاصة بعد الحالة الرواندية وما حرّكته من آمال انعتاق من فرنسا
وثقافتها. وهذه القمة في تونس بالذات تعقد للرد على هذا الشعور العام المعادي لفرنسا
وثقافتها، قمة تعلن أن لا خلاص من فرنسا فهي قدر المنطقة، لكن ماذا يمكنها أن تقدم
للنظام التونسي الحالي؟
هناك خطاب معاد لفرنسا يسري في منطقة المغرب العربي وأفريقيا، وقد عبرت فرنسا عن قلقلها خاصة بعد الحالة الرواندية وما حرّكته من آمال انعتاق من فرنسا وثقافتها. وهذه القمة في تونس بالذات تعقد للرد على هذا الشعور العام المعادي لفرنسا وثقافتها
النظام التونسي يحتاج الفلوس
العالم القريب والبعد يشاهد أزمة نظام الانقلاب والحفرة الاقتصادية التي
تردى فيها ولا يجد سلّما للخروج. هناك يقين بأن النظام محاصر من المؤسسات المالية
المؤثرة بالنظر إلى ارتفاع المديونية وثبوت العجز عن الدفع، لذلك فإن
هدفه الحالي
من القمة هو أن يثبت مقبولية سياسية في الخارج وأن يتدبر بعض الدعم المالي بناء على
ذلك، لكن هذا النظام الجاهل يجهل فعلا أن هذه القمة تجتمع فيها بلدان فقيرة بل
أفقر من تونس وليس لديها إلا الصبر وانتظار العطف الفرنسي.
إن مؤسسات الإقراض الدولية غير معنية بنشر الثقافة الفرنسية، لذلك فكسر
الحصار السياسي لا يؤدي إلى كسر الحصار المالي. إن بلدا مثل كندا (وهو أغنى الدول
المشاركة تحت الضغط الفرنسي) يدور في فلك المواقف الأمريكية يعرف جيدا أنه لا
يمكنه تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية لدعم نظام الانقلاب، لذلك فإن الاحتمال
الوحيد للدعم من كندا لن يتجاوز مساعدات ظرفية ستكون أقرب إلى المجاملات السياسية
أو الصدقة، وهو تقليد كندي.
لقد خططت فرنسا لعقد القمة في تونس قبل الانقلاب، لكن الانقلاب أفرغ القمة
من مضمونها قبل انعقادها (لن نستعيد هنا الأخبار الثابتة عن التلاعب بالدعم الذي
تلقته تونس لتنظيم القمة والذي أدى إلى تأجيلها). لقد وضع الانقلاب فرنسا في موضع
يحرجها في الساحة الدولية، فهي الدولة الوحيدة التي تحمي الانقلاب من السقوط في
الوقت التي كانت تخطط لتروج لوجهها الديمقراطي في أفريقيا المتمردة.
وضع الانقلاب فرنسا في موضع يحرجها في الساحة الدولية، فهي الدولة الوحيدة التي تحمي الانقلاب من السقوط في الوقت التي كانت تخطط لتروج لوجهها الديمقراطي في أفريقيا المتمردة
سنرى في القمة على وجه الرئيس الفرنسي نفس تعبير الاستياء والتقزز الذي
رأيناه عندما قبّل الرئيس التونسي كتفيه، مخالفا أكثر من قرن من البرتوكول
الدبلوماسي الفرنسي. لن يخرج المنقلب بأية مكاسب سياسية واقتصادية من قمة جربة..
فلوس ما فيش.
أما المعارضة التونسية فلا تختلف
عن الانقلاب
المعارضة التونسية للانقلاب لن تكسب من القمة أية تقدم سياسي ضد الانقلاب،
لأنها معارضة تنسق مواقفها مع فرنسا، وفي أقل الاحتمالات سوءا هي تخشى فرنسا ولا
تظهر لها أية معارضة جادة، لذلك فإنها ترفع الصوت ضد الانقلاب ولا تنبس بأية جملة
مفيدة ضد القمة التي تكرس دور فرنسا في تونس.
لا أتحدث هنا عن المعارضة التي صنعتها فرنسا وتوجهها بالريموت كنترول،
وأعني بها الخماسي الذي زعم احتكار الديمقراطية والتقدمية، لكني أعاين صمت جبهة
الخلاص ومن ورائها حزب النهضة فأجد أن الجميع يصمت ويجتنب الحديث عن القمة وعن
جدواها.
لقد عقدت المعارضة اجتماعات في قلب باريس لمعارضة انقلاب صنعته باريس، دون
أن تشير إلى دور باريس ولو بكلمة عابرة. وهو ما يكشف هشاشة موقف المعارضة الآني
والمستقبل تجاه المحتل الفرنسي الذي يغير وجهه ولا يغير استراتيجيته.
المعارضة التونسية تجبن أمام فرنسا أو هي في أحسن الحالات تجهل الدور الفرنسي ولا تبني خططها النضالية ضده. إن تحليلها قاصر لأنها تعمل على انقلاب محلي وهو في الأصل انقلاب موجه ومدعوم من فرنسا، وكل المؤشرات تتضافر لتؤكد كل يوم أن ما يجري بتونس هو من عمل المحتل القديم
المعارضة التونسية تجبن أمام فرنسا أو هي في أحسن الحالات تجهل الدور
الفرنسي ولا تبني خططها النضالية ضده. إن تحليلها قاصر لأنها تعمل على انقلاب محلي
وهو في الأصل انقلاب موجه ومدعوم من فرنسا، وكل المؤشرات تتضافر لتؤكد كل يوم أن
ما يجري بتونس هو من عمل المحتل القديم. ونحن نعرف أن المعارضة تتهم كل من يشير
إلى دور فرنسا بالمزايدة السياسية، ونعرف أن لديها جُملا من قبيل "المعركة في
الداخل وليس ضد أي جهة خارجية"، وهذه الجملة بالذات هي عنوان الخطأ السياسي
منذ سنوات طويلة، وليس فقط منذ الثورة.
لقد تم تهريب القمة إلى جزيرة بعيدة في الجنوب، والمعارضة الفقيرة لا يمكنها
اللحاق بها للتظاهر والاحتجاج على غرار الاحتجاج على قمة المعلومات سنة 2005 ضد ابن
علي ونظامه، لكننا نظن يقينا أن معارضة الانقلاب تنفست الصعداء فقد أراحها
الانقلاب من الاحتجاج عليه أمام أنظار الوفود. وربما شكرت المعارضة قطر لأنها شغلت
العالم بالتظاهرة الكروية، فخففت من اهتمام الجمهور بقصورها وعجزها.
نختم بلا سخرية سوداء: قمة ولدت ميتة وسيجهز عليها الرئيس بخطاب لن يسمعه
الضيوف إلا تحت ضغط البروتوكول الدبلوماسي.. لنتابع كأس العالم..