هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في يوليو الماضي، كشفت إدارة الرئيس بايدن عن نيّة إيران تسليم مسيّرات إيرانية إلى روسيا في خضم الحملة العسكرية الروسية ضد أوكرانيا. وأشارت المعلومات الاستخباراتية التي نُشرت حينها وتمّ دعمها بصور جويّة إلى أنّ وفداً عسكرياً وتقنيّاً روسياً كان قد زار إيران مرّتين على الأقل لرؤية المسيرات الإيرانية وتقييم مدى حاجتهم إليها. وقد حذّر الجانب الأمريكي إيران من أنّ استخدام المسيّرات سيعدّ تصعيداً من قبلها وخرقاً للقرارات الدولية.
من جانبها، نفت طهران بشكل متكرّر على لسان مسؤوليها ومن بينهم الناطق باسم خارجيتها أن تكون قد زوّدت روسيا بأي مسيّرات إيرانية من أجل أن يتم استخدامها في أوكرانيا، بل وذهبوا أبعد من ذلك للقول بأنّ إيران لن تُقدّم أبداً مسيرات إيرانية إلى روسيا مستقبلاً. لكن، ما إن بدأت دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا بالمطالبة بفتح تحقيق أممي في الموضوع، وقامت الولايات المتّحدة بفرض عقوبات على العديد من الشركات الإيرانية، حتى تراجع الجانب الإيراني عن موقفه السابق وأقرّ علناً بإرساله مسيّرات إلى روسيا، لكنّه ادّعى أنّه قام بإرسال هذه المسيرات قبل الحرب ضد أوكرانيا وبالتأكيد ليس لغرض استخدامها هناك.
أثار هذا الأمر زوبعة من النقاشات حول المسيرات الإيرانية في الفضاء العام، لكنّ المثير للاهتمام أن المبالغات المتعلقة بقدرات الميسّرات الإيرانية ضغط على هذا النقاش وسيطر عليه فريقان من المفترض أنّهما متناقضان: التيّار الأوّل هو تيّار الموالين لإيران والحكومة الإيرانية ممّن روجوا لقدرات المسيّرات الإيرانية انطلاقاً من دافعهم الأيديولوجي أو القومي. ومن السخرية بمكان أنّ البعض ممّن ينتمون إلى هذا التيار كانوا قد أنكروا سابقاً أن تكون المسيرات الإيرانية هي التي ضربت منشآت التكرير السعودية عام 2019، لكنّهم يقولون الآن إنّ الضربة تمت بالفعل من قبل المسيّرات الإيرانية، ويستخدمون هذه الحالة الآن كدليل على تقدّم التقنيّات المستخدمة في هذه المسيّرات الإيرانية على حدّ زعمهم.
أمّا التيّار الثاني، فهو التيّار المعادي للسياسات الإيرانية إقليميا ودولياً. والمفارقة أنّ هذا التيّار قام أيضاً بتضخيم خطر المسيّرات الإيرانية ليس للافتخار بقدرات إيران بطبيعة الحال كما فعل التيّار الأوّل، وإنما لتسليط الضوء على الدور الإيراني وتحريض القوى الدولية على التصدّي السريع للانخراط الإيراني في الحرب ضد أوكرانيا، ومنع النظام الإيراني من تطوير قدراته بناءً على الخبرة الميدانية هناك لاستخدامها في مسارح أخرى في الشرق الأوسط.
وفقاً للمعلومات الاستخبارتية التي قدّمتها أوكرانيا، فإنّ غالبية أجزاء المسيرات الإيرانية التي تمّ استخدامها في أوكرانيا مصنّعة في حقيقة الأمر من قبل شركات أمريكية وكندية وأوروبية ويابانية بل وحتى إسرائيلية.
لا يهدف المقال إلى التقليل بطبيعة الحال من خطر المسيّرات الإيرانية لكنّه في المقابل لا ينجرف مع المبالغات التي طغت في الغالب على الصحافة والإعلام العالميين والنقاش العام. المسيرات الإيرانية في نهاية المطاف تقتل، ولذلك فإنه بغض النظر عن مدى تخلّفها أو تطوّرها، فهي تعتبر خطراً كغيرها من المخاطر المتعلقة بالمسيرات بما في ذلك تلك التي تستخدمها مجموعات مسلّحة ذات قدرات متواضعة.
وفقاً للمعلومات الاستخبارتية التي قدّمتها أوكرانيا، فإنّ غالبية أجزاء المسيرات الإيرانية التي تمّ استخدامها في أوكرانيا مصنّعة في حقيقة الأمر من قبل شركات أمريكية وكندية وأوروبية ويابانية بل وحتى إسرائيلية. ففي تقرير نشرته صحيفة وول ستريت جورنال، عزت الصحيفة إلى المخابرات الأوكرانية قولها إن ثلاثة أرباع مكونات المُسيرات الإيرانية التي أُسقطت في أوكرانيا هي مكوّنات أمريكية الصنع، وذلك بعد تحليل أجزاء المسيرات التي نجحت في إسقاطها، منها واحدة من طراز "مهاجر 6" جرى اختراق برنامجها أثناء الطيران وإنزالها بشكل سليم كلياً.
الميسّرات الإيرانية لا تمتلك سجّلاً من الخبرة الحقيقية في الميادين القتالية، ولم يتم اختبارها بشكل حقيقي بعد. تجاربها السابقة في لبنان والعراق وإثيوبيا كانت فاشلة. فضلاً عن ذلك، فإنّ هذه المسيرات ولاسيما الانتحارية منها تهاجم في الغالب أهدافاً ثابتة وضعيفة وليست متحرّكة أو حصينة، وذات طابع مدني وليس عسكريا، وأهدافا ليست لديها أي أهمّية استراتيجية من الناحية العسكرية، وهو ما يجعلها بمثابة سلاح تخريب أو رفع تكلفة في أحسن الأحوال، وليس سلاح تغيير الموازين أو تغيير قواعد اللعبة.
ويُشكّل الميدان الأوكراني ساحة الاختبار الحقيقيّة الأولى للمسيرات الإيرانية. وبالرغم من أنّها تتكوّن في غالبيتها من مكوّنات غربية، فإنّ أداء هذه المسيّرات كان أبعد ما يكون عن السمعة التي حاول البعض الترويج لها. والسلطات الأوكرانية قالت إنّها استطاعت تفادي 85% من الهجمات التي استخدمت فيها مُسيرات إيرانية وأنّها أسقطت حتى الشهر الماضي أكثر من 300 مسيّرة "شاهد 136". وعملياً، فلا يبدو أنّ المسيّرات الإيرانية غيّرت من الحسابات القائمة لأي من الأطراف، فلا هي ساعدت روسيا على تحقيق أهدافها، ولا هي كسرت عزيمة الأوكرانيين على التصدّي لها ولموسكو.
معظم أهداف المسيرات الإيرانية هي منشآت مدنية ضعيفة وغير حصينة، أمّا ضحايا هذه المسيرات، فهم في أغلبهم من المدنيين العزّل. نعم، باستطاعة المسيّرات الإيرانية أن تُخرّب وتقتل، لكن ليس هذا هو معيار الحكم بتقدّمها تقنيا أو عسكرياً في نهاية المطاف. وبغض النظر عن كل ما قيل أعلاه، فإن هناك حقيقة واحدة وهي أنّه منذ أن استخدمت روسيا هذه المسيّرات وهي في تراجع وانسحاب الواحد تلو الآخر من مناطق في شرق وجنوب شرق أوكرانيا. ليس المراد القول هنا إنّها السبب في ذلك، بل التأكيد على أنّ استخدامها لم يحقق لموسكو أيا من أهدافها الاستراتيجية ولم يغيّر من المعادلة.