بعد
أن تأجل عقد القمة
الفرنكفونية مرتين (سنتي 2020 و2021)، وبعد أن حامت العديد من الشكوك حول
إمكانية تغيير مكان تنظيمها (بحكم الأزمة السياسية في
تونس بعد انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021)، قررت الدول الأعضاء تأجيل القمة لسنة 2022، مع المحافظة على مكان/ وتاريخ الانعقاد نفسيهما.
وهي رسالة سياسية واضحة أظهرت
دعم المنظمة الفرنكفونية للنظام التونسي، أو على
الأقل عدم رغبة فرنسا (الدولة الأهم في المنظمة) بإحراج الرئيس
قيس سعيد وإضعاف
موقفه داخليا وخارجيا. ولكنّ الرسالة السياسية الأهم كانت في الإبقاء على تاريخ القمة
الفرنكفونية، رغم أنه يتزامن مع تنظيم قطر لكأس العالم في كرة القدم. ولا شك عندنا
في أن هذا القرار لم يكن "عفويا"، فترشح تونس وفرنسا مثلا إلى قطر كان
يقتضي "ديبلوماسيا" حضور رئيسيهما في حفل الافتتاح، ذلك الحفل الذي حضره
زعماء لم تترشح بلدانهم إلى نهائيات كأس العالم (مثل رؤساء
تركيا ومصر والجزائر والأردن).
إننا
أمام مواقف سياسية وانحيازات/ متغيرات إقليمية، تصرّ فيها فرنسا وحلفاؤها على إظهار
نوع من البرود أو العداء الديبلوماسي لقطر وكذلك لتركيا، مع الحرص على
"الانفتاح" المحتشم -لكن الممنهج والثابت- على الكيان الصهيوني.
إن
اختيار النظام التونسي
لجزيرة جربة مكانا لعقد
القمة الفرنكفونية لم يكن هو الآخر
اختيارا عفويا، فبعد أن سمحت السلطات التونسية لحاملي الجنسية
"
الإسرائيلية" بتنظيم رحلات مباشرة بين الكيان وتونس باستعمال جوازات
سفرهم العادية (وهو أمر أكده سامي الطاهري عضو المركزية النقابية وأحد أشهر مناصري
"تصحيح المسار")، وبعد حديث الصحافة الإسرائيلية عن مفاوضات مباشرة بين
تونس والكيان الصهيوني، وبعد مشاركة تونس في مناورات عسكرية أمريكية أفريقية إلى
جانب "إسرائيل"، يبدو أن اختيار جزيرة جربة لعقد قمة الفرنكفونية قد جاء
لتعزيز مسار "التطبيع"، الذي نميل إلى اعتباره شرطا "سريا"
للدعم الدولي للنظام التونسي (بالتوازي مع شرط تنفيذ إملاءات صندوق النقد
المعروفة).
إننا أمام مواقف سياسية وانحيازات/ متغيرات إقليمية، تصرّ فيها فرنسا وحلفاؤها على إظهار نوع من البرود أو العداء الديبلوماسي لقطر وكذلك لتركيا، مع الحرص على "الانفتاح" المحتشم -لكن الممنهج والثابت- على الكيان الصهيوني
للوقوف
على طبيعة المكاسب المتوقعة لتونس من القمة الفرنكفونية، يمكننا أن ننطلق من عنوان
الجلسة الافتتاحية لتلك القمة: "التواصل في إطار التنوع: التكنولوجيا الرقمية
كرافد للتنمية والتضامن في الفضاء الفرنكفوني". ولا شك في أن أي شخص له
القليل من العلم بالعربية سيفهم أن هذا العنوان هو مجرد ترجمة ركيكة للعنوان
الأصلي باللغة الفرنسية. فقد حرصت تونس على "الامّحاء" اللغوي أمام
الحدث الفرنكفوني، بدءا من اللافتات وانتهاء بكلمة الرئيس في افتتاح القمة.
إننا
فعلا أمام تنوع في الانتماءات والألوان واللغات، ولكنه تنوع مؤطر باللغة الفرنسية (أي
بمصالح فرنسا الاقتصادية، التي لا تنفصل عن الهيمنة اللغوية والثقافية)، كما أننا
أمام "تواصل" لغوي وثقافي يُصادر على قدرة الفرنسية على المحافظة على
دورها التنموي والتضامني في زمن التكنولوجيا الرقمية. إننا أمام مصادرة على
المطلوب تنقضها كل المعطيات الموضوعية، التي تشير إلى أن فرنسا ذاتها قد صارت مهددة
بغزو اللغة الإنجليزية، كما تشير إلى الدور المحدود للغة الفرنسية في عالم البحوث/
الصناعات الرقمية المتطورة، وهامشية حضورها على الشبكة العنكبوتية مقارنة باللغات
الأخرى.
رغم
إصرار الجانب التونسي على التضخيم من المكاسب الآنية والمتوقعة من القمة
الفرنكفونية (تنشيط السياحة بجربة والترويج للسياحة التونسية بصفة عامة)، ورغم بعض
المكاسب القليلة (
قرض فرنسي لتونس بـ200 مليون يورو)، فإن الرابح الحقيقي من القمة
الفرنكفونية هو النظام الحاكم وليس الشعب التونسي. فهذه القمة لم تدفع فرنسا مثلا
إلى مراجعة التقييدات التي تضعها على تأشيرات الدخول للتونسيين، كما أن النظام
التونسي لم ير فيها مناسبة للدعوة إلى مراجعة الديون أو تحويلها إلى استثمارات.
فالأهم بالنسبة إلى الرئيس قيس سعيد والنواة الصلبة للمنظومة الحاكمة التي تسنده، هو
كسر العزلة السياسية وتقليص الآثار السلبية لبعض المواقف القارية -مثل قرار
المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب بإلغاء الأمر الرئاسي عدد 117، واعتباره مخالفا للدستور وقوانين البلاد،
وتأكيد انحياز النظام الحاكم في تونس لفرنسا ومصالحها الثقافية والاقتصادية في الإقليم، أسوة بكل الأنظمة الحاكمة قبل الثورة وبعدها.
لم
يجانب الديبلوماسي السابق أحمد ونيس الصواب عندما اعتبر الفرنكفونية خيارا أساسيا
للدولة الوطنية منذ عهد الزعيم الراحل بورقيبة، وهو خيار ما زال النظام التونسي
يصرّ عليه رغم سردية "التأسيس الثوري الجديد". ويقوم هذا الخيار
الاستراتيجي في مستوى التسويغ السياسي على "عدم التنكر للثقافة واللغة
الفرنسية، دون أن يكون ذلك على حساب الثقافة العربية الإسلامية".
ولا
شك عندنا في أن هذا "التبرير" هو ضرب من المغالطة الأيديولوجية والتزييف
التاريخي، فالفرنسية ليست مجرد "أداة" لغوية محايدة (هي أداه هيمنة
ثقافية واقتصادية)، والفرنكفونية -كما تثبت الوقائع والأرقام- لم تكن يوما تكتلا
لغويا اقتصاديا يراد منه مصاحبة الدول الأفريقية في مشاريع التحديث والتنمية، بل
كانت أداة فرنسا للمحافظة على مصالحها وتحويل "الاستقلال الصوري" للدول
الأفريقية إلى مرحلة
استعمار غير مباشر (تواصل النهب المنظم للثروات الأفريقية،
ودعم الأنظمة السياسية الفاسدة، وإفشال أي مشروع للتحرر الوطني وقطع الحبل السري
الاستعماري مع باريس).
رغم
أننا نجد العديد من الحجج التي تطعن في مشروع الرئيس أو "التأسيس الثوري
الجديد" (تواصل الاعتماد على الرساميل البشرية للمنظومة القديمة، عدم المس
بمصالح المركّب المالي- الأمني- الجهوي الحاكم قبل الثورة وبعدها، مواصلة الصراعات
الهوياتية والمحافظة على الخيارات الاقتصادية والثقافية الكبرى للمنظومة الحاكمة
قبل الثورة.. إلخ)، فإننا نجد في استمرار التبعية لفرنسا أعظم حجة تنسف سردية
الرئيس وتنقضها. إننا أمام مشروع سياسي يحمل تناقضه الداخلي الأهم في إنكاره
المتعمد للانفصال الواقعي بين "السلطة" (سلطة اتخاذ القرار في المستوى الدولي)، وبين السياسة (أي نظام الحكم الذي فقد سلطته وأصبح مجرد أداة تنفيذ لقرارات السلطة
العابرة للقارات، التي تمثلها المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد وغيره).
فكيف
يمكن الحديث عن "تأسيس جديد" في سردية تتماهى مع الرؤية الفرنسية
للتاريخ (اعتبار الاستعمار حماية)، وتحرّض المستعمر على عدم الاعتذار عن جرائمه في
تونس وغيرها، (بدعوى أنّ "من يعتذر يتهم نفسه")؟ بل كيف يمكن أن نتحدث عن
"سيادة وطنية" في سردية تعتذر لهذا المستعمر السابق عن مواقف بعض النواب
الداعين إلى تصحيح العلاقة بفرنسا، وتصرّ على إسناد فرنسا في كل مواقفها الإقليمية
(الموقف من حكومة طرابلس والموقف من قطر، الإبقاء على موعد القمة، رغم تزامنه مع
تاريخ معلوم لتنظيم كأس العالم لكرة القدم، وتركيا باستعمال مثل أرمني، وهو ما
يعكس الانحياز من طرف خفي إلى فرنسا في موقفها المعادي لتركيا، الذي عبّر عنه
قانون تجريم إنكار الجرائم الإبادة الجماعية ضد الأرمن سنة 1915،
وهو القانون الذي يشبه قانون تجريم معاداة السامية، أو إنكار المحرقة اليهودية في
الحرب العالمية الثانية)؟
عكست القمة الفرنكفونية انحياز تونس الاستراتيجي لفرنسا ومصالحها في الإقليم والقارة، مع المحافظة على واقع التبادل اللامتكافئ بين باريس والضفة الجنوبية للمتوسط ومجمل القارة الأفريقية، وهو انحياز يعكس سيطرة القوى الفرنكفونية على مقاليد الحكم في تونس، رغم الثورة أو ضد روحها التحررية، بل يعكس تبعية الرئيس لهذه القوى، بصرف النظر عن المزايدات والشعارات "التصحيحية" أو "الثورية"
لقد
عكست القمة الفرنكفونية انحياز تونس الاستراتيجي لفرنسا ومصالحها في الإقليم
والقارة، مع المحافظة على واقع التبادل اللامتكافئ بين باريس والضفة الجنوبية
للمتوسط ومجمل القارة الأفريقية، وهو انحياز يعكس سيطرة القوى الفرنكفونية على
مقاليد الحكم في تونس رغم الثورة أو ضد روحها التحررية، بل يعكس تبعية الرئيس لهذه
القوى بصرف النظر عن المزايدات والشعارات "التصحيحية" أو
"الثورية". وتكمن أهمية هذه القمة في أنها تأتي في وقت تواجه فيه فرنسا تحديات
اقتصادية وثقافية وعسكرية، تهدد وجودها ذاته في العديد من بلدان القارة السمراء، وكذلك
في وقت تزداد فيه عزلة النظام التونسي ومشاكل "شرعيته" (بعد قرار
المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب).
وإذا
كان النظام التونسي يعلم جيدا أنه قد خسر جزءا كبيرا من قاعدته الشعبية بعد قبوله
بإملاءات صندوق النقد الدولي، وما تعنيه من تراجع في المقدرة الشرائية وتضخم في أسعار
المواد الأساسية والمحروقات، فإن فرنسا تعلم هي الأخرى أنها أمام فرصة تاريخية
لمواجهة "تمرد الأفارقة"، وذلك باتخاذ تونس (وهي ما زالت في الوعي الاستعماري
"حديقة خلفية" لفرنسا)، قاعدة إقليمية وقارّية للفرنكفونية، باعتبارها
أداة للهيمنة والاستعمار غير المباشر.
وبصرف
النظر عن المحصول الواقعي للتعاون داخل المنظمة الفرنكفونية منذ عقود، فإن في
رمزية الصورة التي اختارتها بعض الصحف الفرنسية للحديث عن القرض الفرنسي لتونس دون
عشرات الصور الأخرى (صورة الرئيس التونسي أمام نظيره الفرنسي في
وضعية غير لائقة
ديبلوماسيا)، ما يُغني عن ألف عبارة في توصيف الرؤية الفرنسية لمعنى "الشراكة"
و"التعاون" و"الاحترام" من منظور الاستعمار
الجديد.
twitter.com/adel_arabi21