تُعد
فلسفة الدين حقلا من حقول الدراسات الفلسفية، في الثقافات والأكاديميات الغربية، وهي تُعنى بممارسة التفكير الفلسفي في دراسة العقائد والظواهر الدينية، بمنهجية تجعل العقل حاكما ومرجعا في دراسة تلك العقائد والظواهر، فهي تتعاطى مع الفكر الديني بمنظار عقلاني محض، يكون فيها العقل هو سيد نفسه ولا سلطان عليه من خارجه.
للدين منطق آخر مغاير، فهو يقوم على الإيمان، بكل ما يقتضيه من قبول وتسليم بحقائق إيمانية غيبية معينة، قد لا يكون للعقل فيها أي مدخل، من هنا نشأت الاختلافات بين الدين والفلسفة، فالعقل المشبع بالمعرفة الدينية يسجد في محراب الإيمان طائعا ومسلما، ويقبل عقائده الغيبية وتشريعاته الدينية بقناعة تامة، بينما العقل المجرد مقطوع عن عالم الغيب، لا يقبل بعقائده، ولا يسلم بشرائعه، وقد يعد ذلك ضربا من ضروب الخرافة والتخلف.
فلسفة الدين نشأت في بيئات ثقافية غربية، لها أصولها ومنهجيتها الخاصة بها، وتُعنى بـ"التفسير العقلاني للموضوعات الدينية بالفحص الحر للأديان، والكشف عن طبيعة الدين من حيث هو دين، أي عن الدين بشكل عام من حيث هو منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة" كما يعرفها أستاذ فلسفة الدين والأخلاق في كلية الآداب، بجامعة بغداد، الدكتور إحسان الحيدري في كتابه (فلسفة الدين في الفكر الغربي).
إحسان الحيدري.. أستاذ فلسفة الدين والأخلاق في كلية الآداب، بجامعة بغداد
وتابع الحيدري تعريفه لها في بحثها للدين: "من حيث هو نمط للتفكير في قضايا الوجود، وامتحان العقائد والتصورات الدينية للألوهية والكون والإنسان، والبحث في الطبيعة الكلية للقيم والنظم والممارسات الدينية، ونمط تطور الفكر الديني عبر التاريخ، وتحديد
العلاقة بين التفكير الديني وأنماط التفكير الأخرى للوصول إلى تفسير كلي للدين يكشف عن منابعه في العقل والنفس والطبيعة، وأسسه التي يقوم عليها، وطبيعة تصوره للعلاقة بين المتناهي واللامتناهي، والمنطق الذي يحكم نشأته وتطوره واضمحلاله".
ووفقا للحيدري فإن "فلسفة الدين تعد مبحثا قديما جديدا، قديما بجذوره التي تمتد امتداد الصلة بين الدين والفلسفة في فجر الفلسفة اليونانية، جديدا في تكامله بوصفه مبحثا مستقلا له أصوله، ويعرف بميزاته أيام صدور كتاب الفيلسوف الألماني كانط الموسوم بـ"الدين في حدود العقل وحده" أما من حيث التسمية فكان الظهور الأول لها على يد هيجل في كتابه الذي جمعه طلابه بعد مماته الموسوم بـ"محاضرات في فلسفة الدين".
ولفت الحيدري إلى أن فلسفة الدين تستعين لتحقيق ذلك بمنجزات العلوم الإنسانية والاجتماعية، مثل علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني، وعلم أنثروبولوجيا الدين وعلم فينومينولوجيا الدين، وعلم تاريخ الأديان، وعلم الأديان المقارن، لكنها لا تقبل نتائج هذه العلوم قبولا مطلقا، بل تختبرها وتمحصها؛ للتمييز بين اليقيني والمحتمل منها، وتستعين كذلك بنتائج العلوم الطبيعية التي دخلت حيز الثبوت لا التي تزال في طور الفروض والنظريات مثل علم الأحياء والفيزياء والفلك وغيرها".
وأردف كما أنها "تستعين بها في تقويم العقائد الدينية المتعلقة بطبيعة الإنسان والعالم، وتنتهج فلسفة الدين المنهج العقلاني في دراسة الدين.." مشيرا إلى أن طبيعة العلاقة بين الدين والفلسفة، والتي "يعدها بعضهم جبهة للقتال بين الطرفين، وأرضا محرمة، لكن من يعايشها عن قرب يجد وضعا مغايارا لما سمِع، فالمشتركات بين الجانبين كثيرة، ونقاط الخلاف بينهما لا تُفسد للود قضية؛ على أن تتفتح عقلية رجل الدين ويتزن الفيلسوف" على حد قوله.
في ضوء تلك العلاقة الشائكة والوعرة بين الدين والفلسفة، وما بينهما من اتصال وانفصال، هل لـ"فلسفة الدين" حضور في المجال التداولي الإسلامي؟ وهل يمكن اعتبار ذلك الاتجاه، إن وجد، مؤسسا لتيار ما يسميه بعضهم بعقلنة الفكر الديني الإسلامي، أم إن إعمال مضامين وآليات ومفاهيم فلسفة الدين في مجال الفكر الإسلامي يفضي إلى الزندقة والهرطقة وتفكيك الثوابت العقدية والأحكام التشريعية الإسلامية؟.
في مقاربته لهذه القضية قال الأكاديمي اللبناني، أستاذ الفلسفة والإلهيات والأديان المقارنة، الدكتور محمود حيدر إن "فلسفة الدين كمفهوم أخذ مساحة من الجدل سواء في المجتمعات الثقافية في الغرب، أو في المجتمعات الإسلامية لا سيما بين النخب المهتمة بالفلسفة، والدراسات والأبحاث الفلسفية".
وأضاف: "وإذا أردنا أن نحدد لها تعريفا، نستطيع القول بأن فلسفة الدين هي المعرفة الفلسفية للدين، وأن الموضوعات الدينية، العقائد والطقوس هي حقل اهتمامها، لكن التفكير الفلسفي في القضايا الدينية ليس جزءا من التعاليم الدينية، وهناك فلسفة دين محايدة تماما تبناها عدد من المفكرين الغربيين، تحدثوا من خلالها عن الدين بوصفه ظاهرة تاريخية، ظاهرة متجسدة في التاريخ، وبوصف الدين مادة تاريخية لا صلة لها بالوحي".
محمود حيدر.. أكاديمي لبناني
وتابع: "فلسفة الدين في الثقافة الغربية، خصوصا في مرحلة الحداثة، وفي كتابات الفيلسوف لودفيج فيورباخ، أمعنت في اعتبار الدين ظاهرة تاريخية، وأن الإنسان هو الذي ابتدع فكرة الله لحاجته إلى إيجاد معبود يعبده، وبسبب من ذلك ذهبت إلى تأليه الإنسان، ونحن نعرف أن هذا التأليه أدى إلى نشوء النزعة الإنسانوية، وهي النزعة التي استطاعت أن تسيطر على التفكير الغربي، على مدى قرون خلت، ولأجل ذلك أسست لنظريات معرفة، وكان الحقل الأنثروبولوجي، هو الحقل الأكثر شيوعا بين التيارات الفلسفية الحداثوية المختلفة".
وردا على سؤال
"عربي21" حول الفوارق الجوهرية بين فلسفة الدين من جهة، وعلم اللاهوت المسيحي، وعلم الكلام الإسلامي من جهة أخرى، أوضح حيدر أن "من وجوه الالتقاء بينهم استخدامهم لأدوات البرهان والاستنباط، والمنطق الأرسطي، أما وجوه التباين فتقوم على أن علم الكلام، أو اللاهوت، فهما مخصصان للدفاع عن العقائد الدينية من قبل المتخصصين في كل منهما، وبهذا المعنى يتشكل ما يمكن أن نسميه بالفلسفة الدينية".
وأضاف "وبهذا المعنى يكون الدين في الفلسفة الدينية هو الأصيل، وتكون الفلسفة أداة وتابعة له، وهي في هذه الحالة تكون خادمة للدين، ومدافعة عن عقائده وقيمه وشرائعه، بينما في فلسفة الدين تكون الأصالة للفلسفة على حساب الدين، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى نمو الظاهرة الإلحادية، وإنكار البعد الوحياني للدين".
ومقاربة للسؤال الإشكالي إن كانت فلسفة الدين تعد تأسيسا عقلانيا للفكر الديني أم أنها تفضي إلى الهرطقة والزندقة، أكدّ الأكاديمي والباحث اللبناني حيدر أنه لا يميل في هذا السياق إلى "إصدار أحكام قيمية" موضحا أن من "دارسي الإلهيات من استخدم الفلسفة بوصفها رؤى وطريقة تفكير عقلانية، بمثابة معبر إلى مقاربة الدين وقضاياه، ومع ذلك سيبقى الأمل قائما حول هذه الإشكالية الجوهرية في العلاقة بين الدين بما هو أمر غيبي في جانبه الاعتقادي وبين الفلسفة التقليدية التي لا تقر بهذا الجانب الغيبي، وتحصر مقاربتها للأمر الديني في الجانب المادي التاريخاني، كما فعلت الماركسية وعدد من تيارات الحداثة حينما استلهمت نظريات فيورباخ وهيجل وماركس".
من جهته ذكر الباحث الأردني، أستاذ اللغة العربية بجامعة طرابزون في تركيا، والمهتم بالدراسات الفكرية والفلسفية، معتز أبو قاسم "أن أنماط الإصلاح متعددة، وقد بيَّن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام أنه يُبعث على رأس كل مائة عام من يجدد للناس دينهم، فيكون الإصلاح والتجديد نوعا من الحتمية التاريخية بمنطوق الحديث".
معتز أبو قاسم.. باحث أردني
وأضاف: "لكننا حتى لو طلبنا أدلة عقلية محضة لوجدنا أن تجديد وإصلاح الدين ضرورة لا بد منها خاصة وأن الدين قد أثبت فاعليته وقدرته على صناعة تغيير إيجابي في حق الإنسانية، وعلى كل حال من الطرق التي سلكها الناس نجد التنويريين الذين تسمى العصر باسمهم "عصر التنوير"، فترة اليقظة الغربية؛ حيث وضُع الدين تحت مبضع التشريخ الذي أعمل فيه الجروح العميقة، وبدل أن يعالج أكبر آفتين أصابتا الدين المسيحي وهما (اللاتسامح) و (اللاعقلانية)، تم إدانة الدين واستبعاده من المعيارية المعرفية وغالب السلوكية".
وتابع في حديثه لـ"عربي21": "وهناك طريق أخرى سلكها بعض المفكرين المسلمين تطلب تجديد الفهم لمكونات الدين ومقتضياته في سياق المستجدات الفكرية، وتنشغل بالمسائل العملية المشخصة لا النظرية المجردة، فتكون بذلك هي ثمرة حركة اليقظة الفكرية التي يشهدها العالم الإسلام اليوم".
ووفقا للباحث أبو قاسم، المهتم بكتابات الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن اهتماما خاصا، فإن "أبلغ السالكين للطريق الثاني هو الفيلسوف الهندي محمد إقبال، والمفكر الهندي فضل الرحمن، والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الذي أراد أن يأتي بعمل تجديدي إبداعي يحاكي في استشكالاته واستدلالاته الأعمال الفلسفية الحداثية، ولكنها جديةٌ وحداثةٌ مرجعيتها لا تعود إلى المحاكاة والتقليد، وإنما إلى كونها ثمرة اجتهاد وإبداع ينطلق من خصوصية حاجة المسلمين الفكرية للإجابة عن أسئلتهم وحاجاتهم".
ولفت إلى أن التجديد عنده كان يتطلب نظرتين جديدتين: الأولى في تعريف الدين، حيث نظر إليه طه عبد الرحمن باعتباره جملة أخلاق حية يُنظر إليها بعين العمل، فتكون قيمة الشعائر مردودة إلى قيمة الأخلاق التي تثمرها، وبذلك تكون معقولية الشريعة من معقولية الأخلاق التي تقترن بها".
أما الثانية، فهي، حسب أبو قاسم "التجديد في آليات النظر إلى الدين؛ من خلال ترك التقريرات المباشرة المزينة بالشواهد القرآنية والحديثية، وأن يُستبدل مكانها عرض الأقوال في صورة استشكالات واستدلالات يشد بعضها بعضا على طريقة الفلاسفة، وباستيفاء مقتضى العقلانية الحديثة، فتُزود الحقائق الدينية بفضاء فكري يضاهي قوة وسعة الفضاء الفكري الذي وُضع لحقائق غير دينية كالحقائق العلمية..".
ولفت في ختام حديثه إلى أن "هذه الطرائق تندرج بشكل عام تحت مسمى (فلسفة الدين)، والتي هي تفكير فلسفي في كل ما يتصل بالدين؛ شرحا وتفسيرا وبيانا وتحليلا من دون أن يقصد إلى تبرير نوع خاص من العقائد تبشيرا أو دفاعا.. وهي فلسفة فاعلة اليوم لأنها تتوسل بأدوات العصر وآلياته التي تتوافق مع تعقلات البشر اليوم، ومداخل تفاعلهم مع واقعهم.. ".