النتائج التي نشرت أول من أمس لأحدث إحصاء سكاني في
بريطانيا كانت مثيرة للاهتمام، ومدعاة لردود فعل متباينة. فالإحصاء ربما فاجأ كثيرين بنتيجته التي أعلنت أن المسيحيين أصبحوا اليوم أقلية في إنجلترا وويلز، وذلك لأول مرة منذ بدء عمليات المسح
السكاني. وكشفت الأرقام أن المسيحيين يمثلون الآن أقل من نصف سكان إنجلترا وويلز، إذ إن 46 في المائة من السكان، (أي 27 مليوناً ونصف المليون شخص) وصفوا أنفسهم بأنهم مسيحيون.
النتيجة المفاجئة الأخرى أن نسبة 37 في المائة من الذين شملهم المسح أعلنوا أنهم «بلا انتماء ديني»، وهو ما يضع هذه المجموعة في المرتبة الثانية بعد «المسيحيين»، ويعني أنه على مدار العقدين الماضيين ارتفع عدد المصنفين في هذه المجموعة بنسبة 22 في المائة، مقابل انخفاض الذين سجلوا أنفسهم مسيحيين بنسبة 13 في المائة خلال الفترة ذاتها.
النتائج التي نشرها «مكتب الإحصاءات الوطنية» وشملت بيانات حول العرق والدين واللغة لنحو 60 مليون شخص جمعت في إحصاء سريع في 2021، بينت في الوقت ذاته زيادة في عدد السكان
المسلمين من مليونين وسبعمائة ألف في عام 2011 إلى ثلاثة ملايين وتسعمائة ألف في 2021، هذا الأمر يعكس التغير الديموغرافي في بريطانيا، والاختلاف في أنماط الشيخوخة، والخصوبة، والوفيات، والهجرة. ففي مقابل انخفاض عدد السكان البيض الذين يمثلون أغلبية السكان بنسبة 4 في المائة، ارتفع عدد الآسيويين أو البريطانيين الآسيويين في إنجلترا وويلز بنسبة 2 في المائة تقريباً، حيث يمثلون اليوم المجموعة العرقية الثانية من السكان بنسبة 9.3 في المائة وتعداد يبلغ خمسة ملايين ونصف المليون.
الأقليات العرقية تشكل اليوم أكثر من نصف السكان في مدن مثل برمنغهام وليستر ولوتون. وفي حين أن أكثرية المدن في إنجلترا وويلز كانت الغالبية فيها «مسيحية»، فإن الملاحظ أن المدن الجامعية مثل أوكسفورد وكامبريدج ونوتنغهام وإكستر سجلت وفقاً للإحصاء السكاني على أنها «غير متدينة». كذلك كان الأمر في مدن مثل لندن وبرايتون وبريستول وكارديف، أي أن غالبية الناس اختاروا عدم تحديد ديانة معينة.
منطقتان في بريطانيا سجلتا في المسح السكاني على أن غالبيتهما مسلمة وهما ريدبريدج وتاور هاملت (فيها أعلى نسبة بنغال في إنجلترا). وليس غريباً أن المنطقتين في شرق لندن، إذ إن العاصمة فيها أكبر عدد من المسلمين في بريطانيا.
نتائج المسح ستقرأ بشكل متباين من مجموعات مختلفة. أنصار الانفتاح والتعايش سيجدون فيها دعماً لمطالبهم بسياسات حكومية تعكس هذا التنوع الذي يرون فيه إثراء للحياة، وأن بريطانيا الحديثة المتنوعة عرقياً ودينياً وثقافياً مكان جذاب للعيش، منفتح على العالم والأفكار الجديدة، وأن الحنين للماضي قبل موجات الهجرة في العقود الأخيرة مخادع لأن مستويات الحياة تحسنت في الواقع مع المهاجرين الذين أسهموا في النهضة الاقتصادية للبلد منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن اليمين المتشدد قد يستخدم نتائج المسح للتأجيج ومحاولة التكسب سياسياً، لا سيما في وقت تشهد أوروبا صعوداً جديداً لهذا التيار في عدة دول، وجدلاً واسعاً حول قضية الهجرة واللجوء والتعددية العرقية والدينية. رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان نموذج لكيفية استغلال هذا التيار لقضية الهجرة وتوظيفها في خطابه السياسي المتكرر عن صراع الثقافات الذي قال إنه «يهدد بالقضاء على ثقافة أوروبا». هذا الخطاب يجد صدى بين قيادات يمينية أخرى في أوروبا مثل رئيسة الوزراء الإيطالية الجديدة جورجيا ميلوني التي تعد من المعجبات بأوربان ولم تخفِ رغبتها في التعاون الوثيق معه لتعزيز اليمين الأوروبي باسم احترام السيادة الوطنية ومحاربة الهجرة والدفاع عن الأسرة والهوية
المسيحية.
موضوع قومية الدولة وهويتها يبقى دائماً قضية حساسة حتى في دول تصنف على أنها نشأت من موجات المهاجرين مثل أميركا التي رأيناها تشيد جداراً على حدودها لمنع تدفق المهاجرين «غير الشرعيين»، ويتبنى عدد من سياسييها خطاباً معادياً للهجرة، بينما ينمو اليمين العنصري المتطرف الذي يرفع راية الدفاع عن الهوية البيضاء.
وعلى الرغم من أن بريطانيا بلد معروف عموماً بالتسامح، فإن بعض ردود الفعل الأولية على المسح السكاني تظهر أن هناك شرائح وسط السكان البيض تربط بين التعددية والهجرة وذوبان الهوية الثقافية والدينية، والإفقار والأزمة المعيشية، وتردي الخدمات لا سيما خدمة الرعاية الصحية والبنية التحتية، وتزايد العنف والجريمة. هذه الشرائح لا تخفي حنينها للماضي قبل موجات الهجرة الحديثة، وتعبر عن حسرتها على ما تراه «نهاية بريطانيا» بصورتها التقليدية التي عرفها العالم. ومن متابعة ردود القراء في عدد من الصحف، والمشاركين في برامج إذاعية والمعلقين من الجمهور، كان هناك من اعتبر أن ماضي بريطانيا أفضل من حاضرها ومستقبلها، وأن كثيراً من المهاجرين الجدد غير وطنيين ولا يشعرون بالولاء للمملكة المتحدة، وسط اتهامات للاجئين بأنهم يعيشون عالة على مساعدات الدولة.
هناك عدة عوامل وراء تراجع من يحددون هويتهم بالمسيحية؛ فإضافة إلى موضوع التغير الديموغرافي وتأثيرات الهجرة والمهاجرين، هناك عامل السن، في بريطانيا والغرب عموماً؛ حيث ترتفع نسب الشيخوخة وتتراجع معدلات المواليد. وبما أن نسبة كبيرة من المسيحيين هم من كبار السن، فإن معدل الوفيات ينعكس بشكل واضح على نسب المسيحية في الإحصاء السكاني.
أمر آخر أشارت إليه الدراسات، وهو أن الأجيال الجديدة في الأسر البيضاء المسيحية في بريطانيا أقل تديناً، في حين أن الأمر يبدو مختلفاً بين المسيحيين المهاجرين سواء من جزر الهند الغربية أو من دول أوروبا الشرقية. ويعيد البعض هذه الظاهرة إلى جيل ستينات القرن الماضي الذي تأثر بمظاهر الحياة في تلك الفترة، ولم يكترث كثيراً لغرس التدين في أطفاله فنشأ كثير منهم ليصبحوا غير متدينين، ولا يرون أن عليهم تحديد ديانتهم في الإحصاءات السكانية ويفضلون وضع علامة «لا ديانة» في خانة الاختيارات في استبيانات الإحصاء السكاني.
مقابل ذلك فإن الأرقام المنشورة تشير إلى أن المسلمين والهندوس يبدون أكثر حرصاً في موضوع التدين ونقله إلى أبنائهم، وهو ما يعني أن ديانات المهاجرين سوف تستمر في النمو.
لا شك أن بريطانيا التي يرأس حكومتها اليوم سياسي من جذور هندية، ويشغل أبناء الأقليات مناصب مهمة فيها، ويتبنى ملكها الجديد تشارلز رسالة التعايش بين الديانات، تتغير بسرعة وهو تغير مليء بالتحديات والفرص.
(
الشرق الأوسط)