السبت المقبل لن يكون لأغلب
التونسيين من حديث سوى مقابلة الدور النهائي لكأس العالم بكرة القدم في الدوحة يوم الأحد، لكن قلة هم على الأرجح من سيفضل الحديث عن
الانتخابات التشريعية في بلده مع أنها تجري قبل النهائي بيوم واحد.
السبب لا يعود فقط لشعبية اللعبة وهيام الناس الكبير بها ولكن أيضا لأن مباراة الأحد كلّها تشويق وانتخابات تونس خالية تماما من أي تشويق، مباراة الأحد ستفرز فائزا محددا وانتخابات تونس لا يُعرف لها فائز.
بداية، تجري هذه الانتخابات ضمن مسار سياسي مطعون في شرعيته من الأساس، وبالتالي فالبرلمان الذي سيرى النور سيفتقد إلى أبرز نقطة قوة تميّز أي برلمان وتعطي لأعماله القيمة القانونية والأخلاقية لقراراته. إن انتخابات تجري وفق فرض الأمر الواقع، عبر القوة الصلبة للدولة وأجهزتها، رغم أنف الجميع وفي غياب كل القوى الحية السياسية والمجتمعية لا يمكن أن ينتظر منها شيء، ناهيك من اعتبارها مدخلا مناسبا لحل المعضلات المتراكمة للوضعين السياسي والاجتماعي المعقّدين في البلاد.
وحتى لو تجاوزنا هذه المسألة المبدئية، فإن هذه الانتخابات التي ستجري لأول مرة وفق نظام الاقتراع على الأفراد، وبقانون انتخابي صيغ على عجل ودون أية مشاورات، وبهيئة انتخابية منصّبة وليس لها من الاستقلالية سوى الاسم، إنما هي انتخابات لا رهانات فيها ولا نقاش ولا جدل ولا برامج ولا اجتماعات ولا مهرجانات ولا برامج تلفزيونية مشوّقة تتبارى فيها قوى سياسية تطمح لنيل ثقة الناس… لا شيء من هذا على الإطلاق.
لنتجاوز هذه المسألة كذلك، البرلمان الذي سيرى النور هو برلمان بلا أنياب على الإطلاق فلا هو قادر على محاسبة الحكومة أو إقالتها ولا على مساءلة الرئيس الذي تعود إليها الأمور جميعا، كبيرها وصغيرها، بلا قوة رادعة له على الإطلاق ولا حتى موازية، مما حدا بأحد أنصار الرئيس السابقين من القانونيين، وقد عاد إليه الوعي ولو متأخرا، أن يصرّح بأن النظام السياسي في تونس لم يعد حتى رئاسيا مبالغا فيه بل تحوّل إلى نظام «الإمام المعصوم».
هذا البرلمان سيكون مكوّنا من شخصيات نكرة في الغالب، طغى على حملاتها الانتخابية خواء سياسي وفكري مخيف، ولن يكون لها من هاجس بعد فوزها سوى الاستجابة لرغبات ناخبيهم التي تقوم على منافع ضيقة وخدمية أشبه بما يفترض أن تقدمه البلديات وليس البرلمان.
وطالما أن هناك ما سُمي بـ «سحب الوكالة» أي أن يتنادى من انتخبوا هذا النائب أو ذاك إلى سحب الثقة منه، حتى قبل إكمال مدته النيابية، فسيصبح كل نائب أسير هؤلاء ومن بينهم دوائر تحوم حول الكثير منها أكثر من نقطة استفهام.
وطالما باتت عضوية البرلمان مقزّمة إلى هذا الحد، فقد وجدت بعض الدوائر نفسها دون منافسة وأمام مرشح واحد فقط، سيفوز ولو بأصوات أصدقائه وعائلته لا غير، مع دوائر أخرى لا وجود فيها لأي مرشح مثلما حصل في دوائر التونسيين في الخارج في أكثر من عاصمة، حتى أن سفارة تونس في لندن مثلا اضطرت إلى إصدار بيان يعلن «تعليق المسار الانتخابي بعدد من الدوائر الانتخابية، ومنها باقي الدول الأوروبية، نظرا لعدم وجود مترشحين مقبولين، على أن يتم سد الشغور في مجلس نواب الشعب في فترة لاحقة».
لم يكن من السهل مصالحة التونسيين مع الانتخابات وصناديق الاقتراع فقد خاب ظنهم في صدقيتها لعقود، رغم بعض الاستثناءات، ففي عام 1981 جرت انتخابات تنافسية بتعددية حزبية جديدة وقتها، لكن تلك الانتخابات زُوّرت بشكل كامل فنفر الناس من أي انتخابات مقبلة إلا نسبيا عام 1989، لكن العودة القوية إلى صناديق الاقتراع والثقة الكاملة في صدقيتها لم تحصل إلا بعد الثورة 2011. المصيبة الآن أن انتخابات السبت المقبل ستعيدنا من جديد إلى نفض اليد من الانتخابات وعدم اعتبارها وسيلة مناسبة للتغيير السياسي في البلاد خاصة بالضحالة التي بدا بها أغلب المرشحين.
يزيد من قتامة الصورة أن هذه الانتخابات تجري في أجواء سياسية واقتصادية خانقة ومخنقة يشتكي منها الجميع بلا استثناء، وآخر حلقاتها قانون مالية للعام المقبل جوبه برفض واسع، مع انتظار لاتفاق مع صندوق النقد الدولي صاغته الحكومة منفردة وبلا نقاش اجتماعي أو تشاور مع أن تكلفته الاجتماعية واستحقاقاته المختلفة ليست بالهيّنة وستمس كل الشرائح الاجتماعية المشتكية أصلا من غلاء الأسعار وغياب الكثير من المواد وآخرها الدواء.
شخص واحد فقط يبدو راضيا تماما عن ما يفعله، هو قيس سعيّد نفسه، رغم أنه يحكم بمفرده بصلاحيات مطلقة بالكامل منذ 17 شهرا ومع ذلك لم يستطع أن يحل مشكلا واحدا من مشاكل البلاد، بل زادها تفاقما بصورة واضحة. وهو في الأثناء لا يفعل شيئا سوى شتم المعارضة والمعارضين إلى أن خرج قبل يومين ليقول لنا إن مشاكل تونس اجتماعية واقتصادية بالأساس، وليست سياسية… وبالتأكيد ليس هو من ضمنها. بعض الحق الذي يراد به كل الباطل.
القدس العربي