مطلع كانون الأول/ ديسمبر الجاري، قامت أسرة ضابط في القوات
المسلحة
بضرب طاقم طبي في أحد المستشفيات، وأخذت الأحداث بُعدا سياسيا لوجود أحد
الضباط في الحادثة، واستخدام سيدة من أسرته سَوْطا ضربت به مُمَرِّضات. وقد جدَّدت
الحادثة الجدل المقترن بالأوضاع الصحية من كل جوانبها الطبية والفنية والإدارية،
وتتعلق هذه الأوضاع بثلاثة أطراف؛ الطواقم الطبية، والجمهور المتلقي للعلاج،
والحكومة
المصرية.
تمثل الطواقم الطبية الضلع الأضعف في هذا المثلث، فهي
الطرف الذي يواجه الجمهور الساخط من الوضع الصحي، وإزاء ذلك تتعرض للاعتداءات
المتكررة، وهي الطرف الذي لا يتلقى المقابل المالي المناسب لضغط العمل الحكومي، فوفقا
لتقرير حكومي في حزيران/ يونيو 2021، قامت المستشفيات الجامعية فقط، بإجراء 20
مليون و135 ألف فحص طبيّ، ومليون ونصف عملية جراحية، منها 300 ألف عملية ذات
مهارة خاصة، ومليون و200 ألف جلسة غسيل كلوي. ووفقا لذات التقرير، فقد أجريت تلك
الأعداد الضخمة في 115 مستشفى في الجمهورية، فكم طبيبا وممرضا تحمل هذا الضغط؟ وكم
سريرا توفَّر للمرضى؟
تمثل الطواقم الطبية الضلع الأضعف في هذا المثلث، فهي الطرف الذي يواجه الجمهور الساخط من الوضع الصحي، وإزاء ذلك تتعرض للاعتداءات المتكررة، وهي الطرف الذي لا يتلقى المقابل المالي المناسب لضغط العمل الحكومي
يرصد كتاب الإحصاء السنوي، الصادر عن الجهاز المركزي
للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2021، أن عدد الأسِرَّة في المستشفيات الحكومية
والخاصة بلغ 128344 سريرا في عام 2019، وأن عدد الأطباء البشريين من غير أطباء
الأسنان، بلغ 93012 طبيبا في العام نفسه، بنسبة 9.4 طبيب لكل 10 آلاف شخص، (تعد
النسبة العالمية 23 طبيبا لكل 10 آلاف شخص). وكان عدد الأطباء عام 2017 يبلغ
102773 طبيبا، ما يشير إلى حجم التسرب من القطاع الطبي. وبالنسبة إلى هيئة التمريض، فبلغ عدد أعضاء الهيئة في العام نفسه 205183 ممرضا بنسبة 20.7 لكل 10 آلاف مريض،
ووفقا لنقيب التمريض، فقد بلغ عدد هيئة التمريض 300 ألف فرد في العام الجاري.
هذا من الناحية الإدارية والقوة الطبية، فماذا عن
الأجور؟ يتقاضى الطبيب المقيم 3600 جنيه شهريا (الدولار يساوي 24.6 جنيها)، بينما
يتقاضى طبيب الامتياز (الطبيب في السنة النهائية) 1800 جنيه، رغم أن القانون ينص
على أحقيته في 80 في المائة من راتب الطبيب المقيم، وكلها في النهاية مبالغ شديدة
الزهد لا تناسب تكاليف الحياة، بينما يتقاضى الممرض في الوردية البالغة 12 ساعة 25
جنيها في المستشفيات الحكومية، ويتقاضى نظيره في المستشفيات الخاصة 425 جنيها، ما
يشير إلى حجم الفجوة في الأجور بين القطاعين الحكومي والخاص. وأصبحت محصّلة هذه
الأوضاع مجتمعة استقالة أكثر من 11 ألف طبيب في آخر ثلاث سنوات فقط، بحسب تقرير
لنقابة الأطباء المصرية في نيسان/ أبريل الماضي، هربا من سوء الأوضاع المعيشية،
وقسوة ظروف العمل، وانعدام التقدير المادي.
أما الجمهور المتلقي للعلاج، فهو مطحون بين سندان الفقر
وحاجته إلى العلاج من جهة، ومن جهة أخرى يجد منظومة صحيّة مهترئة، وطاقما صحيا أصاب
العديد منهم التبلد بسبب قسوة ظروف الحياة، وضغط العمل اليومي، واعتيادهم على رؤية
الحالات الحرجة التي قد تصل إلى عشرات الحالات يوميا، فتصبح استجباتهم أحيانا
متباطئة دون اكتراث بخطورة التراخي على حياة الأشخاص، وأحيانا يتسبب هذا البرود في
الاستجابة إلى انفعال أسرة المريض فيحدث الاعتداء.
ليس المقصود هنا تبرير الاعتداء على الطواقم الطبية، ولا قبوله، ولا منحه غطاء بذريعة التراخي، لكن من المهم أن تكون استجابة الطبيب مرتبطة بأخلاقيات مهنته، وللأسف لا توجد دراسة تقوم على رصد الاستجابة الطبية للحالات الصحية، خاصة الحرجة
ليس المقصود هنا تبرير الاعتداء على الطواقم الطبية، ولا
قبوله، ولا منحه غطاء بذريعة التراخي، لكن من المهم أن تكون استجابة الطبيب مرتبطة
بأخلاقيات مهنته، وللأسف لا توجد دراسة تقوم على رصد الاستجابة الطبية للحالات
الصحية، خاصة الحرجة. وقد شهدتُ وفاة عمَّتي بسبب هذا التراخي في أحد المستشفيات
الحكومية الكبرى، وشهدت انفعالات كثيرة للأُسَر بسبب البرود في الحالات الخطرة،
فضلا عن قيام الأمن في المستشفيات الحكومية بدور شديد السوء في التسبب بانفعال ذوي
المرضى؛ نظرا لعدم تقديرهم لخطورة حالات المرضى الذين يحتاجون إلى إسعاف عاجل، دون
التقيُّد بالروتين الإداري في إجراءات الكشف، وللأسف لا يوجد سلطان للأطباء عليهم، إلا في درجات إدارية عليا، لا توجد مع الحالات الحرجة على مدار اليوم.
تتابع الحكومة، الضلع الثالث من المثلث، هذه الخشونة في
العلاقة ولا تقوم باتخاذ إجراءات فعلية لمنع
الاعتداءات، بل تعتبر الأنظمة
المستبدة أن انشغالَ المجتمع ببعضه والتشاحنَ بين طوائفه؛ مفيدٌ لصرف النظر عن
قضية الاستبداد وفساد الحكم، والإجراءات الرادعة ليست في نصوص القانون فقط، ولا في
الجزاءات المترتبة على الاعتداء، وإن كان النص القانوني والجزاء لا يمكن الاستغناء
عنهما.
أولى خطوات منع الاعتداءات، هي الإكثار من بناء
المستشفيات العامة بصورة آدمية، بنفس درجة الاهتمام ببناء المدن الجديدة والجسور
في أنحاء الجمهورية، واعتبار بناء المستشفيات والمدارس مشروعا قوميا حقيقيا يرفع
من قيمة المواطن ووعيه وصحته، والإنفاق عليهما بسخاء أولى من الإنفاق على تفريعة
قناة السويس، وأولى من الإنفاق على المدن في الصحراء، وأولى من بناء الجسور في المناطق
ذات الزحام المروري المنخفض، مع الانتباه إلى أن هناك حاجة لمعيار إنجاز حقيقي في
التوقيت، فالذي يطالب وزراءه بتخفيض مدة البناء لتكون بصورة قياسية، يمكنه أن
يطالب بذلك في المستشفيات، خاصة أن اعتبارات السلامة تمكن مراعتها بالهياكل
المعدنية البديلة للهياكل الخرسانية، لكن الإشكال أن السِمْسار الذي يحكمنا يدرك
أن المستشفيات الحكومية تأخذ من ميزانية الدولة بالأساس، بينما هو يحب البناء لجني
الأموال، باعتبار أن مظنَّة الربح موجودة في المباني.
ستتكرر حوادث الاعتداء على الطواقم الطبية ما دامت المنظومة الصحية تفتقد لمراعاة الجوانب المادية والفنية والإدارية، وهناك حوادث قد تحدث ويتم تسجيلها، بينما هناك حوادث ربما تكون يومية لمشاحنات أو مشاجرات لم ترصدها الكاميرات. وستتكرر الحوادث ما دمنا في ظل نظام لا يفهم أهمية الصحة ويقدِّرها تقديرا حقيقيا
ثم تأتي خطوة رفع مرتبات الطواقم الطبية بما يتناسب مع
أهمية دورهم، ويتناسب مع الأوضاع المعيشية، وضبط ساعات عملهم بما يتناسب مع الجهد
المبذول، ورفع الكفاءة التدريبية لهم، خاصة في الأماكن النائية، والمحافظات البعيدة
عن العاصمة، وتوفير المستلزمات الطبية والأدوية دون إرهاق المرضى بتكاليفها
المادية، وربما يكون دخول قانون التأمين الصحي الشامل حيز التنفيذ، بوابة لتحسين
الوضع المادي للطواقم الطبية، ولعله يُوقِف التسرب من العمل الحكومي.
ستتكرر حوادث الاعتداء على الطواقم الطبية ما دامت
المنظومة الصحية تفتقد لمراعاة الجوانب المادية والفنية والإدارية، وهناك حوادث قد
تحدث ويتم تسجيلها، بينما هناك حوادث ربما تكون يومية لمشاحنات أو مشاجرات لم
ترصدها الكاميرات. وستتكرر الحوادث ما دمنا في ظل نظام لا يفهم أهمية
الصحة
ويقدِّرها تقديرا حقيقيا بعيدا عن الدعاية الشخصية، وستتكرر الحوادث ما دام
المجتمع يتلقى الصفعات من كل مراكز القوة فيه، ولا يجد أمامه متنفسا سوى أن يقوم
بتفريغ غضبه في نظرائه من المقهورين مثله، وهو يعلم أن جزاءه لن يكون كجزاء
اعتدائه على مرتدي الملابس الأمنية أو العسكرية، وسنظل في دوامة الاعتداء وإدانته
أو تَفَهُّمِ سببه، دون قدرة على وضع خط مستقيم يصلح مقياسا لكل الحالات، إلى أن
تنصلح أضلع المثلث، وأهم ضلع فيه هو ضلع الحكومة، صاحبة القرار في التنظيم
والإدارة.