الكتاب: "حياة الموريسكيين الدينية"
الكاتب: بيدرو لونغاس
ترجمة: جمال عبد الرحمن
المركز القومي للترجمة، ط 1 القاهرة 2010
عدد الصفحات: 285 صفحة.
1 ـ بين يدي الكتاب
معلوم أنّ الإسبان قد أخلوا بتعهّداتهم بعد أن استقام لهم الأمر
ووقعت غرناطة في قبضتهم إثر حرب الاسترداد. فلم يحترموا حريات المسلمين الدينية
وشرعوا في تنصيرهم بالإغراء أولا ثم الإكراه لاحقا. فحُظر الدين الإسلامي وكل ما
يمت له بصلة بما في ذلك اللغة العربية. ولكنّ صفحات كثيرة من معاناة الموريسكيين
أثناء تلك الحرب وبعدها ظلت مجهولة.
ومن هنا مأتى قيمة كتاب "حياة الموريسكيين الدينية" للباحث
الإسباني بيدرو لونغاس التوثيقية. فقد عاد إلى تقارير محاكم التفتيش وإلى الآداب
الألخمادية، أي إلى تلك المخطوطات التي تتناول الشعائر الإسلامية بلغة إسبانية
مكتوبة بحروف عربية وكتابات المدجنين المسلمين، وهم مسلمو الأندلس من الذين كانت
تحكمهم سلطات غير مسلمة في الأقاليم التي استولى عليها الإسبان قبل سقوط غرناطة.
فقد حاول هؤلاء الحفاظ على عقيدتهم وتولوا بأنفسهم المهام التي كانت تتولاها
السلطات السياسية لرعاية الدين. ولكنهم وتعرضوا في سبل ذلك إلى الاضطهاد.
2 ـ "حياة الموريسكيين الدينية" وعرض الشعائر
يعرض الكتاب مادة فقهية تعليمية كانت توجّه لمن بدأت صلتهم بدينهم
تفتر بالأساس. ومن ثمة كان مداره على المعلومات الخاصة بأركان الإسلام وبالنصوص
التي توجبها. وعلى قيمة هذه المادة في سياقها التاريخي فأنها تعدّ من البديهيات
بالنسبة إلى المسلم ذي الثقافة الدينية الدنيا، ناهيك عن القارئ المختص في المسائل
الحضارية الإسلامية. ولذلك لم نقف عندها. فقيمة هذا الأثر اليوم، في تقديرنا، تكمن
في الحواشي التي تعرض ما حفّ بحياة المدجّنين والموريسكيين.
فيقدر الباحث، معتمدا نصوص المسلمين المدجنين متوليا المقارنات التي
بدت له ضرورية أنّ الموريسكيين ظلوا يمارسون الشعائر بشكل صحيح رغم التضييقات وأنّ
حياتهم الدينية "لا تختلف جوهريا عن الحياة الدينية للعرب وللشعوب الأخرى
التي تدين بالإسلام.. من المعلوم أنّ المذهب المالكي هو المذهب الذي اعتنقه مسلمو
إسبانيا، وهو المتبع في المراسم الدينية الموريسكية كما توضّح المخطوطات
الألخميادية" ولكن في هذا التقدير كثير من التسّرع كما سنعرض لاحقا، نردّه
إلى نزعة الكاتب إلى تخفيف وطأة الحصار الديني الذي ضرب على الأندلسيين حينا وإلى
عدم معرفته بدقائق ممارسات المسلم لشعائره الدينية حينا آخر.
3 ـ تبسيط الشعائر الإسلامية
مما يكشفه الكتاب اضطرار الموريسكيين إلى تبسيط الشعائر إلى الحدود
الدنيا واختزالها في الزمن حتى يغافلوا الرقابة المضروبة حولهم. من ذلك مثال
الوضوء بالانغماس، أي الغطس في الماء دون غسل مختلف الأعضاء الواجب غسلها في عملية
الوضوء. فقد كانوا يلجؤون إلى ذلك خوف أن يراهم أحدهم. فيبلغ محاكم التفتيش.
ويتّضح من الوثائق أن هذا التبسيط كان محلّ جدل. ولذلك استفتوا أئمة من خارج
الإقليم. ويذيل الكتاب برسالة مفتي وهران في 3ماي 1563، إجابة على بعض الأسئلة
الواردة من الأندلس. فيستهلها العبارة التالية: "إلى إخواننا القابضين على
دينهم كالقابضين على الجمر" مضمنا الحديث النبوي الذي نصّه "يأتي على
الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر". وفي هذه الرّسالة يصادق
المفتي على مثل هذا التبسيط ناصحا إيّاهم بما يلي "حافظوا على الصلاة ولو
بالإشارة. أدوا الزكاة ولو بالتصديق على الفقراء أو كافتخار، فالله لا ينظر إلى
صوركم وإنما إلى قلوبكم. ولكي تتطهروا يمكنكم الاستحمام في البحر أو النهر، وإذا
منعتم من ذلك فتطهروا في الليل وسيكون لكم أجر من تطهر في النهار. تيمموا ولو بلمس
الحائط بأيديكم، فإن لم تتمكنوا من ذلك فحاولوا توجيه نظركم ناحية الأرض أو الحجر
الذي يصلح بنية أداء التيمم. وإذا اجبرتم على عبادة تماثيل المسيحيين في أوقات
الصلاة فاضمروا نية تكبيرة الإحرام وإتمام الصلاة ووجهوا أنظاركم نحو التماثيل
حينما يفعل المسيحيون ذلك، ولتتجه نيتكم إلى الله حتى لو لم توجه وجوهكم شطر
القبلة بنفس طريقة من يؤدي الصلاة وهو في حالة الحرب ضد العدوّ". وبيّن أن
المفتي يأخذ بعين الاعتبار مقاصد الشريعة التي تعمل على الحفاظ على الكليات الخمس،
الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
4 ـ "حياة الموريسكيين الدينية" والدّقة المفقودة
يكرّر الباحث تقديره بأن ممارسة الشعائر الإسلامية ظلت تمارس على نحو
صحيح حتى رحيل المسلمين من إسبانيا رغم العقوبات الشديدة التي كانت تفرض عليهم.
وهذا قول يفتقر إلى كثير من الدّقة. فوفق البيانات التي يقدمها الكتاب نكتشف أن
الموريسكيين لم يكونوا يفطرون في رمضان إلاّ بعد ظهور النجوم في السماء وأنهم
ابتدعوا عبادات ليست من صميم الإسلام مثل صيام العقوبة وصلاة الخير وصلاة وداع
رمضان وأخرى تؤدى بين الظهر والعصر يوم عاشوراء، فتشتمل على أربع ركعات تُقرأ فيها
سورتا الفاتحة والإخلاص خمسين مرة. وأضافوا صلوات ضرورية في رجب. ويردّ مترجم
الكتاب جمال عبد الرحمن ذلك إلى بداية الاختلاط الأمر على المورسكيين وتقادم عهدهم
بالإسلام الصحيح وتأثير المسيحية في شعائرهم خاصّة منها الاحتفال بمولد المسيح.
فقد أضحوا يقيمون صلاة خاصة بالمولد النبوي بدورهم.
مما يكشفه الكتاب اضطرار الموريسكيين إلى تبسيط الشعائر إلى الحدود الدنيا واختزالها في الزمن حتى يغافلوا الرقابة المضروبة حولهم.
ومما يؤكد دقة ملاحظة جمال عبد الرحمن تلك المكانة الخاصة التي بات
الإمام والفقيه يحظيان بها. فقد نزعوا إلى منحهما منزلة شبيهة بمنزلة القديسين في
الديانة المسيحية "فكانوا يحضرون في بعض الأماكن مرتدين القمصان المطرّزة
بالحرير والذّهب وفي أيديهم عصا كالقساوسة" أو "عندما كانوا يشرعون في
الأكل في حضور مسيحيين قدامى كانوا يقلّدون صيغة المسيحيين في مباركة المائدة
فيقولون "ربّنا إنك تنعم علينا في الأرض فهب لنا نعمة في السماء آمين".".
5 ـ "حياة الموريسكيين الدينية" وأخطاء
المعرفية
لم يخل الأثر من أخطاء معرفية نتيجة لعدم إلمام صاحبه بدقائق الشعائر
الإسلامية. فقد اختلط عليه مصطلحا الركوع والركعة. فمعلوم أنّ الركعة تشمل قراءة
الفاتحة وسورة أخرى أحيانا ثم تتضمن حركتي الركوع والسجود. أما بيدرو لونغاس فكان يتحدث
عن قراءة القرآن أثناء الركوع. وعلى النحو نفسه خلط بين النظافة والطهارة.
ولخلفيته المسيحية التي تعتبر الدعاء صلاة خلط بين الصلاة في الإسلام والدعاء.
ومن أخطائه الجسيمة عدم انتباهه إلى اختلاف التقويم الهجري عن
التقويم الميلادي وإلى أنّ السنة القمرية تتغير من جهة الأشهر. فعيد الأضحى لا
يوافق رأس السنة الميلادية دائما وعيد الفطر الذي يسمى بالإسبانية عيد العصير لا
يوافق موسم جمع العنب بشكل آلي. ولعلّ خلطه أن يعود إلى ربما توافق المخطوطة التي
عاد إليها مع فصل جمع العنب، فعمّم الاستنتاج دون رويّة. يقول "وكانوا
يحتفلون بعيد العصير طوال شهر سبتمبر، وخلال هذا الشهر كانوا يتركون منازلهم
ويقيمون في بيوت أخرى لهم تحيطها أشجار العنب في سلاسل الجبال" أو "وكان
لهم عيد آخر - عيد الأضحى- في أول أيام عيد السنة الميلادية".
6 ـ الإرهاب المسيحي.. هل يذكره التّاريخ؟
تكمن أهمية الأثر المضاعفة في عرضه لسياق محاصرة الموريسكيين وعمليات
التّطهير الديني التي مورست في حقّهم من المصادر الإسبانية ذاتها. فمما ورد في
الأثر، على سبيل المثال رواية مدارها على أنّ ثيسنيروس عمل سنة 1499 على تنصير
المسلمين فأخذ معه أسقفا. وكان يتحدث إلى الفقهاء ويقدّم الهدايا. وقد أمكن له أن
ينصر ثلاثة آلاف مسلم في يوم واحد.
ولكي يضمن تدجين المسلمين ويحدّ من تمسكهم بشعائرهم جمع كتبهم
وأرسلها على جامعة القلعة. ثم ما لبث أن تحوّل تحالف السلطة والكنيسة إلى عمل
عنيف. فبعده اعتبر البابا كليمنتي مرتدا عن المسيحية كل من يخالف أوامر
الإمبراطور. وقضى بضرورة حضور الموريسكيين الصلوات في الكنيسة، ووجوب تعميدهم.
وتضمنت إجراءات التنصير منع الموريسكيين من مغادرة أماكن إقامتهم. وأتاحت لمن يلقي
القبض على أحدهم خارج تلك الدوائر أن يتخذه عبدا له. وتمّت محاصرتهم ماليا. فمنعوا
من بيع كل ما يضمن لهم قوتهم من ذهب وفضة وجواهر وحرير ودواب وفُرض عليهم وضع هلال
أزرق على قبعاتهم واشترطوا أن يكون بارزا، بحجم نصف برتقالة وأغلقت المساجد وحظرت
إقامة الآذان في كامل أنحاء البلاد.
7 ـ هدنة لا تصمد
وجد المسلمون بعض الحماية من نواب أراغون وقطانيا وفالنسيا الذين
طالبوا الإمبراطور بعدم التصرف بغلظة معهم لتعليمهم الدين المسيحي باللين. وبالفعل
تم تعليق هذه الإجراءات لأربعين عاما. وبانتهاء هذه المدة في 1566 فرضت حزمة جديدة
من التضييقات منها ضرورة اعتماد اللغة الإسبانية في التواصل في غضون ثلاث سنوات.
وأطلقت أيادي محاكم التفتيش من جديد. وممّا ورد في وثائقها "لقد عبروا عن
إلحادهم برفضهم أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، وكانوا يراعون عدم أكل لحم الخنزير
لدرجة أن إذا أخطأ ولمس خنزيرا بثيابه، فإنه لا يضعها على جسده مدى الحياة. وفي
إحدى القرى الإسبانية قام العمدة بدهن أشجار تين أهداها إليه موريسكي ثري، بشحم
الخنزير. فغضب الموريسكي ولم يكتف بعدم جني الثمار، بل قطع الثمار وأحرقها".
وينقل من تقرير غريغوري لوبيث ماديرا، عضو المجلس الملكي وعمدة
العاصمة بياناتٍ تشتكي من تمسك الموريسكيين بدينهم وأخبارًا عن ختانهم لأبنائهم
وتزويجهم لهم في الكنائس مرغمين ثم ليقيموا حفلاتهم على الطريقة الموريسكية في
دورهم التي يغادرونها أثناء رمضان إلى المزارع بعيدا عن الأعين للصوم بحرية
وتعلّلهم بالأعمال الفلاحية العاجلة لعدم حضور الصلوات في الكنيسة. وفي
شهادة
لميغيل مونيبا تعود إلى 9 سبتمبر 1609، وهو مسيحي قديم، أمام الرّاهب أنطونيو
لويث، مندوب محكمة التفتيش عينة ما عانوه من التضييق.
فقد ورد قوله "إنهم يعتقدون أنّ شخصا يدعى خوان لانثيرو، من
بلدة ريكلا، فقيه يطيعه المتنصّرون حديثا من بلدة ريكلا لهذه الثقة ويحترمونه
جميعا ويحنون رؤوسهم له.. وشخصا أخر يدعى فرانثيسكو كريسبو، هما اللذان يقومان
بعملية الدّفن.. وأنّ الشاهد رأى أن المدعو فرانثيسكو كريسبو ـ بعد أن بارك القسيس
القبر ـ قد لمس بيديه أكفان الموتى... وحتى يستطيع الميت الذي يرقد في القبر أن
يجثو على ركبتيه ويجيب على أسئلة الملكين كان المسلمون يتركون فراغا في القبور،
وكانوا يحرصون على عدم حياك الكفن عند الرأس والقدمين". والأسماء اللاتينية
التي يحملها المذكورون في الشهادة تعود إلى فرض الإسبان على المسلمين التخلي عن
أسمائهم القديمة وتسمية أبنائهم بأسماء إسبانية. أما رسالة الميت المذكورة في الشهادة
فابتكار أوجده
الموريسكيون يتضمن أدعية بالغفران ليعوض صلاة الجنازة التي ما عاد
بإمكانهم تأديتها في ظروفهم تلك، فيما يبدو.
8 ـ بيدرو لونغاس الذي يتفهم السلوك الإسباني العنيف
رغم القيمة التوثيقية لهذا الأثر وإلحاح بيدرو لونغاس على غلظة
الإسبان بحق الموريسكيين لأن الدين يجب أن يعرض لا أن يفرض، لا يعدم القارئ نزعة
الكاتب إلى تفهّم هذه الجرائم وإلى تفكيره في مواساة الضمير المسيحي أكثر من
انتصاره إلى الحقائق التاريخية. فاتفاقية تسليم غرناطة، عنده لم تناقش الأمر كفاية
والملوك الكاثوليكيون قد عيل صبرهم بعد أن كانوا يأملون في دخول المسلمين طواعية
للمسيحية باختلاطهم بالإسبان. وهذا مجاف لما تثبته الوثائق التاريخية. فتلك
الاتفاقية تنص بوضوح على حق المسلمين في ممارسة شعائرهم ولا تشير أبدا إلى التنصير.
ويشير الباحث إلى وجود أسباب "موضوعية" فرضت طردهم. فقد
أجل فيليبي الثاني ذلك تفاعلا مع الرأي العام. ولكنّ فيليبي الثالث طردهم مرغما
لأسباب سياسية وفق تصوّره. فقد كان ملك فرنسا إنريكي الرابع يحثهم على التمرّد.
وبدأ التململ يظهر بالفعل في صفوفهم، أضف إلى ذلك لجوؤهم إلى "الانتقام"
من مغتصبي حقوقهم الذي وصل حدّ الاغتيال.