عكس
محاولات التبرير لـ"فاروق بوعسكر"، رئيس الهيئة العليا للانتخابات في
تونس، كانت نسبة الإقبال كارثية، بكل المقاييس، على مشروع الرئيس وخارطة طريقه
التي أريد لهذه
الانتخابات أن تكون تتويجا لها بشرعنتها دستوريا وتأكيد مشروعيتها
شعبيا.
فنسبة الإقبال التي تم الإعلان عنها بشكل رسمي يوم أمس، لم
تتجاوز 8،8 بالمئة من الجسم الانتخابي، ما يعني أن نسبة العزوف بلغت نحو 91،2
بالمئة، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الانتخابات في تونس منذ 2011 إلى آخر
انتخابات حرة ونزيهة جرت في البلاد سنة 2019، إضافة إلى كونها أسوأ نبة مشاركة في
الانتخابات في العالم.
هذه النسبة هي في الحقيقة، كارثية، لأنها تمثل انهيارا
كاملا لشعبية الرئيس الذي فاز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت سنة 2019 بنحو
72،71 بالمئة من أصوات الناخبين.
وهي كارثية لأن منظومة
قيس سعيد سخرت لإنجاحها، كل مؤسسات
الدولة وأجهزتها، وفرضت هيئة انتخابات مطعون في استقلاليتها، إضافة إلى محاولات
تكميم أفواه الصحافيين ومنعهم من نقل الصورة الحقيقية لمكاتب الاقتراع الخاوية على
عروشها، علاوة على التضييق على النشطاء والمراقبين، ومنع العديد من الجهات
والأحزاب وقوى المجتمع المدني من القيام بدورها الرقابي.
وهي كارثية أيضا لأنها تبرز مقاطعة شبه تامة لفئات مثلت
النسبة الأكبر من المصوتين للرئيس في انتخابات 2019، وكانت الرافعة الأساسية لمشروعه
قبل وبعد 25 يوليو، وهم المهمشون والفئات المفقرة والشباب.
وتُبرز الإحصائيات أن نسبة المقاطعة لمن
تتراوح أعمارهم بين 18و 25 سنة بلغت نحو 96،2 بالمئة وقاربت هذه النسبة لدى الفئة
العمرية من 26 إلى 45 السنة الـــــ 95 في المئة بينما بلغت هذه النسبة لدى من
تتراوح أعمارهم بين 45 و60 سنة 83،3 بالمئة، أما النساء، وهن شريحة هامة ومؤثرة
جدا في عمليات التصويت في تونس فبلغت نسبة المقاطعة لديهن 94،7 بالمئة، فيما بلغت
نسبة المقاطعة في الدوائر الانتخابية بالخارج 99 في المئة، ولم تتجاوز نسبة
المشاركة لدى هذه الفئة التي مثلت تحويلاتها بالعملة الصعبة متنفسا هاما للاقتصاد
التونسي، 1 بالمئة.
وهي كارثية لان المطلوب الأساسي من هذه الانتخابات كان
إفراز مجلس نيابي يحظى بتأييد شعبي كبير، ظاهريا على الأقل، بما يبرر الخطوات التي
أقدم عليها الرئيس، وبما يغطي على الانقلاب الذي قام به على البرلمان الشرعي
بتجميد نشاطه أولا ثم حله في مرحلة ثانية.
والى جانب إفراز برلمان يحظى بتأييد شعبي
واسع، كانت هذه الانتخابات بمثابة استفتاء على مشروع قيس سعيد، وتزكية للخطوات
الأحادية التي اتخذها، وتجديدا للتفويض الشعبي الذي حظي به في 25 يوليو 2021
كما يدعي. فجاءت هذه النتائج لتعلن فقدان الانقلاب للحاضنة الشعبية والفئات
الاجتماعية التي كانت مساندة له ولمشروعه، ولتهدم المسار برمته وتنسف بالكامل كل الشرعيات
والمفاهيم التي بنى عليها الانقلاب مشروعه وأسس عليها سرديته،
هذه السردية، التي أعاد الرئيس عرضها مؤخرا، أمام وزير الخارجية
الأمريكي، تقوم على جملة من العناصر، منها أن البرلمان السابق فاقد للمشروعية، وهو
برلمان فاسدين ولصوص، باعوا وطنهم بعد أن باعوا ضمائرهم، إضافة إلى العنف والفوضى
التي استشرت فيه، لذلك بات حله -كما ادعى- مطلبا شعبيا، خاصة بعد أن تدهورت
الأوضاع السياسة والاجتماعية، وحتى الصحية بسبب وباء كورونا، وباتت البلاد على
مشارف حرب أهلية. وبما أن الرئيس مسؤول على امن البلاد ووحدتها واستقلالها، كان
عليه القيام بعملية تصحيحية لإنقاذها من المخاطر التي كانت تتهددها.
وحتى لا يحتج احد بشرعية وقانونية ودستورية البرلمان والحكومة
وبقية الهيئات الدستورية التي حلها قيس سعيد فيما بعد، استدعى الرئيس جملة من
المقولات والمفاهيم القانونية، ليؤسس عليها الجانب "النظري" إن شئنا من انقلابه،
ومنها مفهوم الشرعية والمشروعية، فالبرلمان وإن كان شرعيا فقدْ فقدَ مشروعيته التي
يستمدها من الشعب مباشرة، باعتباره صاحب السيادة الحقيقية وهو الذي يمنحها ويمكن
له سحبها في أي وقت ! ومن ثم جاءت بقية الشعارات والمفاهيم التي ارتبطت بهذه
السردية ومنها "سحب الوكالة" و"الشعب يريد" وهو "صاحب السيادة"
ولا سلطة عليه لا من مؤسسات ولا هيئات حتى وان كانت شرعية ومنتخبة.
وظل الرئيس يردد هذه السردية ويكررها، ولم تتح الفرصة للتونسيين
ليختبروا صدقية هذه الادعاءات، إلا في الانتخابات الأخيرة، صحيح كانت هناك محطات
أخرى سابقة كالاستشارة الإلكترونية التي انتهت في 20 مارس 2022 والاستفتاء
على الدستور الذي تم في25 يوليو الماضي ولكن تلك الرسائل لم تكن بالحزم
والشدة والوضوح وربما القسوة التي كانت عليها نسب المشاركة في التشريعيات الأخيرة.
فالأمر تجاوز هذه المرة، العزوف، كما تجاوز الاستفتاء على
مشروع الرئيس، إلى ما يمكن أن نسميه بـ"العقاب عبر التجاهل"، فالشعب
أراد من خلال هذا العزوف الكبير، أن يعاقب المنظومة الحاكمة التي تمادت في
الاستهتار بالدولة وقوانينها وبالشعب وأوجاعه، وعبثت بكل شيء من العلاقات الخارجية
إلى قوت التونسيين حتى بات الحصول على رغيف خبز أو علبة حليب أو كلغ من السكر أمرا
غاية في الصعوبة.
الشعب ارسل رسائل اكثر قسوة واشد إيلاما، وعبر من خلال
تجاهله لهذه الانتخابات ولدعوات الرئيس لتكثيف المشاركة فيها، عن درجة وعي عالية
جدا، واكد أن التونسيين الذين انجزوا ثورة الحرية والكرمة لا يمكن استبلاههم أو
فرض الوصاية عليهم كأنهم شعب قاصر.
لذلك اختار "وعيهم الجمعي" أن يعاقبوا حكامهم
بطريقتهم، فلم ينزلوا إلى الشارع هذه المرة، ولكنهم اعلونها ثورة هادئة صامتة، مثلما
فعلوا سنة 1981 عندما صوتوا للقائمات الخضراء لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين في
أوج حكم الزعيم الحبيب بورقيبة، أو التصويت للقائمات البنفسجية لحركة النهضة في
انتخابات 1989 زمن بن علي.
ولأن ما حدث بما يحمله من دلالات ورسائل، يمثل محطة هامة
ومفصلية في تاريخ البلاد، لا يمكن القفز عليها أو تجاهلها، كان لا بد من أن تترتب
على هذه الانتخابات نتائج سياسية، تمثل استجابة للرسائل التي أراد الشعب إرسالها
والتي يفترض أن تتلقاها الطبقة السياسية كلها وفي مقدمتها الرئيس...
أستاذ القانون الدستوري الأمين محفوظ، الذي كان من ابرز
داعمي قيس سعيد، اعتبر أن مقاطعة 92 بالمئة من التونسيين للانتخابات تعني سحب
وكالتهم من الرئيس في ممارسة مهام رئيس الجمهورية. في نفس السياق، اكد أمين عام
الحزب الجمهوري في تونس عصام الشابي، أن "الشعب نزع اليوم القناع عن مسار
الانقلاب بشكل نهائي" وطالب قيس سعيد بالتنحي.
أما جبهة الخلاص الوطني (تجمع لعدة أحزاب وشخصيات وطنية
وكتل برلمانية)، فدعت خلال ندوة صحفية عقدت امس إلى انتخابات مبكرة.
وقالت الجبهة أن قيس سعيد لم يعد رئيسا شرعيا، وأنها تدعم
تولي قاض رفيع إدارة فترة انتقالية لمدة 3 اشهر تكون أجندتها الوحيدة، إجراء
انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، ودعت القوى الوطنية إلى الالتقاء على هذا المطلب.
من جانبه قال الأمين العام لحزب العمال حمة الهمامي إن
“الانتخابات التشريعية تعد نهاية المسار الانقلابي من الناحية السياسية”. وشدد على
أن توجهات الرئيس كانت تهدف إلى تشريع المسار الانقلابي. وقال الهمامي إن “..
الحوار الوحيد مع منظومة قيس سعيّد هو إسقاطها إذا أردنا فعلا إنقاذ تونس”. أما
عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر (يمثل جزءا من المنظومة القديمة ما قبل 2011)
فدعت لإعلان شغور منصب رئاسة الجمهورية وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة..
رسائل قاسية أرسلتها صناديق الاقتراع، ومطالب سياسية واضحة
تؤكد كلها على نهاية وفشل مشروع الرئيس وضرورة الذهاب إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها
كمخرج وحيد من النفق الذي دخلته البلاد بمفاعيل الإجراءات الاستثنائية لـ25
يوليو 2021..
فكيف سيتفاعل قيس سعيد ومن حوله مع هذه الرسائل؟ وهل سيكون
في مستوى اللحظة السياسية وما تتطلبه من قرارات شجاعة ومصيرية، على راسها القيام
بخطوات إلى الوراء والاعتراف بفشل هذا المسار ومجمل خياراته، والتأسيس في المقابل
لمسار تشاركي وطني جامع للخروج من الأزمة؟ أم أن العقل السياسي الذي قاد البلاد
إلى هذه الأزمة سيكون اعجز من أن يلتقط اللحظة، ومن أن يدرك عمق هذه الرسائل وما خلفته
من زلزال سياسي ستتردد أصداؤه في مختلف دوائر صنع القرار في العالم وفي الداخل
التونسي؟