تنقضي سنة
2022 بعد أيام، ويحل عام جديد (
2023)، وبين العامين تستمر حياة
البشرية متأرجحة بين الأمل والرجاء، والشك وضعف اليقين. فحياة الناس تتشابه في الكثير
من جوهرها مع حياة "سيزيف" في الأسطورة اليونانية، هذا الذي حكمت عليه
الآلهة حمل الصخرة فوق كتفه من قاع الجبل إلى أعلاه، وكلما اقترب من الوصول تتدحرج
الصخرة نحو الأسفل فيُعيد الكرة مرات ومرات، وبقي مصيره هكذا معلقا بين الأمل في
الخلاص وديمومة المعاناة.. فحياة البشرية في كوكبنا لا تختلف كثيرا عن سردية قصة
"سيزيف" في الأدب اليوناني القديم. ومع ذلك، تدور الحياة، ويتطلع الناس
إلى الأمل والتمني بالأفضل، أكثر مما يستكينون لليأس وعدم اليقين، بل يجهدون من
أجل ترويض الخوف، وترشيد خسائره على كينونة الوجود واستمرار الحياة.
لم يبق من عُمر العام الجاري (2022) أكثر من خمسة أيام، وندخل سنة جديدة (2023)،
تتطلع البشرية أن تكون أفضل وأحسن من سابقاتها. لذلك، الأمل معقود لأن يستعيد الاقتصاد
العالمي عافيته، ويتبدد الانكماش، ويعُمّ الرخاء والخير العام، وتُذكى روح الإنصاف
والعدالة الاجتماعية، وتُردم الفجوات بين الدول وداخل المجتمعات، ويشعر الناس بأن
لهم أشباها في الخلق، وأقرانا في الحقوق والواجبات، وأن خالقهم، الواحد الأوحد، لم
يُميّز بينهم، بل استخلفهم في الأرض ليكونوا معبرين صادقين عن إرادته، وأمدّهم بقيمة
العقل ونعمة الإيمان، لينتصروا لحقه وعدالة سلطانه.
لأن الغلو في الاعتداد بـ"الأنا" والانتصار لمتطلباتها أفضى بالضرورة إلى ضمور الإحساس بوحدة الخلق، رغم الاختلافات الطبيعية النابعة عن اختلاف الأديان والثقافات والحضارات، وتنوع الأوطان وتعدد البلدان، فكان أن توارى الشعور بالأمان والأمن الجماعيين، وسادت الحروب والتوترات والمنازعات، لتؤدي البشرية في سياق سريانها وديمومتها أكلافا لا حصر لها
بيد أن الواقع، بفعل تعقده، وتشابك مشاكله، وتضارب مصالح الخلق فيه، وتراجع
قيمه وضوابط سلوك بشره، دفع الناس إلى تغليب منطق "الأنا" والفردانية على
منطق الجماعة والمشترك الإنساني، ولأن الغلو في الاعتداد بـ"الأنا" والانتصار
لمتطلباتها أفضى بالضرورة إلى ضمور الإحساس بوحدة الخلق، رغم الاختلافات الطبيعية
النابعة عن اختلاف الأديان والثقافات والحضارات، وتنوع الأوطان وتعدد البلدان،
فكان أن توارى الشعور بالأمان والأمن الجماعيين، وسادت الحروب والتوترات والمنازعات،
لتؤدي البشرية في سياق سريانها وديمومتها أكلافا لا حصر لها.
نودع العام 2022 على وقع حرب عالمية ثالثة نشبت منذ الرابع والعشرين من
شباط/ فبراير 2022، حين قصفت القوات الروسية أراضي دولة أوكرانيا، ولم تتوقف عن
تدمير منشآتها وبنياتها التحتية، وقتل المئات من مواطنيها، ولا يُعرف على وجه
اليقين متى ستكون نهايتها، وبأي شكل ستُطوى فصولها.
فعلى الرغم من انحسار رقعة الحرب جغرافيا في بلدين جارين شكلا إلى وقت قريب
جسما واحدا، إلا أنها حرب ذات أبعاد عالمية وبأسلحة متطورة تابعة لمنظومتين
عسكريتين دوليتين، هما: المنظومة الروسية (الاشتراكية)، وغريمتها الغربية (حلف شمال
الأطلسي). لذلك، سيكون من الصعب الخروج من نفق هذه الحرب بدون خسائر مادية وتبعات وبشرية،
بل سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الغلبة لاستعمال القوة، والفوز لمن يقدر على
اللجوء المفرط إليها، لأن الحكمة تتطلب حلولا سياسية تفاوضية، متقاربة الأوزان من
حيث النتائج والمنافع.
العالم الذي وُضعت معالمه منذ القرن السابع عشر (معاهدة وستفاليا لعام 1648)، وظل أوروبيا أولا ثم غربيا لاحقا، لم يعد مقبولا لأن يبقى مهيمنا عليه بشكل مركزي من قبل الغرب، بل أصبح مطلوبا منه الانتقال من المركزية الغربية إلى التعددية المفتوحة على مراكز قوة جديدة في العالم
فما هو واضح وجلي أن العالم الذي وُضعت معالمه منذ القرن السابع عشر (معاهدة
وستفاليا لعام 1648)، وظل أوروبيا أولا ثم غربيا لاحقا، لم يعد مقبولا لأن يبقى مهيمنا
عليه بشكل مركزي من قبل الغرب، بل أصبح مطلوبا منه الانتقال من المركزية الغربية إلى
التعددية المفتوحة على مراكز قوة جديدة في العالم، من قبيل الصين، وروسيا، والهند،
ودول عديدة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. لهذه الاعتبارات لم يقبل الروس تحويل بلد
في تماس مع أمنهم القومي، أي أوكرانيا، إلى موطن للغرب وحلف الشمال الأطلسي، فأقصى
ما يمكن أن يقبل به الروس هو الإبقاء على أوكرانيا منطقة محايدة منزوعة القواعد،
وخارجة النفوذ العسكري لحلف الشمال الأطلسي.
ومن جهة أخرى، يَرث العام الجديد (2023) عن سابقه (2022)،
وضعا اقتصاديا منكمشا، موسوما بشُحّ الموارد الطبيعية الاستراتيجية (النفط، الغاز،
والمواد الغذائية)، وتقلص معدلات النمو، وارتفاع درجات التضخم، ونسب البطالة في
العالم. وكلها تحديات لا يُعرف على وجه اليقين هل تتمكن السنة الجديدة من
تجاوزها إيجابيا، أم ستظل ضاغطة على الدول والمجتمعات خلال القادم من الأعوام. ففي
كل الأحوال، ثمة أوضاع اجتماعية مُقلقة في بلاد المعمور، سماتُها تقهقر القدرة
الشرائية، وارتفاع الأسعار، وتزايد منسوب الفقر والهشاشة، وتوسع الفجوات
الاجتماعية. وكلها مظاهر سلبية، من شأنها التأثير العميق على أنسجة السلم والأمان
والعيش المشترك.
لا تبدو صورة العام الجديد (2023)، ونحن على أبوابه، سارّة وسهلة، بل يُرجح أن تحتاج البشرية إلى ردح من الزمن كي تستعيد عافيتها، وتُعيد ترميم صورتها من جديد، وأكثر ما تحتاج إليه أن تستعيد عقلها ورُشدها، كي تبني جسور الثقة والمحبة والاقتناع بالعيش المشترك بين كل مكوناتها
من
الأزمات التي سيواجهها العام الجديد، وهي في جوهرها قديمة ومتجددة، التغيرات
المناخية المتسارعة، وندرة المياه وشُحّ منسوبها في العالم، وخطورة موجات التصحر، وبالنتيجة
تزايد الأوبئة، واتساع دوائر الأمراض الخطيرة والفتاكة، بما فيها استمرار وباء
"
كوفيد 19"، وظهور أوبئة جديدة لا تقل خطورة عنه هذا الأخير. فالعالم
برمّته لم يغادر بعد مخلفات الوباء الذي ألمّ بالبشرية في ربيع 2020، بل ما زال المرض
يترنح، تعلو معدلاته في بلدان وتتراجع في أخرى، على الرغم من الإنجازات العظيمة
التي أسفرت عنها السياسات العمومية الصحية في الدول ذات الريادة، باكتشاف اللقاحات
بأنواعها، وفي زمن قياسي.
لا تبدو صورة العام الجديد (2023)، ونحن على أبوابه، سارّة وسهلة، بل يُرجح
أن تحتاج البشرية إلى ردح من الزمن كي تستعيد عافيتها، وتُعيد ترميم صورتها من جديد،
وأكثر ما تحتاج إليه أن تستعيد عقلها ورُشدها، كي تبني جسور الثقة والمحبة والاقتناع
بالعيش المشترك بين كل مكوناتها. ودون عودة العقل والرشد إلى الإنسان، بصيغة الجمع
وليس المفرد، لن تستقيم الحياة البشرية، وسيظل الناس سجناء سردية "سيزيف"
في الأسطورة اليونانية القديمة، أي استدامة المعاناة ودوامها جاثمة على صدورهم.