من
مسافة بعيدة، تبدو آلاف الخيام المهترئة في منطقة مأرب الصحراوية في وسط
اليمن
وكأنها كتل من سجاد تكسوها الأتربة الصفراء التي تميز المشهد في الصحراء القاحلة.
وتبعد أطول جبهة قتالٍ في اليمن بضع كيلومترات فقط. تكثر العواصف الترابية، وتصل
درجات الحرارة إلى قرابة 50 درجة مئوية في فصل الصيف. ومع ذلك، يعيش نحو 12,500
شخص في مخيم السويداء. من بينهم فاطمة، البالغة من العمر 12 ربيعا، والتي ترعى
أمها المصابة بسرطان مزمن.
زرت
مخيم السويداء في حزيران/ يونيو 2022، وهو مكان تتجلى فيه مأساة حرب اليمن الطاحنة
من وجوه عديدة: عائلات أُجبرت على الفرار من منازلها هربا
من القتال، ليس مرة واحدة فحسب في كثير من الأحيان، بل مرارا وتكرارا. ونُقل
العديد من قاطنيه من
مخيمات أخرى، وأُخرج البعض من مستوطنات عشوائية كانوا
يقطنونها في وسط اليمن، ولم يكن لدى البعض خيار آخر سوى الإقامة في المخيم حيث لم
يعد بإمكانهم تحمل تكاليف الإيجار في المجتمعات المضيفة.
في
وقت مبكر من ظهيرة أحد أيام شهر حزيران/ يونيو، كان الهواء مغبَرّا ومشبعا بالبخار
لدرجة يصعب معها استنشاقه، بيد أن مجموعة صغيرة من الأطفال وجدوا في اللهو خارج
الخيام ما يُسرّي عنهم قسوة الحرّ.
يبدو أن الزمن توقف هنا؛ إذ يفقد السكان الشعور بالوقت وتعاقب الأيام؛ كل يوم يبدو كسابقه: نفس الصراعات، نفس الهموم، نفس الشقاء. أي شيء جديد يحدث هناك يكون حدثا مهما، بما في ذلك قدوم الزائرين -نحن، في هذه الحالة- إلى المخيم
أما
الخيام ففضلا عن كونها بالية فهي أيضا مصنوعة مما تجود به البيئة المحيطة، وفيها
تتكدس العائلات تحت أسقفٍ مصنوعة من قطع مرقّعة من بقايا خيام متروكة وقطع
البلاستيك وأجزاء من حاويات من الألومنيوم. حرفيا يجمعون أي شيء يمكن أن يجدوه
لإيجاد سقف يظلِّهم، ولا يملكون إلا الدعاء أن يصمد مأواهم الهش المهلهل في مواجهة
العاصفة الترابية المقبلة.
يبدو
أن الزمن توقف هنا؛ إذ يفقد السكان الشعور بالوقت وتعاقب الأيام؛ كل يوم يبدو
كسابقه: نفس الصراعات، نفس الهموم، نفس الشقاء. أي شيء جديد يحدث هناك يكون حدثا
مهما، بما في ذلك قدوم الزائرين -نحن، في هذه الحالة- إلى المخيم.
يتحلق
الناس حولنا، بعضهم يدفعه الفضول، بينما عبّر آخرون عن غضبهم من نقص المساعدات،
لكن جميعهم يبدون منهكين ومحبطين. بالطبع، قليل من الذين يعيشون في مخيمات يُبدون
رضا تاما عن أوضاعهم المعيشية، لكن هناك مرارة خاصة يشعر بها الناس في السويداء.
صاح
أحدهم قائلا: "هل أحضرتم دواء؟"، بينما قال آخر: "أصيب والدي بسكتة
دماغية قبل أسبوعين. يلزمه الذهاب لزيارة طبيب متخصص، تعالوا معي لرؤيته".
اختلطت
الأصوات في المخيم، كلّ يتحدث عن احتياجاته، على أمل أن يلقى آذانا مصغية. استمعنا
لهم بأناة، قبل أن نذهب في النهاية مع فتاة صغيرة طلبت منا رؤية والدتها.
تبعناها
إلى خيمتها، وبالقرب من المدخل كانت هناك بركة مياه راكدة تفوح منها رائحة الصرف
الصحي. سحبت الفتاة بطانية قديمة اتخذوا منها بابا للخيمة. كانت والدتها بالداخل.
كانت امرأة نحيفة لدرجة أنها بدت صغيرة الحجم مثل الأطفال. كانت ترقد على مرتبة
رقيقة في المنطقة المفتوحة داخل المأوى، الذي كان يتألف من خيمتين قديمتين تربط
بينهما سجادة تؤدي دور السقف.
اسمها
"مُغنية"، وهي أم لثلاثة أطفال من شمال اليمن انفصلت عن زوجها، وهي
مصابة بسرطان مزمن. بات مستحيلا تخمين عمرها بسبب الإعياء الشديد الذي تعانيه
وتأثير المرض.
الصغيرة
فاطمة، البالغة من العمر 12 ربيعا، هي من يعتني بالأم التي تصارع الموت، فضلا عن
شقيقيها. من الوهلة الأولى تبدو فاطمة طفلة، لكنها لم تبدُ أو تتصرف مثل الأطفال،
فقد أضافت المسؤوليات الملقاة على عاتقها سنوات كثيرة إلى عمرها.
قالت
فاطمة: "أنا المسؤولة عن الاعتناء بأمي، أُطعمها وأساعدها في ارتداء ملابسها
وفي الاستحمام وآخذها إلى الحمام وأجهز فراشها. أنا أتولى مسؤولية كل شيء
هنا".
وأضافت:
"كنت أذهب إلى المدرسة ووصلت إلى الصف الرابع، ثم انقطعت عن المدرسة منذ 3
أو 4 سنوات عندما مرضت أمي. كنت أريد أن أصبح طبيبة! وأن أعالج الناس. لكن لسوء
الحظ، اضطررت للانقطاع عن الدراسة لعدم وجود أحد يعتني بوالدتي. لحسن الحظ، ما
زالت أختي تذهب إلى المدرسة".
الوضع
المأساوي الذي تعيشه مغنية أمر شائع هنا. يحتاج الكثير من النازحين المستضعفين إلى
الحصول على خدمات الرعاية الصحية بشكل عاجل ومنتظم، ومن بينها الرعاية المتقدمة.
لكن يحول العنف والصعوبات الاقتصادية وتدهور الخدمات الصحية والبنية التحتية
الصحية بشكل متزايد دون تمكن الناس من الحصول على الرعاية الصحية الأساسية التي
يحتاجون إليها، وخاصة النساء والفتيات.
قالت
لنا مغنية بعدما نهضت من قيلولتها: "من المفروض أن أتلقى العلاج في مركز
لعلاج السرطان في المكلّا، التي تبعد مئات الكيلومترات عن المخيم. لا أستطيع تحمل
تكلفة التنقل بين جلسات العلاج ولا يقوى جسدي على تحمل مشقة الرحلة الطويلة. أنا
الآن جالسة في خيمتي أنتظر الموت ليخلصني من هذا العذاب".
جدير
بالذكر أن 73 في المئة من النازحين المقدر عددهم بنحو 4.2 ملايين شخص منذ بدء
النزاع في اليمن هم من النساء والأطفال. وتلاقي النساء والفتيات النازحات مصاعب
اقتصادية واجتماعية إضافية ينتج عنها محدودية فرص حصولهن على جميع الخدمات
الأساسية، ولا سيما الرعاية الصحية.
ويكون
الأمر معقدا بشكل خاص للنساء والفتيات؛ فبالإضافة إلى معاناتهن من أوجه الضعف
الاقتصادي، تتردد الكثير من النساء اللائي يعشن بالقرب من جبهات القتال قبل
الإقدام على التنقل التماسا للرعاية الصحية، خشية التعرض للتحرش أو الاعتداء
عليهن، ولا سيما في المناطق الريفية.
بعد مرور ثماني سنوات منذ اندلاع الأزمة، لم تعد أخبار اليمن تتصدر عناوين الأخبار العالمية، مع أن الوضع الإنساني هناك يزداد سوءا يوما بعد يوم. ولم تعد الأزمة اليمنية تحظى باهتمام عالمي، على الرغم من كون 80 في المئة من السكان -أي قرابة 20.7 مليون شخص من أصل إجمالي عدد السكان البالغ 30.5 مليون نسمة- بحاجة إلى مساعدات إنسانية
وبعد
مرور ثماني سنوات منذ اندلاع الأزمة، لم تعد أخبار اليمن تتصدر عناوين الأخبار العالمية،
مع أن الوضع الإنساني هناك يزداد سوءا يوما بعد يوم. ولم تعد الأزمة اليمنية تحظى
باهتمام عالمي، على الرغم من كون 80 في المئة من السكان -أي قرابة 20.7 مليون شخص
من أصل إجمالي عدد السكان البالغ 30.5 مليون نسمة- بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
وأدى احتدام الأعمال العدائية في مناطق مثل مأرب إلى تعريض النازحين الذين يتجاوز
عددهم مليون شخص في هذه المنطقة لخطرٍ كبير، فقد أجبرت أعمال العنف الكثير من
العائلات على الفرار من المخيمات في السنوات الأخيرة مع اقتراب جبهات القتال منها.
ومن ثم، ازدادت صعوبة حماية النازحين وضمان تمكنهم من الحصول على الخدمات
الأساسية.
واليوم،
تفشل التعهدات المالية والسياسية العالمية في مواكبة الاحتياجات الإنسانية الملحة
المتزايدة في اليمن. ونظرا لنقص تمويل جهود الإغاثة، اضطرت العديد من المنظمات
الإنسانية إلى تقليص برامج المساعدة التي تنفذها، ما يعني حرمان المزيد من الناس
من الخدمات الأساسية التي تمس الحاجة إليها، ومن بينها الدعم الغذائي والحصول على
المياه الصالحة للشرب والرعاية الصحية وخدمات الحماية والتعليم.
وقد
استنزف النزاع المحتدم الممتد منذ ثماني سنوات في اليمن قدرة السكان على التأقلم.
وليست
معاناة فاطمة وعائلتها فريدة من نوعها في هذا البلد، إذ ما يزال عدد لا يحصى
من العائلات في جميع أنحاء اليمن في حاجة ماسة إلى المساعدة والدعم، حيث يحتاج
ثلثا السكان إلى مساعدات إنسانية. لذا فمن الأهمية بمكان أن يُظهر المجتمع الدولي
التزامه المستمر تجاه الشعب اليمني.
(تصوير وجدي المقطري/ اللجنة
الدولية للصليب الأحمر)