لن أتكلم عن فلاسفة الإسلام بخصوص الرؤية الأبستمولوجية القائلة
بالإحاطة في النظر والعقد وبالتمام في العمل والشرع، فذلك بين لكل من له اطلاع
مثلا على معركة التهافتين بين الغزالي وابن رشد.
فتلك بداية المقابلة بين
الفلسفة القديمة قبلها والوسيطة بعدها عندنا
وعند غيرنا وبين المدرسة النقدية العربية التي بدأت برفض الميتافيزيقا التي تؤسسها
والشروع في تأسيس إبستمولوجية تنفي الإحاطة والمطابقة مع الموجود واكسيولوجية تنفي
التمام والمطابقة مع المنشود.
وهذه الرؤية النقدية
قابلة للتماهي مع الرؤية القرآنية القائلة
باستحالتهما لوجود الغيب في الموجود وفي المنشود. فكل الفكر القديم الذي سيطر قبل
هذه المعركة وبعدها إلى بداية الفلسفة الحديثة فلسفيا كان أو كلاميا اكتفى ما سيطر
منه بالرؤية اليونانية أي الأفلاطونية والأرسطية بتوسط قراءة إفلوطينية للتوفيق
بين المدرستين.
لم يحاول فلاسفتنا ثم متكلمونا لما تبنوا الرؤية الفلسفية إلى الحد
الذي جعل ابن خلدون يعتبر التمييز بينهما (الفلسفي والكلامي) لم يعد ممكنا بعد
الرازي لم يحاولوا إدراك ما تتميز به الرؤية القرآنية في علاج هذه الإشكالية خاصة
بعد أن تحول الزهد إلى تصوف متفلسف ومتكلم متأثرا إما برؤية مسيحية أو برؤية
براهمانية بسيطرة الفكر الباطني فحال دونهم وفهم منزلة البدن مما جعل البعث البدني
مرذولا لديهم في شبه قول بالفتوة الإبليسية.
لذلك فسأكتفي بالنكوص الذي أعاد الفلسفة الغربية الحديثة بعد نقد هيغل
وماركس لميلها إلى الرؤية النقدية التي بلغت الذروة عند كنط ما كان مسيطرا على
الفلسفة اليونانية القديمة والوسيطة التي مثلها الحل الأفلوطيني الموفق بين إفلاطون
وأرسطو.
والمعلوم أن رد الفكر الصوفي إلى تأثير المسيحية يمثل مدرسة يمثلها
ماسينيون وحتى أرنالداز قبله تقابلها مدرسة ثانية رد فيها ماكس هرتون على ماسينون
في تفسير تصور الحلاج.
وقد نشرت ترجمة نصه منذ أكثر من عقدين وفيه يثبت وفاء تأويل ماسينيون
لتصوف الحلاج. وقد نشرت الترجمة سابقا في مجلة الحياة الثقافية التونسية ثم نشرت
في موقع حكمة السعودي وهو نص أساسي في فهم تنافس الرؤيتين المسيحية والبراهمانية
على الرؤية الصوفية.
لكن الرؤية الصوفية لها علاقة أخرى أعمق من تمثيل هذين الفكرين
اللذين اخترقا نظرية الزهد الإسلامية التي لا تعني التخلي عن الحظ من الدنيا إذ لا يزهد إلا من كان يملك حظه
منها فيزهد فيه بالتعالي عليه دلالة على أنه هو ربه وليس مربوبه.
ومن لا يملك ما يزهد فيه ويعيش عالة على الصدقات زهده دليل تخل عن
نصف مهمة الإنسان أي تعمير الأرض مدعيا أن الاستخلاف ممكن من دونه.
زال الفرق بين القولين الفلسفي والديني في علم الكلام الإسلامي والفقهي أعني البعد الواصل بين الديني والسياسي والذي كان فيه لابن خلدون موقف يميز بين المجاهدات المشروعة والمجاهدة المحظورة دينيا وفلسفيا
وإذن فالتصوف اخترق هذه النظرية في الزهد كما اخترقت الفلسفة القائلة
بالمطابقة بين العلم والموجود في النظر والعقد وبالمطابقة بين العمل والمنشود في
العمل والشرع.
فزال الفرق بين القولين الفلسفي والديني في علم الكلام الإسلامي
والفقهي أعني البعد الواصل بين
الديني والسياسي والذي كان فيه لابن خلدون موقف
يميز بين المجاهدات المشروعة والمجاهدة المحظورة دينيا وفلسفيا:
ـ فالتصوف المتأخر القائل بوحدة الوجود
بأصنافها الثلاثة التي ميزها ابن خلدون وخاصة تصوف الوحدة المطلقة متأثرا
بالباطنية وهو من أهم أدوات اختراقها للسنة. وقد وصله ابن خلدون بما بين التشيع
والتصوف من تماثل في تأليه الإنسان سواء كان ممثلا للإمامة السياسية أو للقطبية
المعرفية.
وهو أشار إلى ذلك وأشار خاصة إلى التلاحم بين الفلسفي والصوفي في
الباطنية وضرب مثال ما قاله ابن سينا في الإشارات من ضرورة وجود القطبية الإمامية
حتى يتأسس التشريع والدولة.
ـ يختلف تماما عن المجاهدتين المشروعتين
أعني مجاهدة التقوى ومجاهدة الاستقامة اللتين هما في الحقيقة جوهر الزهد ولا علاقة
لهما بالتصوف الذي يدعي الرياضة من اجل الكشف المزعوم أي ما يعود إلى رؤيتي
الفلسفة في المطابقة المعرفية والقيمية ولكن عن طريق الوجدان القلبي وليس عن طريق
البرهان العقلي.
وفي كل هذه الحالات يبقى المشكل اللغز الإنساني وعلاقته بالربوبية
فوقه وبالعالم دونه لكأن العالم صار ما يرمز إليه مفهوم الخلق من تراب والربوبية
مفهوم النفخ الإلهي والفصل بينهما يؤدي إلى رؤية تنتهي إلى تأليه بعض البشر
المصطفين واعتبار البقية "أنعاما" هم رعاتهم.
وهو موقف يتنافى تماما مع الرؤية التي تستنج من تعريف ابن خلدون
للإنسان ترجمة للأنثروبولوجيا القرآني بوصفه "رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف
الذي خلق له".
وهكذا فقد وصلنا إلى قلب الإشكالية كلها في محاولتنا فهم العلاقة بين
قطبي "الأنا" أو "الذات" (بالمعنى الحديث لأن الذات في معناها
القديم هي الموضوع المتعين الذي يحمل الأعراض وقد حصل لها ما حصل
"لسوجي" في اصطلاح الفلسفية الأوروبية الحديثة).
لأننا سنجعل المنطلق في الكلام عليها
البداية الجديدة للفكر الفلسفي الذي ينطلق من مسألة إثبات وجود الذات أو الكوجيتو
بصورة صريحة رغم أن لهذه المحاولة سوابق كثيرة، لكنها لم تكن بصراحة العلاج
الديكارتي رغم أن إثبات الأنا يعرف في محاولته وكأنه "روح" بلا بدن لحصر
الاستدلال في أثبات الذات المفكرة عامة دون كلام على وجودها المتعين في بدنها لأن
إثبات العالم المتمدد لن يأتي إلى في المرحلة الخامسة:
1 ـ عجز
الشيطان المخادع على نفي وجود الذات الشاكة.
2 ـ اثبات وجود الذات المفكرة باعتبار كوجيتو=افكر
كانت دوبيتو=اشك.
3 ـ استخراج المعيار المحدد للفكر المتغلب على
التشكيك: قيسا على يقين "افكر"
4 ـ إثبات وجود الله: فـ"الأفكر"يشك لنقص
متضايف مع مفهوم الكمال.
5 ـ والتضايف
بينهما يقيني في الفكر المتغلب على التشكيك فيؤدي إلى الثقة في عدم خداع الكامل
وبذلك يمكن تأسيس الخروج من انطواء الكوجيتو والتسليم بوجود حقيقي للعالم الطبيعي
بريء من خداع الجني الخبيث.
فلا يمكن لله الكامل أن يكون مخادعا: وتلك هي الضمانة الإلهية التي
تؤسس التخلص من الانطواء فتم الخروج من تأسيس الفكر على الميتافيزيقا إلى تأسيسه
على الميتااثيقا (تلك هي ثورة ديكارت وبداية الفلسفة النقدية الغربية). والفرق بين الشكين عند الغزالي وعند ديكارت لم
يكن في طبعية الاستدلال بل في الغاية من التأسيس العلمي والعملي:
الغزالي جعل الهدف من شكه إنقاذ نفسه من الضلال فوجد الحل في التصوف
والتخلي عن شروط التعمير يأسا من تأسيس بديل من نظرية العلم والعمل السابقتين
متصورا أن الكشف الصوفي يحقق ما يعجز دونه العقل فنكص إلى القول بالمطابقة والتمام
القديمين لتبنيه في الغاية فلسفة ابن سينا.
ديكارت جعل الهدف من شكه إنقاذ العلم والعمل فوجد الحل في شروط إثبات
وجود العالم والسلطان عليه ـ سيد الطبيعة ومالكها ـ والتخلي عن القول بالإحاطة في
النظر والعقد وبالتمام في العمل والشرع معتبرا ذلك لا يتأسس إلا على الإيمان
بضمانة إلهية ضد خداع الجني الخبيث.
الغزالي جعل الهدف من شكه إنقاذ نفسه من الضلال فوجد الحل في التصوف والتخلي عن شروط التعمير يأسا من تأسيس بديل من نظرية العلم والعمل السابقتين متصورا أن الكشف الصوفي يحقق ما يعجز دونه العقل فنكص إلى القول بالمطابقة والتمام القديمين لتبنيه في الغاية فلسفة ابن سينا.
ولحسن الحظ فإن حل الغزالي الذي نكص مرتين إلى التصوف ثم إلى فلسفة
ابن سينا لم يبق مسيطرا على المدرسة النقدية ممثلة: بابن تيمية في النظر والعقد وما يترتب
عليه في العمل والشرع، وبابن خلدون في العمل والشرع وما يترتب عليه في
النظر والعقد، فاستوت
المدرسة النقدية بما لا يبعد عما وصلت إليه في المدرسة النقدية الغربية التي أسست
الحداثة والتي نكصت بعد نقد النقد الهيجلي والماركسي غاية للمثالية الألمانية التي
انهت الحداثة ونكصت إلى علم كلام هو ما يسمى بما بعد الحداثة أو الميثولوجيا
الدنيوية بديلا من السماوية.
والفكر العربي الحالي جمع بين الميثولوجيتين أي الفكرين الناكصين
السابق على ديكارت أي الإفلاطوني الأرسطي واللاحق على هيغل وماركس. ولا أحتاج
لبيان ذلك فيكفي أنهم جميعا يعتمدون معادلة الواقع عقل والعقل واقع.
ولا يفصلني عنهم جميعا سواء من كان منهم مبجلا للفكر الديني أو للفكر
الفلسفي منطلقا لنسقه إلا هذه الخرافة: فعندي أن الواقع ومثله العقل لا ندري ما
هما ومن ثم فالمعادلة باطلة لأنها بين مجهولين وهي تصادر على المطلوبين فلا تمكن
من حل اللغز: يبقى الإنسان عقلا وواقعا مجهولا.
لذلك فينبغي أن ننطلق من المثنوية الديكارتية ـ بدن آلي روح مفكرة ـ لأنها
تبدو بدهية وتكاد تكون الموقف السائد في الفكرين الفلسفي والديني بعده. فبين أن ما يظهر من الإنسان ينحو إلى فرض هذه الرؤية
المثنوية ـ بدن روح ـ سواء بالمعنى الأفلاطوني أو بالمعنى الأرسطي أو بالمعنى
الديكارتي أو بالمعنى الذي انتهى إليه الحل الكنطي الذي عمم المقابلة بين الظاهر
والباطن.
وحل كنط متناسق لأن وجود الإنسان الظاهر مثله مثل كل الموجودات
الأخرى خاضع لقانون الطبيعة بظاهره ومستثنى بباطنه ككل شيء في ذاته استثناء صار
بمقتضى المسلمات قابلا للعقد الذي تنبني عليه الأخلاق انبناء يشترط رؤية دينية
للوجود (المسلمات الثالث الصريحة وضميراها.
لكن الحل الهيغلي ألغى الحل الكنطي المعتمد على المقابلة بين الظاهر
والباطن عامة وأسس لوحدة الإنسان الذي حلت روحه في بدنه إن صح التعبير كما يتبين
من رمز المسيح الذي حلت الروح فيه فصار الإنسان آية الوجود الروحي في التعين
العضوي ذي الوعي بالإلهي والعلم المطلق الذي يحرره من الفرق بين الظاهر والباطن
الكنطيين، فيكون ظهور الموجود عين كيانه ولا شيء وراء الظهور الذي يمثل
"الماهنا = هذا الوجه من الوجود = ديس زايت" الذي ليس له "ما هناك
= ذاك الوجه من الوجود = ينزايت" يتعالى عليه.
وهو الحل الذي صار ماركسيا وإن بسلب الحلول الإلهي في الوجود
الإنساني (مستوى المصالحة في الروح الجزئي ويتحقق تماما في الروح الكلي الذي هو
تاريخ العالم بلغة هيغل).
وعندما نلغي الروح نعود إلى عين ما يلوم عليه هيغل سبينوزا أي عدم
اعتبار الجوهر ذاتا أي أن مادية ماركس هي عين طبعانية سبينوزا فتكون الطبيعة طابعة
ومطبوعة في آن أي علة ذاتها "كاوزا سوي".
فتكون النتيجة بخلاف ما يتوهم الكثير ليس نهاية الدين بل نهاية
الفلسفة التي تحولت إلى علم كلام ديني موجب عند هيجل وعلم كلام سلبي عند ماركس وفي
الحالتين صار الإنسان بديلا من الرب إما بحلول الثاني في الأول أو بتخلص الثاني من
الأول. صارت إما دينية بالإيجاب أو دينية بالسلب.
فعادت الفلسفة إلى الميثولوجيا التي هي جوهر التاريخ: صراعات الآلهة
في المثيولوجيا القديمة صارت صراع أرواح الشعوب عند هيجل وصراع الطبقات عند ماركس.
فالصراع لم يعد بين الآلهة الخرافية
بل صار بين البشر في التاريخ المعيش. وهو صراع إما بين أرواح الشعوب عند هيغل أو
بين طبقاتها عند ماركس. وهما وجهان لنفس الرؤية التي تجعل التاريخ الإنساني لا
يختلف عن التاريخ الطبيعي إلا بتحييث الإلهي فيه إيجابا (هيغل) أو بتحييثه سلبا
(ماركس)، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الخطاب الماركسي إلا في حرب دائمة مع الأديان
في محاولة لتخليص ما يسميه مادية جدلية منها وجعل السياسة بالأساس حربا دائمة
عليها.
إذا قبلنا بأن العلاقة بين الإنساني والإلهي سواء أثبتت أو نفيت تبقى
علاقة لا بد منها بأحد الوجهين أو بهما معا مناوسة بينهما في الكلام على أي منهما
فإن الإشكالية هي هذا التلازم وليس الخيار بين الموقفين المثبت أو النافي أو
المناوس بين الإثبات والنفي.
الصراع لم يعد بين الآلهة الخرافية بل صار بين البشر في التاريخ المعيش. وهو صراع إما بين أرواح الشعوب عند هيغل أو بين طبقاتها عند ماركس. وهما وجهان لنفس الرؤية التي تجعل التاريخ الإنساني لا يختلف عن التاريخ الطبيعي إلا بتحييث الإلهي فيه إيجابا (هيغل) أو بتحييثه سلبا (ماركس)، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الخطاب الماركسي إلا في حرب دائمة مع الأديان في محاولة لتخليص ما يسميه مادية جدلية منها وجعل السياسة بالأساس حربا دائمة عليها.
وهذا هو الأمر الذي يعنيني في هذه المحاولة. ذلك أن الإثبات والنفي
كلاهما مستحيل الإثبات وما لا يمكن التخلص منه هو:
ـ التلازم بينهما بالاثبات أو بالنفي في
كل تاريخ الفكر الإنساني الديني والفلسفي منذ أن عرفنا أثرا لهذين الفكرين.
ـ المناوسة بينهما التي هي الحالة
الفعلية الناتجة عن استحالة اثبات الإثبات أو النفي.
ـ أثر التلازم في المناوسة التي هي وضعية
يكون فيها الإنسان شبه مدفوع أحد القطبين إلى الثاني ما أن يصل إلى غاية الأول ثم
يستأنف الدفع بلا توقف جيئة وذهابا بين القطبين لكأنهما غايتان حدان.
ـ أثر المناوسة في التلازم الذي هو شبه
تلازم بين وجود أحد القطبين وعدم القطب الثاني بحيث إن الوجود والعدم يكونان في
وضعية التنادي المتبادل لملء الخلاء الذي يمثله العدم في الحالتين إما عدم الوجود
أو وجود العدم.
ـ وأصل ذلك هو ما دفعني لوضع نظرية المعادلة الوجودية التي تحدد
العلاقة بين الإنساني والإلهي بوصفها علاقة بين إرادتين حرتين وليست علاقة بين
عقلين كما تصور الفكر الفلسفي والفكر الديني إلى حد الآن.