شَكَّل
الحوار وسيبقى نقطة ارتكاز ومنطلقا لكل سلوك سياسي تروم جماعة العدل
والإحسان تأسيسه مع الفاعلين السياسيين، وذلك لإيمانها الراسخ بأهمية وضرورة
التواصل من جهة، ثم لاقتناعها التام، من جهة أخرى، بأن حقل السياسة مجالٌ للاختلاف
في الرؤى والبرامج وآليات تحليل الواقع وإصلاحه، ما يستوجب مد اليد وتمهيد الجسور
لتدبير أي اختلاف بين الفضلاء السياسيين سواء قبل أو أثناء أو بعد أي تغيير منشود.
وبما أن الحوار يشكل عصب السلوك السياسي عند جماعة
العدل والإحسان، وبما
أنه يُعَدُّ الآلية الوحيدة المنوطة بإجلاء وجهات النظر السياسية والتقريب بينها،
فإنه حَرِيٌّ بنا أن نناقش هذه المسألة الحوارية من خلال معالجة إشكالية مركزية
مفادها؛ ما مدى استراتيجية الحوار السياسي عند جماعة العدل والإحسان؟ ثم ما هي
الأسئلة الفرعية التي تتولد عن هذا الإشكال من قبيل: ما طبيعة الحوار السياسي الذي
تنشده الجماعة؟ وما هي أرضيته ولغته، أي بم سنتحاور، وكيف؟ وما هي الأخلاق والقيم الجديرة
بضمان نجاح أي حوار سياسي؟ ثم ما هو أفق هذا الحوار السياسي، وما هي غاياته
ومقاصده؟
أولا، طبيعة الحوار الذي تنشده العدل والإحسان:
من المعطيات الأولية التي يجدر بنا استحضارها، أن جماعة العدل والإحسان
حركة دعوية مجتمعية، تشكل السياسة ورشة من مجموع الورشات التي تشتغل عليها، وعلى
رأسها التربية بكل أبعادها، كما أنها حركة تسعى إلى إصلاح شامل يطال الفرد
والمجتمع والدولة، دونما عنف أو استنجاد بالخارج أو لجوء إلى السرية (لاءات ثلاث:
لا للعنف، لا للسرية، لا للتعامل مع الخارج).
من المستحيل على أي فاعل سياسي مهما بلغت قوته أو حجمه أن يحقق بمفرده عملية التغيير والإصلاح المجتمعي، بَلْهَ أن ينجح في عملية التعبئة والبناء التي تقود لتحقيقهما
وهي في هذا السياق تَعتبر أنه من المستحيل على أي فاعل سياسي مهما بلغت
قوته أو حجمه أن يحقق بمفرده عملية التغيير والإصلاح المجتمعي، بَلْهَ أن ينجح في
عملية التعبئة والبناء التي تقود لتحقيقهما. فضلا عن ذلك فإن الجماعة واعية تمام
الوعي بأن ما تم إفساده لعقود لا يمكن إصلاحه بضربة لازب، بل لا بد من إشراك كل
الفاعلين السياسيين الفضلاء، سواء كانوا أحزابا أو هيئات أو مثقفين أو زعامات
وطنية، مع تفعيل دور الشعب في اختيار المسار المنشود وإقرار أو رفض المشاريع
المقترحة. وهذا العمل الجاد لا يمكن أن يتم إلا عبر حوار مفتوح لا خطوط حمرا تقيده، وعلى مرأى ومسمع من الجميع.
على ذلك، فإن الحوار الذي تقترحه جماعة العدل والإحسان ليس حوارا نخبويا
محضا بل هو حوار عمودي وأفقي في نفس الوقت؛ فهو أفقي لأنه يتوجه ابتداء
للسلطة الحاكمة عبر النصيحة، ومثاله "رسالة الإسلام أو الطوفان" و"رسالة
القرن الملكية في ميزان الإسلام" اللتان وجهتا إلى الراحل الحسن الثاني (رحمه الله)،
ثم "مذكرة إلى من يهمه الأمر" التي وجهها أيضا الإمام عبد السلام
ياسين (رحمه الله) إلى الملك محمد السادس. في حين أن الصورة الأخرى للحوار الأفقي،
تتمثل في التواصل الدائم مع النخبات السياسي، إما عبر مكتوبات منها "حوار مع الفضلاء
الدمقراطيين" و"حوار الماضي والمستقبل" (حوار مع حاملي
شعار المشروعية التاريخية) و"حوار مع صديق أمازيغي" و"الإسلام
والقومية العلمانية" (وهو حوار مفتوح مع العلمانيين القوميين) ثم "الإسلام
والحداثة" (حوار مع الحداثيين) أو عبر منشورات من قبيل، "من أجل
حوار إسلامي مع النخبات
المغربة" (pour un dialogue islamique avec l’elite
occidentalisée)، ووثيقة "جميعا
من أجل الخلاص"، ناهيك عن تخصيص باب ثابت في مجلة "الجماعة" تحت عنوان "الحوار"؛ يقول فيه الأستاذ
عبد السلام ياسين رحمه
الله في العدد الثالث: "هذا باب دائم بحول الله في مجلتنا هدفه اللقاء
والتبادل الفكري، ونعلم بالتجربة أن غلق الأبواب والتزمت أسلوب غير إسلامي" (ص:
135).
كما أن الحوار السياسي مفتوح على كل الفاعلين حتى أكثرها مهاجمة للحركة
الإسلامية، حيث جاء في العدد الأول من مجلة "الجماعة": "إننا يا
معشر الاشتراكيين نود أن نقرأ معكم كتاب العالم ونتعاون معكم على فهم مشكلات
أمتنا.." (ص: 42). أما ما يخص الحوار الأفقي فيتم عبر الحضور الوازن
والفعال لأعضاء الجماعة في النقابات والجمعيات والتنسيقيات المهنية ومعظم
المنتديات العامة، بغرض التواصل الممكن مع أوسع الشرائح.
ثانيا، الوعي بوعورة أرضية الحوار واختلاف لغاته:
واقع الاختلاف يحتم البحث عن لغة مشتركة للحوار وهو ما يتطلب أولا، الوعي بضرورة المرونة، ثم ثانيا، التركيز على المتفق عليه في مواجهة وتقويض دعائم الفساد والاستبداد، عوض الخوض في معارك هامشية حول الهوية والحريات الفردية التي لن تزيد النسيج السياسي الممانع إلا تمزقا ونفورا دون فائدة ترجى
في واقع السياسة الذي تتجاذبه تيارات متباينة، يكون من الصعب إرساء أرضية
ثابتة للحوار، فكل طرف يسعى أن يدمغه بفلسفته ويريده بلغته التي قد تكون لائكية أو
عقلانية أو قومية أو كونية.. والعدل والإحسان إذ تُسَلِّمُ بأن جل المغاربة مسلمون،
فهي تفترض أن تكون لغة الحوار على أرض الإسلام ووَفق أخلاقه وقيمه السامية. غير أن
واقع الاختلاف يحتم البحث عن لغة مشتركة للحوار وهو ما يتطلب أولا، الوعي بضرورة
المرونة، ثم ثانيا، التركيز على المتفق عليه في مواجهة وتقويض دعائم الفساد
والاستبداد، عوض الخوض في معارك هامشية حول الهوية والحريات الفردية التي لن تزيد
النسيج السياسي الممانع إلا تمزقا ونفورا دون فائدة ترجى.
على هذا الأساس، ترى جماعة العدل والإحسان أن أرضية الحوار السياسي شعارها
الأول والأخير "تقويض دعائم الفساد والاستبداد" من أجل مغرب
الكرامة والعدالة والحرية.
وبالرغم من كل الحواجز الفلسفية والأيديولوجية التي تعترض طريق الحوار من
حيث أرضيتُه ولغتُه، فإن الإمام عبد السلام ياسين يقول في كتاب "الإسلام
والقومية العلمانية": "في هذا الكتاب نصطنع اللغة التي يألفها
المثقفون لنحاورهم محاولين إسماع كلمة الإسلام" (ص: 5)، بل إنه يعتبر الحوار
مع الأغيار مسألة لا مناص منها، وهو ما يؤكده في كتاب حوار مع الفضلاء
الديمقراطيين حين يقول: "رغم كل هذه الحواجز لا مناص من محاورتهم ودعوتهم
ومجادلتهم ومناقشتهم ومراجعتهم بالصير والمعاملة الحسنة الصادقة نابعا من شعورنا
المخلص بواجب الدعاة حاملي الرسالة، فلا أقل من فعل ذلك أو بعضه فطانة سياسية،
وحنكة إنسانية ورفقا يتناسب مع مذهبنا ونيتنا في نبذ العنف مهما عنفوا علينا،
ونشداننا للأمن الاجتماعي لهذه الأمة" (ص: 18).
ثالثا، الأخلاق والقيم الضامنة لنجاح أي حوار سياسي:
أ- القَبول بالاختلاف والقَبول بالآخر: في عقيدة المسلم الاختلافُ
ناموس إلهي وسُنَّة كونية، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، لذا وجب التعامل
مع هذا المعطى القبلي بحكمة تفضي إلى التكامل عوض التصادم. فالكون على اختلاف
ظواهره مجبول على الانسجام والتكامل، وهذا الاختلاف هو الذي منح للحياة معنى؛ غير
أن الفرق بين الطبيعة والإنسان يكمن في اعتبار أن الإنسان يعي هذا الاختلاف ومسؤول
عن تدبيره، من ثم كان الإيمان بالاختلاف منطلقا أساسيا للقبول بالآخر المختلَفِ
معه سياسيا كما هو لا كما نريده.
ب- العيش المشترك: كلنا أبناء وطن واحد ويحكمنا مصير واحد، فإما أن
نعيش عيش الأحرار وإما أن نعيش عيش العبيد جراء سياسة "فرق تسد"، من هنا
تأتي أهمية المسألة الحوارية عند العدل والإحسان لتفويت الفرصة على أصحاب السياسة التفريقية.
وفي هذا الصدد يقول الإمام عبد السلام ياسين في كتابه الشورى والديمقراطية: "إنه
لا بد أن يتكلم الفضلاء الديمقراطيون مع الإسلاميين، إن لم يكن بدافع حب الحقيقة
والانصياع للكلمة السواء، فلا أقل من جسور التواصل والتفاهم لإحباط سياسة فرق
تسد" (ص: 339).
ج- الصدق والوضوح والمسؤولية: تتبرم العدل والإحسان من أي حوار
ينبني على المجاملات والمناورات والمقايضة على ظهر الشعب أو الحوار الاستهلاكي
الذي لا تلتزم أطرافه بمخرجاته. يشدد الإمام عبد السلام ياسين على شرط الصدق في
الحوار، حيث يقول في مؤلفه حوار مع الفضلاء الديمقراطيين: "أي نوع من
الخونة نكون وأي منافقين، إن نزلنا بالحوار معكم منازل المناورات على ظهر
الشعب" (ص: 78).
من ثمرات الحوار المرجوة صياغة ميثاق جامع نوضح فيه وجهة نظرنا ونقترح من خلاله مشروعنا إلى جانب كل الفرقاء وسائر الشعب، وذلك عبر نقاش عمومي يُتوج بصياغة نهائية تستمد مشروعيتها من سلطة الشعب
كما أن من ثمرات الحوار المرجوة صياغة ميثاق جامع نوضح فيه وجهة نظرنا
ونقترح من خلاله مشروعنا إلى جانب كل الفرقاء وسائر الشعب، وذلك عبر نقاش عمومي يُتوج
بصياغة نهائية تستمد مشروعيتها من سلطة الشعب. ويشهد على هذا الخيار قول الإمام في
نفس المرجع السابق: "صياغة ميثاق، ومناقشة ميثاق، وإشراك الشعب لتستنير
الطريق وينكشف ويعرف الحق، وتختار الأمة، وينفضح الدخيل، ويخزى المنافق" (ص:
6). وبهذا الترفع وحده عن النفاق والكذب والمناورات والمجاملات والمتاجرة
بالمواقف، يمكن ضمان الأمن السياسي والاجتماعي ومن خلالهما ضمان مصلحة المواطن الخاصة ومصلحة
الوطن العامة.
د- واجب الاعتراف: معناه أن نقرّ بالفضل لذويه إن كانوا أهل سابقة في نضال
أو لهم قدم ريادة في مجال سياسي ما، فلا يدفعنا التنطع والجحود إلى بخس الناس
أشياءهم، مهما كان دينهم وعقيدتهم. في هذا السياق يذكر الإمام ياسين محاورا
الفضلاء الديمقراطيين: "أما بعد، فقد كان سلفنا من المسلمين يتأدبون في
مجالس المطارحة والمناظرة مع الخصماء في الرأي بالآداب الرفيعة، تقربا وتحببا
وإيناسا وتبليغا. يسعهم التلميح إن خشي من التصريح استيحاش، وتتصدر الكلمة اللينة
الخطاب فتبسط أمام المتناظرين من أسباب الرفق ما يمهد للتفاهم دون أن يمنع الإنصاف
الذي يعطي كل ذي حق حقه. هكذا عرفوا الفضل لذويه حين يكتبون عن الفاضل أبقراط والفاضل
جالينوس. ما كان للوثنيَّيْن الإغريقيَيْن من فضيلة ولا قدم في الدين، لكن كان
لهما عبقرية في فنِّهِما، وزيادة علم. والفضل الزيادة. للمثقفين من الطبقة
السياسية فضل علوم، وفضل اهتمام بالشأن العام، وفضل معرفة بما يجري في العالم،
وبما يعني حاضر الأمة وتاريخها، وبما يتراءى في آفاق مستقبلها" (ص: 3).
رابعا، أهداف الحوار السياسي وغاياته:
يعد الحوار أقصر الطرق للتعرف على الآخر والاطلاع على رأيه واكتشاف طريقة
تفكيره، بدل المواجهة والصراع العلني والخفي. والحوار قيمة إيجابية سواء أدى إلى
نتائج أو لم يؤد، فهو سيرورة نحو التفاهم، ولا يعني ذلك أنه غاية في حد ذاته، بل
هو وسيلة لضمان أكبر قدر من التواصل والتعايش. كما أن الحوار في أدبيات العدل
والإحسان لا يعني دائما تحاشي نقط الخلاف الشكلية أو الجوهرية، والتركيز فقط على
نقط الالتقاء، وهو لا يعني فقط القول اللين والكلام الهامس المسر.
فضلا عن ذلك، فالحوار عندنا ليس ترفا فكريا ولا نزهة في عرصات الخطابة
الأدبية، ولا هو استعراض لعضلات الفكر، بقدر ما هو دعوة عامة، والدعوة نداء،
فالحوار وسيلة للدعوة ومقدمة لها. يقول الأمام ياسين في كتاب الشورى والديمقراطية: "الحوار عندنا جدال بالتي هي أحسن وموضوعه ومضمونه وغايته إسماع
الدعوة" (ص: 103).
وهذا طبيعي تماما، فمن وراء أي حوار سياسي أو اجتماعي أو ثقافي أو اقتصادي
هناك دائما دعوة من كل أطراف الحوار إلى مرجعياتهم المتحكمة في أفكارهم التي
يعرضونها وينافحون عنها. ومع أن أهل السياسة قد دأبوا على ادعاء الموضوعية وزعمهم
الانسلاخ من جلدهم وتقديمهم لمطالب مجردة، غير أن الواقع يؤكد أن الثعبان وحده من
يستطيع الانسلاخ من جلده، بالتالي فلا يصح للمتحاورين باسم جماعة للعدل والإحسان
أن يكونوا بِدعا من الناس ويتخلون عن دعوتهم وسط الدعوات المبسوطة والمعروفة في
الساحة السياسية. يقول الإمام ياسين: "حوارنا مع عمار الساحة السياسية
ضرورة سياسية وتبليغنا مقالة الإيمان واجب دعوي" (المرجع السابق، ص: 274).
من واجبنا السياسي أن نمد الجسور برفق ومحبة ووضوح ومسؤولية، حتى نعبر إلى إخواننا في البشرية ونتيح لهم فرصة العبور إلى ما ندعو إليه بعيدا عن وسائط الإعلام المضللة والمغرضة. إنه لا مناص من الحوار في عالم السياسة، ما يستوجب منا كثيرا من التسامي الفكري حتى يقابل الفكر بالفكر والمشروع بالمشروع؛ في أفق كتلة سياسية قادرة على مجابهة وتقويض دعائم الفساد والاستبداد
وتبقى الغاية الأسمى لمسألة الحوار السياسي عند العدل والإحسان بعد التفاهم
والتقارب؛ وضع ميثاق جامع. ولا يفهم من الميثاق مجرد بنود ذات صياغة قانونية صرفة،
وما هو لعبة سياسية نروم من ورائها ربحا سياسيا، ولا هو فخ سياسي ننصبه لغيرنا،
لا، ولكنه المخرج الوحيد، مخرج الصدق والوضوح والشفافية.
لنخلص في آخر هذا المقال إلى أن الحوار بالنسبة لجماعة العدل والإحسان ليس
خطة تكتيكية أو آلية للمناورة، ولا هو مرتبط بزمن الأزمات والتحالفات، وإنما هو
مطلب استراتيجي دائم الحضور سواء قبل التغيير أو أثناءه أو بعده، لأن الحوار عقيدة
قرآنية وسنة نبوية وفطرة بشرية لا يمكن للتعايش ونبذ العنف أن يتم إلا من خلال
ترسيخه وحسن تدبيره.
لا جَرَم أن من واجبنا السياسي أن نمد الجسور برفق ومحبة ووضوح ومسؤولية،
حتى نعبر إلى إخواننا في البشرية ونتيح لهم فرصة العبور إلى ما ندعو إليه بعيدا عن
وسائط الإعلام المضللة والمغرضة. إنه لا مناص من الحوار في عالم السياسة، ما
يستوجب منا كثيرا من التسامي الفكري حتى يقابل الفكر بالفكر والمشروع بالمشروع؛ في
أفق كتلة سياسية قادرة على مجابهة وتقويض دعائم الفساد والاستبداد ونشدان مجتمع
العمران الأخوي، من خلال بناء دولة عادلة وظيفتها خدمة الإنسان، ومن خلال إرساء قيم
السلم والأمن والتكافل والتعاون بين الشعوب في أفق عالم يتسع للجميع.