سلَّمت سلطات
الاحتلال عائلة الأسير ماهر يونس قائمة مدججة بالممنوعات والاشتراطات ضمن التحضيرات التي تتعلق باستقباله، بعد أن أمضى في سجون الاحتلال مدة محكوميته البالغة أربعين عاما. وعُرِف من هذه الممنوعات: حظر نصب خيمة الاستقبال، ومنع الهتافات، والتجمع، ووصل بهم الأمر إلى حد التدخل في قائمة الطعام!! وأظن أنها تتصل بالكم والنوع، بهدف تحديد عدد المستقبلين والحشود القادمة للتهنئة.
ولا يخفى أن في قلب قائمة الممنوعات أيضا منع الفرح، ومصادرته مسبقا لاتصاله بالاستنهاض والاحتفاء بالمناضلين. وتماديا من حكومة الاحتلال في إجراءاتها العقابية ضد الأسير ماهر يونس، قامت شرطة الاحتلال بتفتيش منازل أهله وذويه ومعارفه؛ للتأكد من خلوها من الأعلام
الفلسطينية، فالعَلم أضحى مطلوبا ومطاردا من قبل المؤسسة الإسرائيلية المحتلة!!
ما يجب التنويه له، أن هذا الإجراء الاحتلالي العنصري لم يكن الأول، بل مارسته سلطة الاحتلال لدى استقبال المحرر كريم يونس، الذي تحرر قبل عشرة أيام، حيث أمر وزير الأمن الإسرائيلي بإزالة أي أعلام فلسطينية ترفرف في الأماكن العامة، معتبرا
العلم الفلسطيني راية من رايات الإرهاب، ومن يرفعه يكون داعما لمنظمة إرهابية. ولم يجرؤ على القول بأن موقفه العنصري البغيض نابع بالأصل من إدراكه العميق هو وكيانه، أن العلم الفلسطيني سلاح مشحون بالسردية الفلسطينية المصوبة إلى قلب الرواية الصهيونية المفبركة في صميمها، فأعطى بن غفير الشرطة "سلطة تقديرية غير مقيّدة لحظر التلويح بالعلم الفلسطيني في جميع الظروف".
معارك الدفاع عن حمل العلم ورفعه كرمز لحرية الشعب الفلسطيني واستقلاله ليست وليدة اللحظة، ولن تتوقف عند قرارات غبية وظلامية اتخذتها حكومات احتلالية متعاقبة، بل ستزداد وتتسع رقعتها على امتداد فلسطين التاريخية، ومعركة شبان حوارة مع مستوطن ممّن يسمّون أنفسهم "فتية التلال"، إثر محاولته نزع علم فلسطيني عن أحد الأعمدة لن تكون الأخيرة، بل هي بدايات لمسار طويل من التحدي والمجابهة للمحتل.
كم شهيدا سيسقط برصاص الاحتلال رافعا العلم الفلسطيني؟ وكم اشتباكا سيحصل بين الشبان الفلسطينيين ومؤسسات الاحتلال باختلاف بزاتهم (بزة الشرطة وبزة الجنود أو المستوطنين القتلة)؟ لا فرق في عرف الكنيست الإسرائيلي الذي يخترع كل ما يُمكنه من قوانين تقطر عنصرية وكراهية متصاعدة.
إن استهداف العلم الفلسطيني بهذه الحدة والتطرف من قبل حكومة الاحتلال، هو في دلالاته العميقة محاولة يائسة هدفها الأبعد تأكيد التنكر التام للحقوق الوطنية الفلسطينية، وإهالة التراب على القضية الفلسطينية، بما يستلزم من قبل الآلة الصهيونية المزيد من الفقد والمزيد من الحزن والانكسار، وغير ذلك من مآلات تدمير المنازل والمنشآت، وسرقة الأراضي، وإعادة بعْث مفردات النكبة المحفورة في وجدان الشعب ومدنه وبيوته.
ما يحدث من قمع وعدوانية احتلالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة يفوق الخيال، حيث الاقتحامات اليومية للمحافظات، خاصة محافظتَي نابلس وجنين، والإعدامات الميدانية، والاعتقالات، وعمليات الضم ومصادرة الأموال، والمرجح أنها ستتصاعد ارتباطا ببرنامج الحكومة الفاشية الجديدة، والاتفاقيات الائتلافية بين الأحزاب الدينية والصهيونية، التي ألزمت الحكومة السابعة والثلاثين نفسها بسنّ سلسلة من القوانين العنصرية؛ لإحكام قبضتها على الفلسطينيين، وتحويلهم إلى أقلية هامشية غير معترف بحقوقها. لذلك تتسابق أحزاب تلك الحكومة في وضع مشاريع القوانين على الطاولة.
ومن هذه القوانين قانون المواطنة، وقانون الإفلات من العقاب الذي يمنع تقديم نتنياهو للمحاكمة، ومن ثم قانون "التغلب" الذي يمكّن الكنيست من إعادة سن القوانين التي تلغيها المحكمة العليا لتناقضها مع قوانين الأساس، وقانون تعيين القضاة ورئيس المحكمة العليا، وقانون التمييز الذي يتيح لأصحاب المرافق عدم تقديم الخدمة للزبائن لدوافع دينية أو أخلاقية، وقانون إلغاء بند التحريض على العنصرية، الذي يمنع أي قائمة أو حزب أو شخص من المشاركة في انتخابات الكنيست بتهمة التحريض على العنصرية وغيرها.
أما على صعيد القوانين المتصلة بحياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، فسنكون أمام سلسلة من القوانين والتدابير بموجب الاتفاقيات الائتلافية الموقعة، التي تتجاهل وجود الشعب الفلسطيني تحت قوة الاحتلال، مركزة على يهودية الدولة، وحق الشعب اليهودي الحصري في تقرير المصير، بمعنى فرض السيادة على الضفة الغربية، ومواصلة عمليات الضم وبناء المستوطنات.
وممّا سبق، وبناء عليه، يمكن الاستنتاج بوضوح شديد أن خط البداية لحكومة نتنياهو الجديدة، يشي بكل ما هو عنصري وخطير وعدواني تجاه شعبنا وقضيته الوطنية ونضاله المشروع، وأن أجندتها الخفية تقوم على حسم الصراع لصالح إلغاء الشعب الفلسطيني، وإخراج قضيته عن الخارطة. وهذا الأمر ليس صعبا، بل مستحيل؛ لأن شعبنا ممثلا بحركته الوطنية ووعيه الوطني وتجربته الكفاحية، شبّ على الطوق منذ زمن طويل، ولديه مخزون نضالي وكفاحي قادر على تحدي تلك السياسات الفاشية وإلحاق الهزيمة بها، ولكن هذا الأمر لا يأتي من باب تحصيل حاصل، بل يحتاج إلى إدارة فلسطينية مختلفة نوعيا، تقوم أساسا على إعادة بناء القوة الفلسطينية الكامنة للشعب الفلسطيني، واستثمارها وتوظيفها في معركة المواجهة الحاصلة على الأرض، وصولا إلى تعبئة الرأي العام الإقليمي والدولي، والتأثير فيه بشكل جوهري؛ لتوضيح صورة دولة الاحتلال البغيضة المتنكرة لأدنى حقوق الشعب الفلسطيني المقرة والمعترف بها من قبل الشرعية الدولية.
لقد آن الأوان أن تغادر السلطة الرسمية خطاب الضحية المجسّد بالاستنكار والشجب محليا، والركون إلى المعركة الدولية؛ لأنه خطاب قاصر وفاشل في استحصال الحد الأدنى من الحقوق الوطنية، وشعبنا الفلسطيني أكد في عشرات المحطات أنه أهل للمنازلة، وعنيد في الدفاع عن حقوقه الوطنية، مهما علت التحديات وتعاظمت التضحيات.
(الأيام الفلسطينية)