ها هو القرن الثالث عشر الميلادي يلفظ أنفاسه الأخيرة وقد برزت حركة
في أوروبا وتحديداً في إيطاليا متأثرة بالإصلاح الديني الذي نادت به الكنيسة وهي
تتنفس تجديد الأسس الاجتماعية، وإحياء القيم الأخلاقية.
وما لبثت هذه الحركة أن تحررت من إملاء الكنيسة وجددت في مبادئها
موضوعات حساسة بأبعاد سياسية واجتماعية إلى جانب صوتها الديني الأصيل فصار الدين
زميلا للأصول مناكفا للتحرير الدخيل ومع الحرص على نظم الشعر القديم: نهاية العالم وعفة النفس
وإغاثة الفقير ويقظة الضمير، وحتمية الموت، ولكنه زاد كل تلك المواضيع تعميقا ومن
أشهر رواد هذه التوجهات جاكوبوني دا تودي الذي عرف بتسابيحه وأشهرها "بكاء
العذراء".
وفاض الأدب الإيطالي باللغة الدينية والصبغة التعليمية الهادفة، وكان النتاج الأدبي وسيلة لنشر المبادئ والمذاهب التي تدعم
حقيقة الإيمان؛ وساعد في ذلك وجود شريحة اجتماعية جديدة من القرّاء توّاقة إلى
اكتساب المعرفة والعلم، كما ساهم عدد من الأدباء في شمالي إيطاليا خاصةً في نشر
هذه الحركة الأدبية التعليمية وكان أشهرهم برونيتو لاتيني وگويتوني داريتزو.
هذه الحقبة التاريخية الحساسة كانت تتراقص أمامي وأنا أتابع الظهور
الإعلامي المتميز للدكتور
طارق سويدان في برنامج موازين والذي يقدمه الإعلامي د.
علي السند لفت نظري تلك التركيبة البنائية في عقلية طارق سويدان.
كان سويدان في حلقته ورشحاته الفكرية نتاج أنوار الإصلاح الأفغاني، وريشة التحبير
عند عبده ومصباح التحرير عند ابن عاشور وهو صدى لصيحة الكواكبي ويمين عزة لرجال
الفكر..
طبيعة الدين أن يكون حراً أو ألا يكون، لا مواربة ولا قلقا ولا لقلقة
[أنا مع خيار الشعوب] هكذا يعلنها د. طارق.
وفي ذلك تلميح إلى مفارقة الدين للقمع وأن الدين بات حبيس سجون
الطغيان أو هو يدور في رحى المستبدين!!!
ولا يقوم الدين إلا على البرهان العقلي وحرية الإرادة وهو ما يؤمن به
د. سويدان عند شطبه أي شعوذة.
لم نجده ينتقص من
الدعاة غيره ولا من طرقهم على الرغم من اعتماد الكثير على الوعظ والتخويف.
إن الدين كما جاء في الأصول الأولى حسب المفهوم من منطوق د.
سويدان ليس يداً تصفع الضعيف ولا فماً
يقبل يد السلطة كما أنه ليس بشكليات وطقوس وإنما هو قوت القلوب وحياة الفرد.
إن الواجب على أهل العلم والمعرفة ليس فقط امتلاك الحقيقة أو الدعوة
إليها بل البرهنة وعدم ضيق الصدر بمن يناقش. [ فكرة تجميل الإسلام].
إن الدين كما جاء في الأصول الأولى حسب المفهوم من منطوق د. سويدان ليس يداً تصفع الضعيف ولا فماً يقبل يد السلطة كما أنه ليس بشكليات وطقوس وإنما هو قوت القلوب وحياة الفرد.
يزعم البعض أن الدين صناعة بشرية تقوم على الاستقطاب والتكفير
والاختزال والتبسيط والانتقاء والتبرير وهذا ما يأباه سويدان بل نراه يبين أن
المشكلة ليست في الدين ولا دعاته بل من يصنع الوهن والوهم ويتنازل فهل إذا رفضنا
مشاريعه التي لا تنتمي إلى الأمة يقع اللوم علينا أم عليه؟
يقول المؤرخ الإغريقي [بلوتارك]: "لقد وجدت في التاريخ مدنا بلا
حصون، ومدنا بلا قصور، ومدنا بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد".
وكما يؤكد ذلك [ول ديورانت] في موسوعته العملاقة قصة الحضارة حين يقول: "ولا
يزال الاعتقاد القديم بأن الدين ظاهرة تعم البشر جميعًا اعتقادًا سليمًا".
فلا توجد قرية ولا نجع ولا حارة ولا حضارة ولا أُمة بغير دين، هذا
الكلام ثابت عبر الزمان والمكان..
ولذا تقول الكاتبة الإنجليزية الشهيرة [كارين أرمسترونج] في كتابها
الأخير مسعى البشرية الأزلي الله لماذا؟ ...؛ بأن الإنسان ليس homo sapiens sapiens وإنما هو homo
religiosus فالإنسان
ليس حيوانًا عاقلاً وإنما إنسان ديني، لعل هذه المعاني كانت متماهية في الوعي
الباطن للدكتور سويدان عندما أعلن تجرده
من القوة وانتسابه إلى الفطرة [نحن لم نمارس أي استثمار لأي منفذ سلطوي] وبين أنه
ضد الغواشي الخمسة:
ـ الاستبداد السياسي.
ـ الفساد المالي.
ـ شيوخ السلاطين الذين يشرعنون الاستبداد.
ـ أي تدخل أجنبي في بلادنا.
ـ الحركات الصهيونية
هذا الموقف العلني يمكن تسميته بالبواعث والقيم الناظمة لفكر رجل من
صناع الدعوة المعاصرة إعلامياً. ومع كل هذا الوضوح سأل د. سويدان ربه أن يكون ممن
ساهم في نهضة الأمة.
لفتة ذكية من د. طارق انفتاحه على الشعوب الغربية والتفريق بين
السياسة والشعوب وقد ذكر إحصائية محزنة تستبطن اللوم على المسلمين عندما قال عن
الشعوب الغربية إن ٩٠٪ سمعوا عن الإسلام من الإعلام
الموجه و٢٪ من المسلمين و٨٪ من غير
المسلمين.
وعلى الرغم من الأقدمية في السبق الدعوي ضمن ظاهرة الدعاة الجدد إلا
أنه لم يقطع حبل الود، مع العاملين في
الساحة، وترفع عن ذكر أي شخص بأي إساءة.
سويدان كان صريحا في موقفه ضد الإرهاب وضد الحركات الجهادية، وكذلك
لم يقبل بالانزواء وتلاشي التأثير بعد الثورات مع اعترافه بقلة النوافذ المتاحة.
قد يكون من الصحيح أنه قد واكب صعود الدعاة الجدد حالة من الصعود
الطبقي وتراكم الثراء لشرائح اجتماعية
معينة في بلدان العالم العربي لأسباب عدة منها الانفتاح الاقتصادي في مصر
وتعاظم أسعار البترول في الخليج وهي طبقات مثلت الجمهور الأول لهؤلاء الدعاة الذين أضحوا رموزا
في مجتمعاتهم، ولكن رفض د. سويدان عد هؤلاء الدعاة الجدد جزءا من سياق الدعاة
الحركيين وإن اتسموا ببعض السمات الخاصة.
تجلى الوعي العلمي في مشاركة د. طارق السويدان من خلال تخففه من
التكلف وتقريبه المفاهيم دون خلل أو تشويه. وصف (الدعاة الجدد)
بالحراك العفوي الذي بدأ بثلاثة أشخاص هو ود. عمرو خالد ود. محمد العوضي.
(الدعاة الجدد).. هذا المصطلح نحته وتداوله بعض الإعلاميين وكذلك بعض
الدوائر الغربية، ولا يجد د. سويدان أي غضاضة من هذا التوصيف الذي يجمع بين الدعوة والجديد، لكنه لا يرى أن اتفاقا
قد تم بين الدعاة الجدد في تأصيل منهجية واحدة، بل لكل ظروفه الفردية وتتعدد
اجتهاداته بحسب الخلفيات والاهتمامات المعرفية (كان للدراسة في الغرب والتأثر بالهندسة والإعلام ومنهجية البحث والعمل
السياسي دفعتني للتجديد في الطرح ولكل طريقة مختلفة ولا تخضع لأجندة حزبية والدافع
هو حب الله، والدعوة ليست نخبوية، وليست مقتصرة على أهل النفوذ والثراء) هذا ما
عرف به الدعوة د. سويدان.
(الدعاة الجدد).. هذا المصطلح نحته وتداوله بعض الإعلاميين وكذلك بعض الدوائر الغربية، ولا يجد د. سويدان أي غضاضة من هذا التوصيف الذي يجمع بين الدعوة والجديد، لكنه لا يرى أن اتفاقا قد تم بين الدعاة الجدد في تأصيل منهجية واحدة
[بعض الإخوة طرحهم التيسير والتخفيف، وأنا طرحي عقلاني ضد الشعوذة
وما ينافي العقل وفيه تواصل مع الغرب
والعلم الغربي] ولم يتغافل عن الثناء على
د. العوضي وأن جولاته فريدة في محاربة
الإلحاد والمنهجية العقلانية، ومع هذا يؤكد د. سويدان على عفوية العمل الدعوي
[وأنه ليس بيننا أي ناظم خفي إلا البروز الإعلامي].
رفض د. سويدان التيسير غير المبني على الحجة والبرهان، ويرى أن
التيسير موجود لكن المنهجية مفقودة. ويظهر في دعوته السعي لبناء وعي ديني بمفاهيم التعايُش السلمي، هنا تتم أنسنة الخطاب الديني بل وتهذيب الخطاب
التقليدي في دعم الخطاب الدعوي الجديد وإشراك المرأة وتوظيف الموسيقى في نشاطه
الإعلامي.
يرفض د. سويدان الفكر المتطرّف المبني على الفردية فهو فكر مأزوم باستمرار لأنه نتاج لبنى ليست
دينية بل مصنعة، قاصرة عن إدراك العلاقة
الجدلية بين الأصيل والدخيل والثابت
والمتحوّل. فالأصل أن كل حضارة كي تبقى قائمة لابد وأن تكون قادرة على تقديم
الإجابة عن التساؤلات المتجدّدة وتلبية الاحتياجات المتطوّرة للإنسان، والتعايُش
المشترك والسلم الأهلي من أهم أسئلة الوجود الاجتماعي والسياسي في عالمنا المعاصر،
ومن أبجديات الخطاب الدعوي عند سويدان
الإقرار بالاجتهاد والتفريق بين الصحيح والمعتل باعتبارهما من أهم ممكنات تحقيق
الشريعة وبناء الحياة المدنيّة.
السلم الأهلي والتعايُش التوافقي من أهم مفاهيم العمران البشري التي
تُقرّ بها جميع الحضارات.. الدعوة عند سويدان تعني تلازم الرحمة والتيسير المقترن
بالدليل وقبول التنوع ونبذ العنف؛ والإكراه؛ والتعامل الحضاري والسلمي مع أبناء
العالم اليوم.. وهذه الدعوة عند سويدان تعني:
أولا ـ الإقرار بعالمية الدعوة
ثانيا ـ رفض كل أشكال الاقتتال أو الدعوة للدم داخل المجتمعات
المسلمة
ثالثا ـ النأي عن الفكر المعنف في الثّقافة والدين والمذهب
رابعاً ـ عدم قبول تحويل الدين إلى سكين وهذا يعني الوعي المتحضر
بقوانين علم الاجتماع والتأثير والإقناع.
يمكن قراءة السمات الأساسية لخطاب د. طارق:
1 ـ تعزيز قيم التعايُش بين الإسلام والعصر.
2 ـ تكريس التعارف لا التدابر بين المكونات
الدعوية.
3 ـ إدماج الخطاب الإسلامي في منظومة الإعلام، بل وفي المنهج التعليمي
والخطاب الديني حتى يتم إكساب المجتمعات فكراً جديداً حول فهم الدين وعلاقته
بالحياة ضمن تعدُّد وتنوُّع الجماعات واختلاف مشاربها وهويّاتها.
4 ـ اعتبار هذا التعدُّد والتنوُّع مصدر
ثراء للمجتمع ومع هذا نقد الخطاب التقليدي
كل ما ندعو إليه من مفهوم القيادة والتغيير والإبداع والحضارة نريد من خلاله تجميل الإسلام للمسلمين وغير
المسلمين.
يقول د. سويدان: "إذا نظرنا إلى الإسلام على أنه خيط رفيع دقيق،
فإننا سنعد أي نقطة خارجة عن هذا الخط بمنزلة انحراف، والإسلام ليس كذلك، بل هو
نهر له ضفتان من خرج عنهما بالتفريط أو الإفراط خرج عن الإسلام، وبينهما نهر عريض،
ولأنه واسع، فإن نقاطا كثيرة تقع بين هاتين الضفتين، فنقطة قد تكون في الضفة
اليمين، بينما تكون الأخرى في الضفة اليسار لكن كلتيهما في ذات النهر، نهر الإسلام
الواسع ولأنه نهر فإنه يجري وليس ثابتا كالبحيرة. فهناك أصول ثابتة لا يمكن تجاوزها، وهناك قواعد راسخة لا يمكن خرقها، لكن
الفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان، لأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وليس من
سمته الجمود. ولأنه نهر والنهر تحكمه الضفتان، فمتى تجاوزت إحدى الضفتين وقعت في
إفراط أو تفريط، في غلو وتطرف أو في إهمال ولا مبالاة، في تشديد أو في تمييع
وكلاهما مذموم فهو ليس خطا دقيقا، بل يحتمل اختلاف الآراء لأنه واسع، ولكنه في ذات
الوقت له حدود لا يمكن تجاوزها.
هل نحن إزاء تراجع أم مراجعة؟ قناعة أم هزيمة؟ قنبلة سياسية أم
سكينة علمية؟ خطوة إنقاذية أم مشاغبات فكرية؟".
ويضيف: "نحن أمام مفكر متصالح مع دينه وشعوب العالم ولا يشتغل
بالخصومات ولا بالجماعات بل بالجمع على طريقة الملا رمضان البوطي عندما نصح ابنه
الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي فقال له (يا ولدي كل المسلمين جماعتنا ونحن جماعة
كل المسلمين)".