في الثاني من الشهر الجاري وصل إلى الخرطوم اللواء عباس كامل مدير
المخابرات
المصرية، والذراع اليمنى للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مسلحا
بمبادرة تهدف، على حد قوله، لتوسيع قاعدة المشاركة في الحكومة المدنية المرتقبة في
السودان، وطفق يجتمع بالكيانات السياسية المختلفة لإقناعها، على حد زعمه، بالتوافق
حول شكل الحكم بعد رحيل العسكريين، وعلى رأسهم عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس
السيادة، وجوقة الجنرالات الجالسة في القصر الجمهوري عن كراسي الحكم، كما يقضي
بذلك الاتفاق الإطاري الذي وقعه العسكريون مع القوى المدنية ممثلة في تحالف قوى
الحرية والتغيير (قحت) في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر من عام 2022.
درج اللواء كامل خلال زياراته المتكررة للسودان على الالتقاء فقط
بالبرهان ورهطه العسكريين، ولهذا لم يكن من العسف استنتاج أن حرصه على لقاء كيانات
سياسية مدنية هذه المرة فيه "إنّ"، التي هي عدم رضا مصر بما نص عليه
الاتفاق الإطاري، وتحديدا الاعتراف بقوى الحرية والتغيير ممثلة للقوى المدنية،
وصاحبة القول الفصل في شكل ومحتوى الحكومة المرتقبة، ولم يكن خافيا على مراقبي
المشهد السوداني منذ سقوط حكم عمر البشير في نيسان/ أبريل 2019 أن مصر غير مرتاحة
لقيام حكم مدني بالكامل في السودان، قوامه قوى لا تدين بأي قدر من الولاء لمصر كما
هو حال البرهان والعسكرتاريا السودانية.
رفضت قحت مبادرة كامل بحزم وحسم، باعتبار أنها تنسف كل ما تم التوافق
عليه مع العسكر حول خروج الأخيرين من السلطة، وميدان السياسة تماما، بعد جهود
مضنية وتضحيات بالدم والعرق، بذلها المعارضون لعسكرة الحكم في السودان، والذين ما
زال البرهان وأتباعه يشبعونهم رصاصا وسجنا وسحلا بالمجنزرات وغازات مسيلة للدموع
كلما ارتفعت أصواتهم في الشوارع.
عاد كامل إلى مصر، ثم تم الإعلان عن انعقاد ورشة "آفاق التحول
الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع" في الفترة ما بين 1 ـ 8 شباط / فبراير
المقبل، ويكمن بيت القصيد في عنوان الورشة "سودان يتسع للجميع"، أي أن
مصر ترى ضرورة إشراك قوى وكيانات جديدة في أي تسوية تتعلق بإقامة حكم مدني في
السودان، فإذا كانت القوى الرافضة للاتفاق الإطاري بين العسكر وقحت للانتقال إلى
الحكم المدني هي تلك التي دعت البرهان للانقلاب على الحكم المدني في 25 تشرين أول/
أكتوبر 2021، وكوفئت على ذلك بالمناصب والحلي والحُلل، فهل من الشطط القول بأن مصر
لا ترحب بخروج العسكر من قصور الحكم تماما، أو على الأقل تريد لوكلاء العسكر ان
يكونوا شركاء في الحكم، وبالتالي وكلاء لمصر في السودان؟
لا شك مطلقا في أن مصر وهي تتحرك بنشاط ممثلة في عباس كامل للإمساك بملفات الحكم في السودان، تحظى بمباركة البرهان لمساعيها، فقد قبل الرجل بالاتفاق الإطاري مكرها، بعد تنامي السخط الشعبي والدولي عليه، وبعد أن أدرك أن الكيانات التي باركت انقلابه كرتونية وبلا وزن أو سند شعبي،
كان من البدهي أن ترفض قحت المبادرة، التي صارت ورشة، المزمع عقدها
في القاهرة، "وذلك لأن الاتفاق الإطاري قد وضع أساساً جيداً لعملية يقودها
ويمتلكها السودانيون، وقد شكلت اختراقاً في مسار استرداد التحول المدني
الديمقراطي، مما يجعل الورشة متأخرة عن هذا السياق، وقد تجاوزها الزمن
فعلياً"، بل اتهمت قحت مصر صراحة بأنها تجعل من الورشة "منبراً لقوى
الثورة المضادة، يأملون أن يحتشدوا لتقويض الجهود الشعبية السودانية لاستعادة
المسار المدني الديمقراطي".
ولا شك مطلقا في أن مصر وهي تتحرك بنشاط ممثلة في عباس كامل للإمساك
بملفات الحكم في السودان، تحظى بمباركة البرهان لمساعيها، فقد قبل الرجل بالاتفاق
الإطاري مكرها، بعد تنامي السخط الشعبي والدولي عليه، وبعد أن أدرك أن الكيانات
التي باركت انقلابه كرتونية وبلا وزن أو سند شعبي، وكشخص أدمن الكذب والمخاتلة
ونقض العهود دون ان يرمش له جفن، فهو يرى في المسعى المصري مخرجا يجعل تبعة النكوص
عن التعهد بالعودة الى الثكنات العسكرية في عنق مصر.
كان لافتا أيضا أنه وبعد مغادرة كامل للسودان رشحت الأنباء عن اجتماع
القيادات العسكرية العليا في الخرطوم لبحث إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية،
والمريب في هذا الأمر هو أن البرهان ظل يرفض كل ما يقال عن ذلك الاصلاح في كل
محفل، مما يرجح أن كامل أوعز له بضرورة إجراء بعض الإصلاحات لجعل المؤسسة العسكرية
أكثر "قبولا" لدى
الرأي العام السوداني، بحيث يكون استمرارها في
المشاركة في الحكم او الانفراد به "أكثر قبولا" أيضا.
الشعور العام لدى السودانيين اليوم هو أن مصر تستخف بهم كشعب ودولة
وإلا كيف تستضيف فعالية تتعلق بشكل الحكم في السودان، تنسف كل ما تحقق لإخراج
العسكر ـ برضائهم ولو شكليا ـ من دهاليز الحكم؟ وكيف تبرر اللعب على المكشوف لخلق
تحالف وائتلاف جديد يحكم السودان ويكون مسقط رأس الائتلاف ـ التحالف هو القاهرة،
رغم الادعاء بأن الأمر حوار سوداني ـ سوداني؟ ومن أرادوه حوارا سودانيا خالصا (دول أوروبية وعربية والولايات المتحدة)
حرصوا على أن يكون ذلك في السودان في حضورهم فقط ك"ميسرين" وليس وصاة
كما تريد مصر.