تجري
الانتخابات التشريعية
التونسية في سياق أزمة سياسية ومجتمعية لافتة.
فمن المعروف أن تونس دخلت، منذ صدور القوانين الرئاسية الاستثنائية في 25 تموز/
يوليو 2021، في تجاذب حاد بين مؤسسة الرئاسة ومعظم القوى والأحزاب السياسية.
وحيث أن الأمر يتعلق برؤيتين مختلفتين لما يجب أن تكون عليه تونس: رؤية
الرئيس المنتخب التي تجهد من أجل إعادة بناء النسق السياسي التونسي على منطق
وتوازنات جديدة، ورؤية القوى التي قادت العمل السياسي منذ سقوط النظام في كانون
الثاني/ يناير 2011. ولأن الرؤيتين معا لم تتركا مساحة للحوار والتداول من أجل التقارب
وتحقيق المشترك، فقد اتسعت فجوة التباعد بين الرئيس وباقي القوى والأحزاب الوطنية
ومكونات النسيج المجتمعي، فأغلقت أبواب النقاش والحوار، فكان الحل مقاطعة مشروع
الرئيس برمته، أي عدم التصويت على الوثيقة الدستورية وتعديلاتها، وعدم المشاركة في
الدور الأول من الانتخابات التشريعية، الذي أجري في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2022،
ومن المنتظر أن يجري الدور الثاني في 29 كانون الثاني/ يناير 2023.
كان مقررا أن تجرى الانتخابات التشريعية في وقتها العادي سنة 2024، غير أن
الإجراءات الاستثنائية التي تمّ اللجوء إليها من قبل رئيس الدولة استنادا إلى
الفصل 81 من الدستور، فتحت الباب أمام مجموعة من الخطوات الاستباقية، ومنها صياغة
الوثيقة الدستورية، وإجراء الانتخابات التشريعية، وقبلها إصدار قوانين انتخابية
جديدة.
مشروع يروم التحكم في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، ولا يترك مجالا للتداول والتعبير عن الاختلاف في المجتمع التونسي، علاوة على كونه يوقف كل الممارسات الفضلى في مجال التعبير الحر عن الإرادة العامة، التي أطلقتها ديناميات التغيير التي حدثت من الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011
وكلها آليات دستورية وقانونية سعت مؤسسة الرئاسة إلى الإقدام عليها لشرعنة مشروع
الرئيس في إعادة بناء نظام سياسي جديد يجُبُّ ما سبقته من ممارسات وتراكمات..
والحقيقة أنه مشروع يروم التحكم في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، ولا يترك مجالا للتداول
والتعبير عن الاختلاف في المجتمع التونسي، علاوة على كونه يوقف كل الممارسات
الفضلى في مجال التعبير الحر عن الإرادة العامة، التي أطلقتها ديناميات التغيير
التي حدثت من الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011.
لم تتجاوز المشاركة في انتخابات الدور الأول، الذي جرى في 17 كانون الأول/
ديسمبر 2022، نسبة 11.22 في المئة، وهو رقم أكثر من ضعيف، في بلد يحتاج إلى مؤسسات
دستورية تصوغ إرادته العام وتعبر بصدق عن رهاناته وتطلعاته. ويبدو أن الدور الثاني
المنتظر أن ينظم في 29 كانون الثاني/ يناير 2023 لن يكون مغايرا عن سابقه، أو يشكل
حدثا استثنائيا، لأن الأسباب الداعية والمحرضة على ضعف المشاركة ما زالت باقية على
حالها ومستمرة ودائمة.
يُذكر أن هذه الانتخابات هي الخامسة عشرة في تونس، والرابعة بعد الثورة،،
ويُنتظر أن ينتخب خلالها مجلس نواب الشعب في مدته النيابية الثالثة.
يُفسر ضعف المشاركة في الانتخابات التشريعية التونسية بالأزمات المتتالية
التي ألمّت بالنظام التونسي وعرضت مؤسساته إلى التوتر والتجاذب المزمنين. لنتذكر الأزمة
الحاصلة في رئاسة الحكومة في أعقاب انتخابات 2019، حين اقترحت حركة النهضة"،
وهي الفائزة بـ52 مقعدا في البرلمان، "الحبيب الجملي"، ليكلفه الرئيس
"
قيس سعيد" في 15 تشرين الأول/ نوفمبر بتشكيل الحكومة، التي لم تحظ بثقة
البرلمان، فأعاد الرئيس في كانون الثاني/ يناير 2020 تكليف "إلياس الفخفاخ"
بتشكيل حكومة، وهو ما استطاع إنجازه بنجاح، حيث ضمت حكومته أكبر الأحزاب وأقواها
وزنا (حركة النهضة، تحيا تونس، التيار الديمقراطي، وحركة الشعب)، لتنال بعدها ثقة
البرلمان في 27 شباط/ فبراير 2020. لكن سرعان ما أطيح بها بسبب اتهام رئيسها
بالفساد، ليكلف بعدها وزير الداخلية "هشام المشيشي" بتشكيل حكومة جديد،
سيكون معظم وزرائها من محيط الرئيس ومقربيه، ومنذئذ دخل النظام التونسي دوامة
لأزمات.
كما أن البرلمان نفسه لم يكن متوفرا على الشروط اللازمة للقيام بأداء
مستقر، وفعال، ومتوازن. فقد انقسم بدوره إلى شقين، أحدهما معارض لحركة النهضة،
صاحبة الأغلبية، وآخر حليف لها. وبسب هذا التعارض الحاد بين طرفي البرلمان، أصبح
العمل بداخل المؤسسة التشريعية شبه متوقف، حيث غاب الانضباط الداخلي واحترام
التقاليد المألوفة في العمل البرلماني، وساد التراشق بالكلام والتهم المتبادلة
والكلمات النابية في حق رئيسه "راشد الغنوشي"، بل تمت المطالبة بإقالته
ومحاسبته.
هل ستحظى رؤية الرئيس المنتخب بالشرعية المطلوبة؟ وهل ستساهم في إنقاذ البلاد من الأزمات التي تراكمت عليها أكثر منذ العام 2019؟ لا تقنع مؤشرات الواقع بأن هذا سيحصل، بل كل المقاييس تدل على أن أزمات تونس تحتاج أولا إلى حوار وطني، جدي وصادق يعيد بناء الثقة في السياسة والسياسيين
ولعل أهم أزمة وأكثر سلبية الصراع الذي دار بين رئيس الجمهورية والبرلمان،
حيث لوحظ استحكام النهضة، صاحبة الأغلبية في البرلمان، في تدبير الشؤون العامة،
وتوجيه رئيس الحكومة "هشام المشيشي"، مما ولد شعورا لدى مؤسسة الرئاسة
بأن الرئيس المنتخب لم يعد له دور، وأنه هُمّش ويكتفي بختم القوانين ليس إلا. لذلك،
نجم عن صراع البرلمان ومؤسسة الرئاسة إلى تولد قناعة نهائية من قبل رئيس الجمهورية
بضرورة الاستعجال في تنفيذ رؤيته القاضية بإعادة بناء النظام السياسي التونسي على
فلسفة جديدة، وإفراز نخب سياسية وبرلمانية جديدة، تدين بولائها الكامل لرئيس
الجمهورية، وتختلف جذريا عن النخب الحزبية المألوفة، التي وجهة إلى معظمها اتهامات
بالفساد.
هل ستحظى رؤية الرئيس المنتخب بالشرعية المطلوبة؟ وهل ستساهم في إنقاذ
البلاد من
الأزمات التي تراكمت عليها أكثر منذ العام 2019؟ لا تقنع مؤشرات الواقع بأن
هذا سيحصل، بل كل المقاييس تدل على أن أزمات تونس تحتاج أولا إلى حوار وطني، جدي
وصادق يعيد بناء الثقة في السياسة والسياسيين، ويفتح لهم باب العمل الجدي والحر من
أجل إنقاذ البلاد مما وصلت إليه، ويُعطي لفئة الشباب، ذكورا وإناثا، وهي الغالبة
والوازنة في البلاد الأمل في أن بلدهم قادر على احتضانهم جميعا، وله كفاءة الاقتدار
لأن يوفر لهم شروط الاستقرار والعيش الكريم.