مثَّل
الأزهر على مدار تاريخه العريق ركنا من أركان
حضارة الإسلام بوجه عام، والسُّنَّة بوجه خاص. ورغم قيام مدارس دينية في ربوع
العالم الإسلامي، لم تَنَلْ مؤسسة مثلما نال الأزهر من مكانة، وربما كان هذا سبب
بقائه وخفوت باقي المدارس والمراكز الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها. صحيح أن
منهجية التدريس استمرت في الدول ذات الغالبية المسلمة، لكن معاهدها العلمية لم
تَدُم دوام الأزهر الشريف.
هذه المنزلة تعاظمت مع الزمن، ورغم سيادة المذهب الشافعي
في
مصر فإن أحنافا ومالكية كبارا أخرجوا كتبا معتمدة لمذاهبهم في رحاب مصر، قبل
الأزهر وبعده، مثل عبد الرحمن بن القاسم والقرافي المالكييْن، وأبي جعفر
الطَّحاويِّ والكمال بن الهمام وبدر الدين العيني الأحناف، فكانت المذاهب تُحقَّقُ
على أيديهم. وبالطبع لا يعني هذا احتكار مصر للعلم والعلماء، لكنه يشي بمكانة
الأزهر على مدار قرون متطاولة.
أدرك المستبدون على مدار التاريخ المعاصر لمصر خطورة
وجود مكانة لأي مؤسسة غير المؤسسة الإدارية التي تحكم، فجَرَت محاولات احتواء
الأزهر عبر تقييد مصادره المالية من الأوقاف، لكن الاجتراء الأعظم على أكبر مؤسسة
سُنِّية في العالم، جرى على يد الضابط متوسط الرتبة، جمال عبد الناصر، الذي اعتلى
حكم مصر في لحظة بائسة من تاريخها، فقام بالقضاء على نظام الوقف.
أدرك المستبدون على مدار التاريخ المعاصر لمصر خطورة وجود مكانة لأي مؤسسة غير المؤسسة الإدارية التي تحكم، فجَرَت محاولات احتواء الأزهر عبر تقييد مصادره المالية من الأوقاف، لكن الاجتراء الأعظم على أكبر مؤسسة سُنِّية في العالم، جرى على يد الضابط متوسط الرتبة، جمال عبد الناصر، الذي اعتلى حكم مصر في لحظة بائسة من تاريخها، فقام بالقضاء على نظام الوقف
يقول الدكتور إبراهيم البيومي غانم في مقال "تفكيك
أصول الأوقاف في الخمسينيات والستينيات": "لقد كانت محصلة الإجراءات
التي اتخذتها ثورة يوليو بخصوص الأوقاف من سنة 1952م إلى سنة 1957م هي إدماج جميع
الأوقاف الخيرية ووضعها تحت إدارة مركزية واحدة ممثلة في وزارة الأوقاف؛ التي أصبح
لها -بقوة القانون 247 لسنة 1953- أن تُغير مصارف تلك الأوقاف؛ بحجة توجيهها إلى
جهات بر أَوْلى من تلك التي اشترطها مؤسسو الأوقاف أنفسهم. وكان هذا الإدماج مقدمة
لتفكيك أصول الأوقاف من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية والأراضي الفضاء،
وحرمان وزارة الأوقاف نفسها من ريع الأوقاف. ونتيجة لذلك كان من السهل توظيف -أو
تسييس- نظام الأوقاف بكل طاقته الرمزية والمادية، لدعم السياسة العامة التي
انتهجتها السلطة الثورية في الداخل والخارج في عقدي الخمسينيات والستينيات".
ثم قام عبد الناصر بحلِّ هيئة كبار العلماء عام 1961،
وكانت قد أُنشئت عام 1911، ونَقَلَ اختصاصاتها إلى مجمع البحوث الإسلامية، ثم بعد
نصف قرن من تعطيلها عادت الهيئة بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وأصبح من أهم
اختصاصاتها "انتخاب شيخ الأزهر عند خلو منصبه، وترشيح مفتي الجمهورية من بين
أعضائها".
عانى المستبد الجديد من عافية الأزهر في السنتين ونصف
خلال فترة الثورة حتى انقلابه الدمويِّ، فقد كان الأزهر محطَّ النظر عند الخلاف،
فصدرت وثائقه الخَمْس، لدعم الشعوب العربية، وإزالة الإشكالات في القضايا
الداخلية، وقام الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد بزيارة المشيخة، لكن أبرز ما
أعطى للأزهر عافيته كانت عودة هيئة كبار العلماء، والنَّص على قيامها بانتخاب شيخ
الأزهر، ليخرج شيخ الأزهر من عباءة السلطة إلى رحاب أقرانه من كبار العلماء.
شيخ الأزهر انحاز لما يؤمن به، ولم ينخرط في توجهات النظام الدموية، ولا الدينية. وفعل الشيخ ذلك من مُنطلق إيمانه باستقلال الأزهر، لا باعتباره معارضا سياسيا، أو شخصية تستهدف الضوء
يرى ضئيل الحجم والمكانة، أنه مسؤول عن كل شيء في الدولة
حتى دينها، وقال خلال فترة ترشحه للرئاسة عام 2014: "أنا مسؤول عن القيم
والمبادئ والأخلاق والدين"، ولك أن تتخيل قيمَ ومبادئَ وأخلاقَ ودينَ صاحِبِ
كشوف العُذريَّة، وأكبر مذبحة ضد المدنيين في تاريخ مصر، وقد كان في بداية خطواته
نحو نهر الدماء يجد خطابين من أصحاب العمائم، أحدهما يقول "اضرب في
المليان"، والآخر يدعو إلى الحوار ونبذ الدماء، ويبرِّئ الأزهر من الدماء
التي تسيل، فمَالَ المستبد إلى الأول، وعَادَى الرجل "الطَّيِّب".
أدَّى تصوُّرُ صاحبنا عن حجم قدراته إلى عبثه بكل شيء؛
عبث بالسياسة، والاقتصاد، والروابط الاجتماعية، ومقومات العدالة، وأراد العبث
بالدين كذلك، وكان مع عبثه يجد داعمين له في كل خطواته، ومنهم شيخ الأوقاف، ومفتي
النظام. لكن شيخ الأزهر انحاز لما يؤمن به، ولم ينخرط في توجهات النظام الدموية،
ولا الدينية. وفعل الشيخ ذلك من مُنطلق إيمانه باستقلال الأزهر، لا باعتباره
معارضا سياسيا، أو شخصية تستهدف الضوء. وهذا الصدق الذي يلمسه كثير من المصريين في
حديثه، وتوجهه نحو الحفاظ على دينهم وقيمهم، يكفيهم دون تَغَيِّي تحوُّل الشيخ أو
الأزهر إلى حزب معارض، فالمصريون يحملون الودَّ لمن يَصدُقُهم دون غاية باطنيَّة،
وهذا ما افتقده معظم الساسة المصريين في السلطة والمعارضة.
الدور المنوط بالأزهر يستدعي أن يرفع الجميع يده عنه، سلطة ومعارضة؛ فالسلطة تطالبه بممالأتها، والمعارضة تطالبه بالوقوف في وجه السلطة كما تريد، والمصريون لا يريدون من الأزهر سوى أن يحفظ عليهم دينهم، لا أن يكون أداة في أي صراع، أو خادما لأي جهة سوى النصوص والتراث، مع مواكبة تجدد الوقائع والأقضية
الدور المنوط بالأزهر يستدعي أن يرفع الجميع يده عنه،
سلطة ومعارضة؛ فالسلطة تطالبه بممالأتها، والمعارضة تطالبه بالوقوف في وجه السلطة
كما تريد، والمصريون لا يريدون من الأزهر سوى أن يحفظ عليهم دينهم، لا أن يكون
أداة في أي صراع، أو خادما لأي جهة سوى النصوص والتراث، مع مواكبة تجدد الوقائع
والأقضية. رغم أن رفض الظلم أمر منوط بكل ذي شأن، لكننا في زمن غير مسبوق
الاستبداد، فلا نريد أن يتم سحق المؤسسة بأي ذريعة، وتكفي الأزهرَ وظيفتُه الدينية
التي يقوم بها الآن بصورة مرضية، فضلا عن أنه لم ينخرط إلى بذاءات السلطة والجهات
الدينية الأخرى، فلا نجد بيانا من الأزهر يذكر تيارا دينيا باسمه، ولا نجده يقف مع
رأس السلطة في طلباته الدينية والاجتماعية المعارضة للنص الديني.
منذ رفض الأزهر وشيخه الدماء التي ابتدأها
السيسي في 8 تموز/
يوليو 2013، ومحاولات الأخير لا تتوقف لإحكام سيطرته على المؤسسة، بعدما استأنس
الأوقاف والإفتاء. وإشكال هذا السعي ليس في مجرد الشيخ الطيب، مع كامل التقدير له،
لكن الإشكال في تدمير ما بقي من معالم الحضارة في مصر بعدما أتى عليها المستبدون
العسكريون، والإشكال في إرادة إفساد مَعَادِ الناس بعدما أفسدوا معاشهم، والإشكال
في عدم تقدير أهمية مكانة الأزهر الذي ساهم في بناء لبِنات للثقافة الإسلامية،
بعدما أَحْكَمَ السياج حول شريعة الإسلام، والإشكال في خفض القيمة المعنوية لشيخ
الأزهر وهو رمز للمنارة التي يفِدُ إليها المسلمون من أقصى الأرض للتعلُّم، وفوق
كل هذه الإشكالات، لا يليق ببلد فيه الأزهر أن تحكمه عُصبة كهذه.