في شهر
كانون الأول/ ديسمبر عام 2022، قدمت خشبة
مسرح دوار الشمس (
بيروت) عرضا للمُخرج والمسرحي
السوري أسامة غنم بتنظيم من مؤسسة المورد الثقافي، بعد غياب للمسرح السوري عن خشبات
بيروت لفترة طويلة، حيث عرض أسامة غنم مسرحيته من تأليفه وإخراجه بعنوان "شمس
ومجد" لتقدم نموذجاً مختلفاً عن العروض المسرحية في لبنان اليوم. حكايا لسبع شخصيات
تطحنها البلاد، عبر أسلوب أدائي غاب عن خشبة دوار الشمس لفترة طويلة، مع عرض استمر
لثلاث ساعات ونصف بدراما كثيفة تضم تفاصيل الحياة اليومية في دمشق، دراما عالجت الكلام
اليومي (الحكي) ليصبح جوهر العرض.
شمس
ومجد للوهلة الأولى، يبدو كشعار مستهلك يحيلنا لرمزيات ثابتة وخطب سياسية فارغة تملأ
ذاكرتنا، إلا أنه اسم لأختين تعيشان صراعات الحياة اليومية في دمشق بين أحلامهما ورغباتهما،
وبين واقع الحياة الذي يطحن الإنسان ويستنزفه. مجد طالبة ماجستير في علم الاجتماع،
تعمل نادلة في مقهى برفقة زميلها طارق الشاب الدمشقي البسيط والساذج كما تراه، حيث
تشعر أنه انعكاس لرؤى مفكرها المفضل مصطفى حجازي في كتاب "سيكولوجيا الإنسان المقهور"،
طارق العادي كاسمه الشائع الذي يحيا على فتات الطبقات الأعلى الغير مدرك لمعاناته وقسوة
حياته، هو الإنسان العادي المنتشر في كل مكان بالنسبة لمجد التي لا تزال تحاول أن تفهم
الواقع من حولها ليكون أشدّ قسوة من قدرتها على استيعابه، حيث يشكل لها خيال طارق وسردياته
صورة مشوهة وغير متطابقة عن الحقيقة، يجسد طارق بالنسبة لها ثنائية السيد والعبد، مجد
التي تراه خانعاً لسلطة كلٍّ من الزبائن ورب العمل، يتعامل مع ألمه بالنسيان والهروب
بين حارات دمشق ومطاعمها الشعبية الرخيصة، أشبه بميت أبدي في فندق النسيان الذي قضى
فيه عدّة ليال هارباً من حياته، ليعود لحياته البسيطة الهادئة التي تتلخص ساعات الفرح
فيها مع فيلم لميازاكي.
أما
شمس الفتاة الحالمة بأن تصير ممثلة وتقبل في المعهد العالي للفنون المسرحية، التي تمضي
جلّ الوقت الإضافي من يومها في ورشات إعداد الممثل استعداداً للتقديم على امتحانات
المعهد، لتعمل باق اليوم في بار لصاحبه مارشميللو العالق بين الماضي والحاضر، والذي
يستعيد لمحات من تلك الحياة التي غدت بعيدة، يعيش على القصص والموسيقى وذكريات من رحل
من سافر ونسي البلاد.
بار
مارشميللو، مساحة للقاء لتبادل الآلام والأحلام، يستقطب زواره الدوريين منهم جوليا
الممثلة خريجة المعهد التي حاولت شمس مجاراتها لتنكسر أمام قسوتها، جوليا التي غيرتها
المدينة لتقتفي الطريق الأكثر شيوعاً للشهرة وتصبح ممثلة دراما عربية تسافر إلى دبي،
وتحصل على الإقامة الذهبية التي أصبحت طوق نجاة من البلاد للعديد من الشباب، على العكس
من زميلها خوليو الممثل المؤمن بدور المسرح في مكان لا يؤمن بشيء، خوليو الذي حوصر
في ضاحية جرمانا قرب دمشق، تلك الضاحية العشوائية التي تأوي أكثر من تعداد سكان العاصمة،
بؤرة الفوضى. جرمانا تمثل سوريا مصغرة فجة بكل عنفها ووقاحتها، خوليو يستقر بها ويدرس
في معهد للتمثيل ويعد فيلماً مقتبساً من رواية همنغواي "التلال البيضاء"
لتسخر منه جوليا وتحطم أحلامه الغير واقعية في هذا الزمن، أحلام بالنسبة لها طفولية
ولا تصلح لهذا الزمن.
تنسل
الحميمية إلى تفاصيل الحياة اليومية، عبر الإفصاح وعبر حساسية التعامل مع المدينة والمكان،
تُستعاد العائلة كسلطة والعائلة كأمان عبر استرجاع صورة الأب الغائب لدى الشخصيات،
لدى
شمس ومجد بحنانه وطيبته، لدى مارشميلو بالكحول وحبه للحياة لدى جوليا بالسلطة،
يهيمن الأب ويهيمن معه الشعور بالفقدان والحاجة له. يُستخدم الطعام لتوصيف علاقة الإنسان
مع دمشق اليوم، عبر العبور على تشكيلة من أنواع وطبقات الطعام، لكلٍ طعامه وسط هذا
الخراب، لكل طعام سرديته وشكله الاجتماعي الخاص، من طعام جوليا الجديد الذي تبلغ تكلفة
وجبة منه راتب موظف حكومي، إلى خبرة طارق في اكتشاف الأطعمة الشعبية ومعرفة الأكثر
وفرة ولذة.
مساحة
للتلصص على ألمنا:
الكل
محاصر، في مدينة تحتضر يضيق كل شيء حد الاختناق، ينساب هذا الاختناق للمتلقي، علاقة
حب غريبة مع مدينة قاسية، علاقة عنيفة مدمرة، القسوة تملأ العرض من العلاقات الشخصية
إلى العلاقة مع المكان صراع دائم صراع مع الواقع والحلم أو المتخيل، صراع مع العالم
مع حقيقة هذا العالم مع المبادئ والقيم مع الرغبة وما وصلنا إليه، جوليا طالبة التمثيل
التي سارت على خطى فكرة "النجم الصاعد" وحياة السوشيال ميديا التي تكتسح
هذا العالم، هذه الحياة الغريبة عن هذا المكان اقتحمته ككيان مشوه كيان ينفي قسوة الواقع
وينكرها، يجمل حياتنا الفجة بشكل هزلي، البلاد أقوى من هذا الكيان الدخيل و أقسى وأعنف
منه، البلاد أقوى منا، هذه البلاد المضحكة المظلمة، هذه البلاد البائسة المذهلة.
نقلت
خشبة مسرح دوار الشمس نموذجا وصورة مصغرة مكثفة عن البلاد، عن تلك البلاد التي تبعد
عن وسط بيروت قرابة الثلاث ساعات بالسيارة، هذا المشوار الذي صار بعيد المنال عن شريحة
من جمهور العرض البعيد عنها، العالق في لبنان كممر ومعبر طالت مدّة الإقامة به. مدهوشينَ
أمام صورة بانورامية عن يوميات الحياة في دمشق، كان فضاء المسرح مكاناً يلّم حواديت
وتفاصيل شخصيات تعيش يومها في دمشق، أفعال روتينية وأيام اعتيادية لدرجة السأم مصاغة
ضمن قالب درامي مكثف قام بطحنها وتكثيفها لأقصى درجة، صانعا من العادي دراما شديدة
التماسك، أعادت إنتاج اليومي وسط مكان وزمان مثقلان بالبؤس.
كان
للعرض أثر فجّ وقاس على المتلقي السوري في لبنان، على عكس زيارات المسرح التي اعتاد
الجمهور الخروج منها للحديث وتبادل الأفكار، كان الصمت والاستغراق حالة لا يمكن تجاهلها.
أفكار كثيرة تمرّ على البال، ليس بسبب نوستالجيا ثقيلة فقط، بل شعور بالفقدان، شعور
بالبعد، وشعور بالامتلاك، حيث امتلك المتلقي ذاك البؤس، هذا البؤس كان خاصاً به وكأن
السوري في لبنان عالق في فندق النسيان وجاء العرض كصحوةٍ. بؤس لم يتعامل معه إلى اليوم
بشكل حقيقي، أصبح منسياً بمكان عميق في الذاكرة استطاع العرض نبشه.
ألم
يحصل هذا كله؟ ألم نعش هذا كله، لقد سرنا على هذه الطرقات وكنا في ذاك البار لقد عشنا
هذا الخراب وأغرقنا نفسنا بالكحول والبكاء هرباً منه، لقد عرفنا ظلام المدينة وقسوة
البلاد، بكينا عند توديع الأصدقاء ضمن طقس السفر الدائم حتى أصبحنا من سافر، كم وددنا
أن نسير من مسرح الحمرا أو القباني مروراً بالشعلان أو ساروجة، مكملين بجوار سور القلعة
نفكر بعرض شاركنا ألمنا، كم رغب بعضنا أن يشاهد العرض في المعهد ليسير متأملاً من ساحة
الأمويين على ضفة نهرنا البائس، خرجنا من العرض وسط مدينة ليست لنا، لقد امتلكنا العرض
وتملّكنا.